هل بالفعل كما يقول السامري "إن سكة الفن الشعبي إللى بيروح فيها ما بيرجعش" إذن لماذا عاد هناء عبد الفتاح، عبد العزيز مخيون، أحمد عبد الهادي منها، لقد بدأوا مسرحهم وسط الناس، خلعوا بذلاتهم وارتدوا الجلاليب بدلا منها، وتوجه هناء عبد الفتاح لنشواي ليخرج "ملك القطن" وسط الفلاحين وعبد العزيز مخيون لعزبة زكى أفندي ليخرج الصفقة، أحمد عبد الهادي لكفر الشيخ، وبجوار إحدى السواقي وأخرج "الهلافيت" وفهمي الخولى ذهب هو الآخر لكفر الشرفا بالقليوبية وأخرج أول المشوار ... لماذا عاد كل هؤلاء لبذلاتهم مرة أخرى بينما بقى السامري داخل جلبابه وعباءته – لقد أسس هذا الجيل أول معرفتنا لما أسميناه بعد لك بالتجارب المفتوحة، وحفروا بهذه التجارب مسارات موشومة بالذاكرة.
ربما انشغل أحد هؤلاء الرواد بالتمثيل، والآخر بالسفر، والثالث بالمعهد... وأخذتهم مشاكل العمل اليومية وابتعدوا عن المشهد المسرحي الشعبي في الاقاليم واستبدلوا به مشهدا آخر في العاصمة..
ولم تكن جولات السامري بعروضه فى أقاليم مصر المختلفة إلا لإقناعه بالدور التنويري للمسرح ولانتمائه لهؤلاء الناس ولقناعته بأن النموذج الذى يقدمه هو النموذج المطلوب فى الثقافة الجماهيرية، إنه يرى أن وجود 200 فرقة مسرحية كفرقته فى هذا التوقيت كان يمكن لهما جميعاً أن تغير سلوك الشعب المصري بأكمله، فهل ترى مازالت هذه الفعالية صالحة حتى الآن..!
بعد عودة السامري من المنيا استمر في تقديم عرضه "على الزيبق"، كان ذلك مواكباً لحرب اكتوبر 1973م، فكانت الظروف غير مستقرة على أي حال، واتخذ العرض خاصية جديدة عليه وهى مواكبة أحداث العرض، فكان كل بيان يصدر عن الجيش كان العرض يتبعه بمشهد جديد يؤلفه عبد العزيز عبد الظاهر لحظياً على هيئة بيان فنى، بيان رسمي في مقابل فنى، وعليه لم يعد لم يعد اسم "على الزيبق" مناسباً للعرض فتحول اسمه تدريجياً من على الزيبق إلى هنا القاهرة وظل عبد العزيز عبد الظاهر يكتب، وعلى سعد يلحن ونقدم عرضنا مرة باستخدام الإضاءة وعشرات المرات الأخرى ففي الظلام..
كان العرض يقدم نوعاً من المقاومة الحقيقة، وكان تقبل الجمهور له يعنى عدة أشياء في وقت واحد، يعنى تأثرهم بالحرب واندفاعهم الوجداني باتجاه أخبارها، وتأثرهم بما يقدم أيضاً، وفكرة الأزمة تصنع دائماً هذا الالتفاف، بعد هذا العرض جاءت تجارب أخرى للسامري في نفس الطريق الذى اختطه لنفسه، كان عرض "حكاوى الزمان" الذى كتبه يسرى الجندي في ثاني تعاون بينهما، وكانت فكرته تدور حول أحد الجنود الذين استشهدوا في الحرب وقد استيقظ من موته ليسال عن ثمن دمائه المبذولة هو ورفقائه، وكانت الفكرة الرئيسية للصراع عن شاب يبحث عن قاتل أبيه، وكان الممثل الذى يلعب دور القاتل يتخفى في ملابس غريبة بين الجمهور يومياً إلى أن تأتى اللحظة التي يصعد فيها لخشبة المسرح، وفى إحدى الليالي، وكان العرض يقدم في إحدى قرى سوهاج قبض الأمن على هذا الممثل بحجة الاشتباه فيه، وعندما حان دوره للصعود على خشبة المسرح لم نجده..!
واقعة أخرى مشابهة حدثت في عرض آخر للسامري عندما كان يقدم عرض "أدهم الشرقاوي" في ساحة وكالة الغوري، كان لديه أحد الممثلين الثانويين ويدعى "رأفت" وكانت والدته لا ترضى عن عمله بالتمثيل فكانت تأتى كل ليلة إلى الوكالة وتخترق صفوف الجماهير حتى تصل إليه فوق خشبة المسرح لتمسك به فى عنف وهى تكيل له الشتائم، ثم تخرج به وهى تجره من جلبابه للخارج، تكرر ذلك كثيراً حتى اعتقد المتفرجون أن هذه الواقعة هي جزء من العرض، وفى إحدى الليالي لم تأت "السيدة أم رأفت" فذهب أحد المتفرجين غلى السامري وقال له : "هيه الست أم رأفت مش ها تعمل المشهد بتاعها النهاردة؟!
ربما كان التصاق هذا النوع من الفن بالناس و قربه الشديد من قناعاتهم الفكرية والجمالية هو ما تسبب في مواقف كهذه، رما كانت أيضاً التركيبة الشعبية التي عرف سرها السامري واستخدمها بذكاء كانت سبباً أيضاً في ذلك، لقد قال البعض أنه اخترع هذه الصيغة وأغلقها على نفسه لذا فهي غير قابلة للتداول، لكن السامري لم يغلق المعرفة على نفسه كما قيل، فالفن لا يمكن إخفاؤه، فأسراره المعلنة في غالب الامر هي نفسها اسراره الخفية، أما التركيبة السامرية فربما تكمن إلى جانب الحب والصدق، الإخلاص في أفكار تشكيل الفضاء المسرحي عبر الممثلين، الممثل هو العنصر الرئيسي ومن ثم تأتى بقية الأشياء، المجاميع لها تحركاتها الجمالية والمحسوبة بدقة حتى قال البعض عن السامري أنه مخرج مجاميع أيضاً الموسيقيون، الراقصون، المطربون.. كلهم عناصر مهمة فى تشكيل المشهد المسرحي، وهذا هو ما يشكل طعماً ومذاقاً خاصاً للمشهد...
وهذا هو النموذج المطلوب في مسرح الثقافة الجماهيرية، نموذج تماهى كل عناصر المشهد المسرحي في بنية فكرية وجمالية تناسب الجمهور العادي لأنها خرجت منهم لذا فقد كانت عودتها إليهم محببة ومقبولة.
المصدر/ جريدة مسرحنا
العدد 106 بتاريخ 20 من يوليو 2009
بقلم إبراهيم الحسيني
ساحة النقاش