فى غير قليل من الأحيان يكسوها الغبار أو يغطيها التراب ولكنها وبمجرد أن نمسح بأصابعنا ما علاها من قهر الزمن تعود لامعة ومتوهجة، ربما – كعادتنا – نسخر منها أو حتى لا نشعر بها ولكنها – شئنا أم بينا- تخالط الدم وتعانق الجينات .. انها العبقرية المصرية وليدة حكمة الآف السنين.

ها هو يجلس على حافة ترعة تشق غيطانا بلا حدود فى لحظة شروق أو ساعة مغيب يستظل بأوراق "توتة" حنون أو فروع "جميزة" عجوز يستعد لمشقة يوم أو يرتاح منها ... انه  بعينه ذلك الفلاح الفصيح الذى جلس ايام مينا وسنوسرت ومن بعدهما فى ايام كافور الإخشيدي وصلاح الدين ومراد بك ومحمد على وحتى يومنا هذا يمسح همومه – و لا ينساها – على انغامه ناي ريفي نحته بأصابع يده المعروقتين من فروع البوص تجلس بجانبه ناعسة او بهية – مهما تغير اسمها على مدار العصور – ترنو إليه يحنو اسمه و لا إسمها – إلا نادراً ولكننا نعرف ونحفظ ما تركوه لنا من عشرات الأغانى والمواويل وحكايات الربابة .. من منا يعرف مؤلف ياليل يا عين كل الليالى وسائر العيون – أو "قولوا لعين الشمس" وغيرها من أعمال عبقرية أرخت لاسى وآهات وحياة الأمة المصرية بالاغنية والموال ملثما أرخ لنفس الحياة المعاصرة العم نجيب محفوظ فى قصصه ورواياته ... صدفة عجيبة  - وكل المصادفات عجيبة – قادتنا الى كنز كشف لنا عن رمز مجهول من الفولكلور المصرى التى كتبت ولحنت بالفطرة عشرات القطع الشهيرة والعظيمة .. انها ذات العيون الناعسة.

"دردا بلد الردال" هكذا كان – وربما مازال – ينطق أهل جرجا اسم مدينتهم ويصفونها طبقاً للهجتهم الجميلة المميزة التي تحول حرف الجيم الى دال ... مدينة عريقة وخالدة كانت جوهرة الصعيد المصرى وعاصمة الإقليم الذى يحمل اسمها قبل ان يتغير اسم الديرية قبل نحو قرن من الزمان – ضمن آلاف الأشياء التى تغيرت وتعدلت فى هذا القرن العجيب – حاملاً اسم العاصمة الجديدة بسوهاج – بحكم موقعها الجغرافي الذى يصل شمال الصعيد بجنونه ومع تركيبة السكان العرقية الجامعة عبقرية بين أجناس عديدة ورثت جرجا ثم أثاث وثقافات متعددة ضمت الفرعوني والبدوي والعربي والتركي حيث التقى الجميع على ارضها وما جاورها من مدن اخرى ومن هنا حفلت ليالي من يدونها ويسجلها حفاظاً على هذا التراث النادر وهو ما تم بطرق متعددة كما ان هذا الإلتقاء الفولكلورى كان سبباً فى ظهور عدد من نوابغ الفن بسائر أشكاله وكانوا جميعا – رغم قلة عددهم – شديدى الاهمية ومعروفين على مستوى الإقليم أو مستوى مصر كلها بدرجات متفاوتة – مثل شفيقة – ولكننا اليوم نزيح الستار عن فنانة شاملة مجهولة لا يعرف احدنا عنها شيئاً لأنها مثل مئات من العظماء المنسيين الذين سبقوها فنانة بالفطرة لا تجيد القراءة او تعرف الكتابة و لكنها – شأنهم جميعاً – تحترف العظمة فى صمت.

