جماليات لحن .. جبل التوباد
لكل تعبير من مستويات حديث النفس شروطاً وتقنيات فى الكتابة وفى الاداء التمثيلي يحقق عن طريقها كل مستوى أثره الدرامي والجمالي، وإن ظهرت المبالغة في أداء كل منها.
غير أن الغناء هو الانسب لأدائها باستثناء الجانبية (الوشوشة المسرحية)لأنها إسقاط ذهنى عقلى بحت، بينما نجد المونولوج والغلبة فيه للشعور أمام العقل فى تحقيق الإرادة بينما الغلبة هى المناجاة من حيث الانفراد بالخطاب هى للمشاعر وحدها فى نعيها على انكسار إرادتها والغناء هو التعبير المناسب لأحاديث البوح.
وفى أداء "عبد الوهاب" للمونولوج الدرامى فى مسرحية (مجنون ليلى) تتجسد مشاعر قيس فى حديثه المنفرد مع جبل التوباد، إذ يتخذ من الجبل (رفيقاً خيالياً) يخصه بالبوح إسقاطاً لما فى نفسه من حزن وأسى عميق، يخجل العربى البدوى من التحدث به أمام إنسى. والموقف نفسه خارج عن نطاق الصورة الطبيعية وإن كان محتمل الحدوث فى عالم الإنسان فى حالات مخصوصة أو نادرة الحدوث – أحياناً – لذلك فأداؤها لا يبتعد عن صور المبالغة والتكرار والتماثل والايقاعات البطيئة الناعمة التى هى اقرب الى الصوت المهموس، لأن الشخصية فى حالة بوح واعتراف أمام الطبيعة فالجبل هنا بمثابة حائط مبكى (قيس) دون أن تشذ عن هذا الجو إطالة "عبد الوهاب" فى مقطع من المونولوج أو فى علو نبره فى مقطع آخر لأن الغناء يتم فى مكان مفتوح، فهو وحده أمام الطبيعة ومن ثم فهو ملتزم بشروطها وهو فى ذلك الموضع بسماواته المفتوحة يمتلك زمام الأثير، فما الذى يمنعه من أن يذيع خطاب بوجه للكون كله فالريح هنا مسخرة لصوته، كما أن مادة المونولوج (الخطاب الدرامى) تساعده على الإطالة فى بعض المقاطع بما فيها من حروف المد بجانب إحساسه بأنه الأثير مسخر له. كما انه مطالب بجمالية البوح فى الموضع الذى شهد مولد غرامه بليلى، خاصة وأن الطبيعة نفسها جميلة وتشاركه فى عملية البوح للنفس عبر الرياح والنسمات المحملة بأريج الزهور البرية لذلك يتشارك معها قيس بصوت عبد الوهاب وموسيقاه التى تشكل المعادل النغمى لبوح الطبيعة من على سفح الجبل، بموسيقى هى حفيف الهواء الرقيق الناعم التى عبر عنها اللحن للإيحاء النفسى والتخييلى بالمكان (الجبل) فى وقوف قيس الحائر والغارق فى الذكرى وحالة افتقاده لليلى، حيث جسدت الموسيقى التهيئة النفسية أمام الشخصية (قيس) ومهدت له مدخلاً نفسياً للبوح والاعتراف قبل أن أن يوجه تحته لمضيفه الذى فرض نفسه ضيفاً عليه دون أن توجه إليه دعوة!! ولقد أدى تكرار المقطع الصوتي لبعض الجمل اللحنية إلى توكيد حالة الفقد التى يعيشها قيس. والتكرار عنصر من العناصر التى تسهم فى ترسيم جمالية التعبير فى الصورة الفنية بالإشباع والتوكيد، ولصنع تقنيات التظليل، كما هو الحال فى اللوحة التشكيلية. وذلك أقرب ما يكون إلى الشيء وظل الشيء، فتكرار مقطع موسيقى أو جملة موسيقية – عند صمت الغناء – وفق التوزيع الموسيقى وأصوله – هو تظليل تأثيري فالجمل الموسيقية البسيطة انبساط الصحراء وثقافتها والتى تشكل شكلاً من أشكال الوصل بين مقطع غنائي ومقطع غنائي تال له هى ليست بمثابة جسر اتصال بين مقطع وآخر فحسب ولكنها معادل موسيقى لأصوات الطبيعة فى ذلك الموضع المنعزل عن الارض وعن السماء، كما لو كان جزيرة فى الفضاء العريض. وهو بمثابة الطرف الآخر فى حوارية طرفها الأول هو قيس وطرفها الثانى (المسكوت عنه) هو الجبل قائداً لجوقة الطبيعة بنسمائها وأريج زهور أعشابها وهسيس كائناتها وعصف رياحها فى تفاعلات هارمونية.
