إن التأثير المتبادل بين الشعر والفن التشكيلي  له تجليات عديدة وعميقة وممتدة منذ آلاف السنين ، سواء على صعيد البنية أم التكوين من منطلق أن إحدى أهم سمات العمل الفني أو التكوين المتميز هو أنه يوحي لأكثر من وسيط إبداعي مختلف ،بأكثر من عمل فني آخر ، لأن الإبداع في فن من الفنون لابد أن يدفع المبدعين في الفنون الأخرى إلى المزيد من الإبداع ، ومن هنا فإن الصورة والقصيدة يمكن أن توحي كلتاهما بعدد من الدلالات متبادلة التأثير بقدر ما يتاح لهما من قراءات ، وهو ما ينعكس تحفيزا وتطويرا وتجريبا على الفنون والآداب معا، إبداعا وتنظيرا وأطروحات نقدية ،سواء اتخذت هذه العلاقة بين الشعر والفن التشكيلي خطوطا متوازية أم تبادلية أم تفاعلية ،فإنها تنصهر في بوتقة العلاقة الأكبر بين الفنين، علاقة "التأثير والتأثر "

هذه هي الرؤية الفنية التي رأى بها الدكتور السيد رشاد أعمال الفنانة التشكيلية المصرية "حياة النفوس" في كتابه الذي أصدره في طبعة فخمة بعنوان : "زهرة المندلية ...حياة النفوس"  التي استطاعت وبعين فنانة موسوعية أن توظف مقطوعات شعرية داخل نسيج اللوحات الفنية.

وحياة النفوس فنانة تشكيلية مصرية ولدت في بدايات القرن العشرين عام 1926 ، وتوفيت عام 2006 ، ورغم المكانة الرفيعة التي حققتها فنيا في المشهد التشكيلي طوال مسيرتها الإبداعية ،فإنها لم تنل قدرها من الاهتمام اللائق ، لكونها إحدى رائدات الفن التشكيلي المصري ، ورغم تلك المسيرة الإبداعية والفنية التي امتدت لمدة ثمانين عاما ، ورغم ما حققته من إنجازات سواء على مستوى الداخل المصري أو العالمي إلا أن أحدا من المؤرخين الفنيين أو نقاد الفن التشكيلي  لم يتطرق إلى مسيرتها الفنية والوطنية الطويلة ، لذا آثر الناقد  السيد رشاد أن يستكشف عالمها الزاخر ، وحين بدأ رحلته مع فنها أصابه الذهول من القيم الجمالية والفنية التي تميز بها إبداعها ، والتأثير الذي تركته في المشهد التشكيلي المصري ، والدور البارز لها في بدايات  الريادة النسائية ،ونتساءل معه ما الذي أدّى إلى تجهيل تلك الفنانة التي وصفها الفنان محسن شعلان في تقديمه لكتاب "زهرة المندلية...حياة النفوس " بأنها فنانة من طراز عتيد ،تملك ناصية الفن وتحكم مفرداته وعناصره وأدواته إحكاما رصينا واثقا ،فهي رسامة بارعة ،تحمل سمات جيل من الرواد وفرسان الفن التشكيلي المصري ،وهي أيضا ملونة فائقة في عالم المائيات ، وربما ساعدها على ذلك رقة شخصيتها ، ونعومة وجدانها ، وطهر خيالها الذي وجد في عذوبة الماء عالمه الفسيح الذي ارتوى منه ،صبغه بلمسات حثيثة دافئة ، شكلت لوحات وأعمالا في غاية الرقة والتمكن. 

 

يندهش قارئ كتاب السيد رشاد " زهرة المندلية " حين يكتشف أن تلك الفنانة المجهولة أو المُجهَّلة  عمدا كانت ابنة أسرة من أثرياء مصر في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ، ورغم ثراء طبقتها إلا أنها انحازت في إبداعها وفنها إلى البسطاء والمهمشين ، وتجولت في القرى والنجوع حتى النوبة جنوب مصر  ،وكانت من أوائل من رصدوا بريشتهم قبائل البشارية ، ومعالم النوبة القديمة.