فى نحو عام 1865 ولدت بطلة قصتنا بمدينة جرجا وكان لها عيون شديدة الإتساع تزينان وجهها رائع الجمال وقد أطلق عليها أبوها اسم ناعسه ومنذ حداثتها ظهرت عليها علامات النبوغ فى مجال الحفظ والإلقاء فقد كانت تهرع الى مجلس شاعر الربابة كلما جاء وجلس قريباً من دارهم وتقبع فى آخر صنوف المستمعين مع أقرانها من الأطفال تنصت الى مغامرات أبوزيد ومفاجآت السيرة الهلالية وعند عودتها إلى منزلها كانت تعيد كل ما سمعته بدقة مذهلة ولم يمض الكثير حتى بدأت فى بناء عالمها الخاص بها وتأليف أغانى وحكايات من وحى خيالها وكانت ترتجل كل ما تقول وفقاً للظروف التى تحيط بها وقت التأليف وسرعان ما ذاع صيتها فى مدينة جرجا بل والمديرية كلها ولم يمنعها الزواج من الإستمرار فى هوايتها العبقرية وبفضل جمالها ظلت حلماً لكل الرجال وحتى بعد بلوغها ارذل العمر ظلت منبعاً لوحى الشعراء الشجين والعاشقين الذين جعلوا منها رمزاً لمصر التى لا تشيخ ولا تشيب واستخدمه المؤلفون اسمها فى مواويلهم وملامحهم.

وضعت ناعسة آلاف القطع التي ضاع معظمها للأسف فى مجاهل النسيان ولم يحفظ الرواة لها سوى القليل الذى تشير بسرعة الى اهمه وأشهره ومنه تلك الاغنية التى قالتها عندما زارت القاهرة فى مطلع القرن الفائت وطال الزيارة الى الحد الذى جعل مشاعرها تفيض بالحنين الى ديارها وفى ظهيرة احد الايام كانت تمر قريباً من محطة القطار – محطة مصر وتصادف تحرك وابور الظهر المتجه الى الجنوب فكتبت ملحمتها الخالدة "ياوابور الساعة 12 يا مجبل ع الصعيد .. حبيبى قلبه قاسى وانت قلبك حديد".. من اغانيها ايضا تلك التى جاملت بها نفسها عندما تقدمت فى السن وسقطت بعض اسنانها وركبت بدلاً منها – كما كان شائعاً حينذاك – اسناناً من ذهب فقالت "يابوسنة دهب .. دهب لولى" ومن اشهر واهم اغانيها ايضا تلك المقطوعة الرقيقة التى استوحتها من مقابلتها لاحد الشباب الذى القى عليها السلام بغزل جميل فقالت "سلم على لما جابلنى وحيانى ولدى يا ولدى سلم على" ومن الاغانى التى كان مفترضاً فيها أن تذيع وتنتشر تلك التى قالتها فى مدح الملك فاروق يا نور العين" ولكن قيام الحركة المباركة ومصادرتها لكل ما يتعلق بفاروق واسرة محمد على منع الناس من ترديد الاغنية الوليدة خوفاً من إتهامه بالرجعية! ومن الجدير بالذكر ان ناعسة قد عاصرت عشرة حكام لمصر ما بين خديو وسلطان وملك وملك ورئيس جمهورية بدءاً من إسماعيل وصولاً الى عبد الناصر خلال عمرها الذى طال الى نحو تسعين عاماً جاءت خلالها على التراث الغنائي الشعبي المصري بكنز من الاعمال الرائعة والنادرة التى كانت تلحنها بنفسها بالسليقة وقد صور معاصروها الكثير من أغانيها والحانها ليتغنى بها الكثيرون من جيل العمالقة مثل شادية وفريد الاطرش وعبد الوهاب  ولم تنل هى من كل ذلك شيئاً مادياً أو أدبياً ورحلت فقيرة وحيدة اهملتها الدنيا التى نالت منها ولكنها ابداً لم تنل من نتاج عبقريتها الذى سيبقى ويدوم حتى يأذن الله .

المصدر/ مجلة اخبار النجوم

بقلم موفق بيومى

العدد/ 944 -  بتاريخ 4 نوفمبر 2010

 

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,275,096