إن التكرار الموسيقى لجملة أو لمقطع لحنى هو تظليل يستهدف خلق مصداقية المكان والجو النفسي للبيئة. كما ان تبادل المواقع فى فضاءات التعبير الصوتي عند الأداء الغنائي واللحني للمونولوج يخلق حالة التنويع عبر إيقاعات اللحن من حيث السرعة والشدة واللين وتهيئة آذان التلقى لاسترجاع ذكرى مماثلة لذكريات المؤدى (قيس) بأداء عبد الوهاب، بالإضافة الى تأمل الحالة وتخيل صورة لمكان لقاء خاص بالمتلقي – الذى تتقارب حالته مع حالة (قيس) بديلاً عن الجبل الذى تصور أجواءه موسيقى اللحن فى لحظات صمت المغنى، وتجسد حالة خفيف الرياح بالحواف الجبلية فى اندفاعها الناعم ما بين الوهاد فى اتجاه السهول، والموسيقى هنا تصور ايضاً خلو المكان من الانسان.
وتتضافر الموسيقى واللحن مع الصورة الاستعارية التمثيلية للعب الطفولى الذى يصور الشاعر فى المونولوج حيث يسترجع قيس صورة لعبة طفلاً مع ليلى ببناء بيوت واحياء من الحصى، وما ترمز اليه الكلمات فى البيت الشعرى وما تصوره الموسيقى من حالة خواء تلك البيوت الوهمية المسترجعة للعب الطفولة من الناس كما يوظف الصوت اللحنى عبث الطفولة بالرسم والتخطيط على الرمال دون وعى من المخططين (قيس وليلى) – ربما – بماهية الخطوط ووظيفتها ودلالاتها ودون وعى من صفحة الرمال نفسها – بالطبع- تدليلاً على صدق المعايشة البريئة المتطلعة الى المستقبل مبكراً فى جملة مكثفة تشخص التجريد فى الخط على الرمال فى حالة من الوجد الطفولى البريء. بما يكشف عن أن الطفل هو الوحيد القادر على اللعب بالطبيعة ولا يشاركه فى ذلك سوى العالم والفنان فى حين ان الطبيعة هى التى تلعب بالبشرية كلها.
تحليل الصورة الجمالية فى لحن (جبل التوباد):
توحى موسيقى المطلع قبل الغناء بالمكان، فهى تحيل المستمع الى أجواء الصحراء، وحركة سير الإبل تجسدها الوحدة الإيقاعية المتتالية، كما توحى بالجو النفسى الذى تشيعه حالة السكون، الذى لا يقطعه سوى صرير الرياح.
تركيز الصوت اللحني على لفظة "التوباد" دلالة على عظمة قدر هذا الموضع فى نفس (قيس) وعلى أمله المعقود عليه وطول عشرته فيه.
وما الإطالة فى أداء (حياك الحيا) إلا للتدليل على صدق المعاشرة والمحبة والدعاء بطول البقاء، لأن (الحيا) وهو المطر أعظم ما يدعو به الأعرابى أو ساكن الصحراء لمن يحب وما يحب والتعبير هنا مناط قول، لذلك تعمل الإطالة على وضع الجملة (الدعاء) موضع التوكيد التعبيري والتأطير الزمنى المناسب لصدق الدعاء. إلى جانب مراعاة الوزن الموسيقى من الناحية التقنية قطعاً.
فى انتفاعه بخواص المد فى إطالة زمن الأداء الصوتى للفظ الجلالة فى دعائه للجبل ولذكرى صباه مع ليلى "وسقى الله صبانا ورعى" للتعبير عن القداسة والإجلال والإيمان المطلق بالقدر راجياً ألا تبهت صورة طفولتهما البريئة فى هذا الموضع. وهو فى موقف ضعف. وهو كذلك يوظف حرف المد فى لفظة (صبانا) توظيفاً ملائماً فى طوله الزمنى لأن الصبا محبب إلى نفسه، وهو ما عاد الى مواضع الصبا إلا لكونه افتقد الحاضر مع محبوبته، ومن ثم فإنه فى رحلة بحث فى الماضى عبر مكان النشأة العاطفية تعريضاً أو تسلية عن حالة الفقد. وما كان تكراره لتلك الصورة فى إعادة غنائه للبيت نفسه بنفس الطاقة النغمية إلا نوعاً من التوكيد على إحساسه بحالة الفقد، وهو فى الوقت ذاته يترسم البعد الجمالى.
فى إطالته للجملة اللحنية "ورضعناه" للتدليل على امتلائه بالحب ورسوخ عاطفته فى نفسه.