كذلك شاركت حياة النفوس في معارض  تشكيلية دولية في إيطاليا وروسيا وتركيا وبلغاريا وقبرص وأسبانيا واليونان ورومانيا وفرنسا . كما أنها حصلت على جائزة شرفية من بينالي فينسيا عام 1954 .

والغريب والمثير للتساؤل تجاهل وزارة الثقافة المصرية لرائدة من رائدات الفن النسوي في مصر رغم أنها كرَّست حياتها وريشتها لحفظ الذاكرة المصرية بصريا ، عبر موضوعاتها عن الريف المصري والوجوه السمراء ، ونهر النيل ومعالم البحر الأحمر وسيناء ، والصعيد ، مما جعلها صاحبة مشروع فني شديد الثراء والاتساع ، استمر على مدار ستة عقود ، ربما لم يعرف المشهد التشكيلي المصري مشاريع كثيرة مناظرة له في حقبه المختلفة .

كانت حياة النفوس في أعمالها التعبيرية أكثر قدرة على استشعار الدور الوطني للفنان ،حيث جعلت فرشاتها في خدمة القضايا الوطنية ومقاومة العدوان والاستعمار ،لتصبح أعمالها اقرب إلى تأريخ بصري ـ تشكيلي للحالة المصرية بأبعادها السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية ، إيمانا منها بأن الفن التشكيلي سيظل في أحد أدواره المهمة هو مرآة ـ لا تعرف التزييف ـ تعبر عن المواقف الوطنية الحاسمة ، واللحظات القومية الفارقة ، وقد نجحت  في ذلك نجاحا كبيرا عبر أعمالها التعبيرية التي صورتها من منظور إبداعي ـ رؤيوي، فني ، اجتماعي ، سياسي ، وطني ، تقني ، تقدمي دون فواصل واضحة ، فكل ما هو فني يتداخل في كل هذه الرؤى .

لكن هذه الرؤية العضوية التي تعرف للمثقف العضوي دوره في خدمة الأوطان لم تمنعها من تبني القيم الفنية والجمالية في المشروع التشكيلي من خلال قيم فنية ذات صبغة إنسانية عامة ، وعيا منها بأن الفن التشكيلي هو أكثر أنواع الفنون، إلى جانب الموسيقى كسرا لحواجز الجغرافيا ، واللغة ، والفوارق الحضارية والثقافية ، وقد تحقق تواصلها الفني مع العالم عبر إبداعاتها ذات المنظور الإنساني خصوصا أعمالها التي تأثرت فيها بفنون الشرق الأقصى مثل لوحة " الحديقة " حيث لامست روحه وثقافته عبر أداءات تشكيلية مفعمة بالرهافة والبذخ الزخرفي التشكيلي، كما تجسد ذلك أيضا لوحاتها التي رسمتها فى رحلاتها لبعض معالم دول المتوسط مثل : قبرص وإيطاليا وإسبانيا واليونان ورومانيا وفرنسا وفارنا التي كانت تزورها كل عام .


 أيضا مارست حياة النفوس التجريد ، لكنه كان تجريدا تعبيريا ، فهو ليس تجريدا صرفا يستبعد فكرة التعبير في اللوحة عن أي موضوع بصري أو واقعي أو حتى خيالي ، بل هو تجريد قادر من خلال توظيف الإسقاطات تارة ، والحرص على عدم ترك المتلقي للرسالة الفنية فريسة لحالة من الالتباس تارة أخرى ، بمعنى ـ وكما يؤكد السيد رشاد ـ منح ذلك التجريد إضاءة ما للإيهام والتوقع والفهم ، مع الحرص الحاسم على عدم الإغراق في التهويمات والألاعيب البهلوانية .

