لماذا هذا الرجل ، هناك الكثيرون، نعم ، ولكننا لابد أن نبدأ لذا كان عبد الرحمن الشافعي لعدة أسباب أولها طول عمره الفني الذى جاوز الأربعين عاماً ، ولجمعه فى العمل بين المحترفين والهواة، وبين العمل الإداري والفني، ولتقديمه هذا المزيج من عروضه ما بين الشعبي والدرامي، ولكثير من الجدل الذى أثاره طوال مسيرته.
وبعد عبد الرحمن الشافعي ستأتي فصول أخرى من حياة أهم المسرحيين فى مصر والدول العربية.
كانت نظرته للأشياء تختلف عن نظرة بقية أطفال قرية الصنافين التابعة لمدينة منيا القمح بمحافظة الشرقية، كانت تجذبه أكثر الألعاب الهادئة، وكان شغوفاً بتأمل كل ما هو حوله، كيف يعيش الناس داخل القرية، طريقة أحاديثهم اجتماعاتهم، وكانت تجذبه أكثر طريقتهم في الاحتفال بالموالد والمناسبات الاجتماعية، وإذا ما رأى يوماً مجموعة من المداحين الشعبيين الذين يجوبون الشوارع بحثاً عن الرزق واستمع إلى مدحهم الديني والذى لا يهدفون من ورائه الى تقديم نوع من الفنون الشعبية بقدر ما يستخدمون ذلك كنوع من العمل يتكسبون من ورائه ببعض المال نتيجة عطف الفلاحين عليهم، كان يترك الطفل عبد الرحمن والذى لم يكن قد تجاوز سنواته العشر بعد كل ما يشغله ويجرى وراءهم من أجل الاستمتاع بسماعهم والفرجة عليهم، كان ذلك يمثل له نشوة روحية عالية لم يفتش آنذاك عن سببها داخله وإنما كان يكتفى فقط بوجودها...
أيام آخري كان يعشقها جداً هي ايام حصاد القمح ووضعه داخل أجران القرية، وما يصاحب ذلك من جلسات سمر أغاني شعبية ، ألعاب للصبية فقد كان هنا وفى عقد الاربعينيات من القرن الماضي يشكل القرية المصرية يشبه الى حد ما شكل المتحف المفتوح، البيوت الطينية المعروشة بجذوع الاشجار والتي تطل من على اسطحها اعواد الأذرة والقطن الجافين، واللذان يستخدمان كوقود عند طهى الأطعمة او تسوية أرغفة الخبز داخل الأفران الطينية، أيضاً أشكال الشوارع المتداخلة، والأطفال الذين يمرحون داخلها، القرية كلها تظهر كأنها بيت واحد، الشارع هو المتنفس الحقيقي لأبنائها وأهاليهم، الساحات، الأجران، الحقول .. هي الامتداد الرحب لهذا العالم، الدفء والحميمية والعقل التواق للمعرفة والتأمل هي من صفات الكثيرين من أهل القرية، ربما كان ذلك ما يفسر وجود هذه النسبة الكبيرة من فناني وأدباء مصر القادمين من أمثال هذه القرية.
لم يكن هناك أي وسائل ترفيهية من تلك التي نعرفها اليوم كانت هناك بعض المناسبات التي ينتهزها أهل القرية كفرصة سانحة لقدوم أحد الرواة الشعبين ليسرد على أهل القرية إحدى القصص والتي غالباً ما تكون من نوعية الميلودراما حتى يستطيع عبرها جذب تعاطف الناس معها، وفى أحد الموالد استمع السامري والذى لم يكن يدرك أنه سيكون سامرياً فيما بعد أي الشاعر الشعبي "سيد حواس" فأغرم به جداً وعشق صوته وطريقته في غناء المواويل، لذا فقد تتبعه من مولد للآخر وإذا ما سمع أنه سيحيى ليلة فى قرية مجاورة شد الرحال إليها وانتظره حتى يأتي، لم يكن يعرف معنى لهذا الانجذاب، لقد كان انجذاباً فطرياً هناك توق داخلي لا يشبعه إلا هذا الامتداد الغنائي المتمثل فى "سيد حواس" .
هكذا كان يقضى السامري وقته بين مذاكرة دروسه وبين تتبع فرق المداحين الشعبيين، والشاعر سيد حواس، كانت حصيلة سمعية وبصرية، سمعية عبر سماعة لمثل هذه الأناشيد والسير المروية، وبصرية أملتها عليه أجواء القرية الخصبة بمناظرها واحتفالاتها وجلسات سمرها ..
ولم يكن يعرف لماذا أحب هذا الجانب الفني الشعبي في كل ما يحدث من ممارسات داخل القرية، لماذا لم يحب الزراعة مثلاً، أو إحدى الحرف التقليدية، هذا هو ما لم يستطع أن يفسره أو يعيه فى تلك الفترة.
ولم تكن مرحلته الأخرى داخل مدرسة الألفي الثانوية بمنيا القمح بعيدة عن مثل هذه الاهتمامات وإما كانت مرحلة تالية مبنية عليها، فقد رأى في هذه المدرسة ولأول مرة فى حياته المسرح، كان شيئاً غريباً عليه ومدهشاً فى أن – هناك شعوران ممتزجان بالخوف والفرح معاً ينتابانه كلما اقترب من خشبته، وإذا ما اقترب منه وألا يفترق عن هذا العالم السحري المليء بالأوان، كان وقتها الفنان القدير صلاح منصور هو مدير المسرح المدرسي آنذاك في القاهرة، ولنا تخيل ما يمكن أن يكون عليه المسرح المدرسي آنذاك، لقد كان مستعمرة وعى كبيرة تمتد أطرافها داخل مصر كلها، لذا كان من الطبيعي حداً أن ينضم السامري لهذا العالم المسحور، لكنه لا يعرف ماذا يستطيع أن يفعل داخله، كان نجوم المسرح المدرسي في الألفي الثانوية فى الخمسينيات المخرج محمد حماد، ومجموعة كبيرة من فناني عائلة الأباظية الشهيرة الآن فى مصر كلها، لذا لم يكن أمامه إلا أن ينضم لفريق التمثيل وفعل ذلك وداس بقدميه لأول مرة على خشبة المسرح كممثل، وكان ذلك في عرض "ثم غاب القمر" الذى أخرجه محمد حماد، ثم توالت الأدوار الصغيرة والعروض المسرحية بعد ذلك، لقد وجد السامري جنته المفقودة، تلك التي كان يبحث عنها طوال سنوات عمره الصغير ولكن من دون أن يعرف أن اسمها المسرح، ولكن حدث بعد ذلك ما لم يكن يتوقعه.
المصدر جريدة مسرحنا
العدد 101 بتاريخ 15 يونيه 2009
بقلم ابراهيم الحسيني
ساحة النقاش