ولتأكيد فضل (الجبل) فى ترعرع ذلك الحب عبر لحنياً عن ذلك فى جملة (فكنت المرضعا)
انتقل الملحن (عبد الوهاب) من الايقاع البطيء الى الايقاع السريع، والمتراقص طرباً. فى كل من البيت الثالث:
وعلى سفحك عشنا زمناً ورعينا غنم الاهل معاً
والبيت الرابع
وحدونا الشمس فى مغربها وبكرنا فسبقنا المطلع لأنه يسترجع عبرهما ذكريات سعيدة هى ذكريات الطفولة والمرح والانطلاق لذا يتغير الايقاع بتغير حركة المشاعر المسترجعة. كما انه يتذكر هنا فى هذين البيتين تفصيلات حبهما ، ففى البيتين تفصيل بعد إجمال لإظهار روعة الحب الذى كان بينهما وذكريتهما على ذلك الموضع، غير أن هذه السعادة المسترجعة عبر التذكر سريعاً ما تبهت.
يعود البيت الخامس الى الايقاع البطيء مرة أخرى للفت السامع الى ان فرحته أقصر زمناً مما يجب وأنه إنما كان يسترجع ذكرى ماضية فحسب. كما أنه يركز على موضع بعينه، هو يتأمل ما كان ولذا يتنوع النغم لانتقاله من مرحلة عمرية الى مرحلة عمرية مغايرة حيث يصور تدرج التنغيم الصوتى نحو نبر اعلى بدرجة او درجتين ما بين تصويره لعبارة "كم بنينا من حصاه أربعاً وتصويره لعبارة وانثنينا فمحونا الاربعا صعودا فى النبر التنغيمى اللحنى الى عبارة وخططنا فى نقا الرمل فلم تحفظ الريح ليقطع الصوت اللحنى بشرطه موسيقية اعتراضية تفيد انتقاده لسوء فعل الريح ليصلها بالصوت اللحنى فى نبر اعلى درجة وحدة فى تعبيره عن عبارة "ولا الرمل وعى "ليرقى بالتعبير اللحنى الى مرحلة الاتهام – اتهام الريح والرمل كليهما بالتعدى على خصوصية المحب العاشق وحقه السرمدى فى التعبير عن مكنون عشقه بالطريقة التى يراها. وللدلالة على تشديده فى مؤاخذة الرمل وتغليط اتهامه له يكرر التعبير اللحني نفسه (ولا الرمل وعى) بنفس الطاقة النغمية. ولتأكيد ظاهرة طبيعية يسجلها على اجتماع الريح والرمال ففى اجتماعهما المتفاعل اندثار لمخططات البراءة العاطفية فى فضائهما المتغير، وفى ذلك يختبىء المسكوت عنه وهو المستقبل، مستقبل هذين العاشقين، لأن فى محو الرياح لمخططاتهما الطفلية على صفحة الفضاء الرملى هو استشفاف مبكر لما سيؤول إليه حالهما فى الكبر حيث افترقا. وهل هناك أفضل من الاستشفاف المستقبلي فيما يبدع الشاعر أو الاديب او الفنان؟!
ومع ان التكرار تظليل تعبيرى عن حالة الاداء الغنائى وتظليل تأثيري حالة الجمل الموسيقية فى فضاء ما بين مقطع صوتى غنائى ومقطع غنائى تال له، إلا أن الجملة الموسيقية التى تفصل ما بين تكرار عبد الوهاب لعبارة "ولا الرمل وعى" والبيت الثانى عشر "لم تزل ليلى بعينى طفلة" هو فاصل قصد به الملحن التعبير عن الخروج من حالة الاتهام الناقد لسنن الطبيعة ومظاهرها إيماناً بانعدام الحيلة إزاء ذلك كما أن هذه الجملة اللحنية هى تعبير عن انقضاء فترة زمنية تفصل حالة انفعال (قيس) عن حالة استيعابه للدرس. ولأن الشخصية تضع نفسها موضع التقرير فى تصويرها الذى يوقف الزمن أمام نظرتها لليلى:
تعقيب أخير:
وفق المخرج عزيز عيد عندما أخرج هذه المسرحية (مجنون ليلى) فى تصوره لأداء بعض المواقف الدرامية التي رأى ان أداءها يناسبه الغناء اكثر مما يناسبه التمثيل ومنها حوارية :"من الهاتف الداعى أقيس أرى؟ ومنها مونولوج جبل التوباد مع ان اسلوب إخراجه للمسرحية كان اسلوبا طبيعيا اذ صنع على المسرح تلاً رملياً حقيقياً وغرس فيه اشجار النخيل ووظف الإضاءة لتعكس ليل الصحراء فكانت سيقان (احمد علام) ممثل دور (قيس) فى الثلاثينيات من القرن العشرين وسيقان (فاطمة رشدى) ممثلة دور ليلى وبقية الممثلين تغوص فى الرمال فى اثناء سيرهما على المسرح عند عرضها على خشبة المسرح (سينما الهمبرا) بمنطقة محطة الرمل بالإسكندرية.
هدم المسرح فى مطلع الثمانينيات وبيعت أرضه لثرى خليجى حوله الى خرابة.
المصدر / جريدة مسرحنا
بتاريخ 19-9/2011
بقلم/ د. ابو الحسن سلام
ساحة النقاش