أيضا جاءت بعض اعمالها المبكرة في " ثلاثينيات القرن الماضي " ذات تقنية حداثية مدهشة سبقت كثيرا أبناء جيلها من الفنانين ، فلدها لوحة " قاعة الدرس " تحيلك بمعمارها الهندسي وخطوطها الأساسية التي لا تهتم كثيرا بالتفاصيل الصغيرة ، إلى تكعيبية بيكاسو .

ويشير السيد رشاد إلى وعيها الحداثي باستخدامها  لـ " المنظور العكسي " للنسب ، وذلك في لوحة أو اثنتين من لوحات الأيقونات ذات الطابع الديني الروحي ، حيث تعمدت أن تبدو العناصر والمفردات الموجودة في الخلف أكبر حجما من الأمام ( عكس السائد ) وأيضا الشخوص في مقدمة اللوحة أصغر حجما من هؤلاء القابعين في خلفها ، فيما يُعرف بتحطيم النسب المادية ، وهو ما يصب ـ خصوصا ـ في ظل استخدام الألوان الباردة ـ في جانب الارتقاء الروحي ، على حساب الماديات انطلاقا من أن الفن في أحد أهم أدواره يسمو بالروح وخلص النفس من شوائب كثيرة لا يطهرها إلا الفن .

ولم يقتصر مشروعها الفني على الرسم ، بل نجدها قد أبدعت فنونا تطبيقية مثل : مشغولات النسيج والطباعة على الحرير.

كما تأثرت فيها بالموتيفات الفرعونية القديمة مثل لوحة " عيد القمح ".

كذلك ارست في فن الجرافيك قيما فنية خلاقة عبر توظيفها معطيات وعناصر ومفردات جمالية وتقنية متعددة وتوظيف ابتكاري متميز لأفكارها وتصوراتها ورؤاها الفنية مع تنوع الأساليب كالحفر سواء البارز مثل لوحة " الطيور " أو الغائر على المعادن مثل لوحة " نخيل وعشق " والتي قدمت من خلالها وحدات تشكيلية بديعة تعد من النماذج الفنية المتقدمة في فن الجرافيك.

كذلك لم تهمل فن " الخزف " الذي يعد أحد الروافد المهمة لنهر مشروعها الفني ، حيث تحمل آنياتها ومجسماتها ومسطحاتها وقواريرها مساحات هائلة من المشاعر والأحاسيس ، ومن ثم تشع هذه الأعمال بطاقات تعبيرية تتضافر مع انسيابات الخطوط الخارجية وتقوساتها اللونية والضوئية ، لتمنح الإحساس بالحركة والحيوية .


ويأتي عملها المركب " تكوين " بمثابة إرهاصة سبقت بها " حياة النفوس " عصرها لما عُرف بـ " تشكيل الفراغ " وهو أحد فنون ما بعد الحداثة حيث تتجلى الأناقة الفنية التي صنعتها المتواليات و التداخلات الفنية لخام الزجاج وبعض المعادن التي صنع منها العمل (تكوين) في نسق هندسي تكراري ساحر.

هكذا قدّم لنا السيد رشاد إضاءات كاشفة لعمل رائدة من الرائدات سواء في الفن التشكيلي أو النسوية ، امرأة قدّمت الكثير من العطاءات ، ثم نسيها الوطن ، ماتت مجهولة لأبنائه اللهم إلا إقامة معرض وحيد في أتيليه القاهرة بعد وفاتها . ويناشد السيد رشاد في هذا الكتاب الممتع وزارة الثقافة أن تتبنى إقامة متحف يضم أعمال هذه الفنانة التي تتعرض للسرقة أو التلف لأنها بحوزة أختها الوحيدة والتي تبلغ من العمر تسعين عاما ومعرضة للموت في أية لحظة ، فهل تستجيب وزارة الثقافة المصرية ، وتنقذ هذه الكنوز الفنية من الضياع ؟ّ!

بقلم الكاتبة والروائية/ هويدا صالح

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,825,640