كان لقائي بمحمود السعدني في إحدى أمسيات منتصف ثمانينات القرن المنصرم في منزله المطل على النيل في شارع البحر الاعظم بالجيزة. استقبلني الرجل بحفاوة بالغة وبكرم أولاد البلد المعهود، وكان صالونه يومها يعج برهط كبير من ضيوفه أولاد البلد و"المعلمين" الذين استأذنوا جميعاً في الانصراف ليتيحوا لنا جواً من الحوار الهادئ.
مع أن هذه كانت أول مرة ألتقى به، غير أنه سريعاً ما أزال كل الحواجز بيننا فى دقائق معدودات وأشعرني كأنني أعرفه منذ زمن بعيد، وسادت بيننا ألفه وود منذ زمن بعيد، وسادت بيننا ألفه وود وانساب حديثه متدفقاً يروى مسيرته الحياتية والمهنية بتلقائية تخلو تماماً من التكلف والتصنع، ولم تفارقه الابتسامة التي كانت تعلو وجه، وإن كانت تمتزج أحياناً بالمرارة، لكنه سريعاً ما كان يستعيد نبرته المرحة التي تشع تفاؤلاً وأملاً، وكانت له قدرة ساحرة على القص والحكاية يزيل بها كل إحساس بالملل، ولايملك الإنسان حيال ذلك غير الإنصات، بل قد يتنازل الإنسان عن الرغبة في الكلام لسماع المزيد عن الحركات السياسية التي عملت على إيقاظ الوعى السياسي في مصر، وغرست في نفوس ابناء الوطن روح النضال الوطني من اجل الحرية والاستقلال، وطبعت في أذهانهم صور الثورات الشعبية المختلفة، وكيف كانت هذه الحركات بمثابة صرخات المخاض التي سبقت ميلاد ثورة 1952 ومدى المعاناة التي تحملها المناضلون مع كم الاستحكامات الامنية ومطاردتها لأصحاب الفكر، ومدى الفوضى الى كانت تعم البلاد من تعاقب وزارات الموظفين، في الوقت الذى كان فيه النضال مستعراً لتحرير مصر من نير الاستعمار الأجنبي وفك قيود الاستبداد عنها.
والسعدني كتب في مجالات متعددة، وكان أحد رواد مسرح الستينيات الذين شكلوا ملامح تلك الفترة، خاصة فيما يتعلق بالموضوعات السياسية المصاغة في قالب كوميدي، والاعمال الريادية احيناً ما تتسم بالتواضع الفني؛ ولهذا يجب أن ننظر إلى قيمة هذه الأعمال في ضوء ومعايير عصرها.
وجيل الستينيات خرجوا من شرنقة الاقتباس المباشر وتمصير الأعمال المأخوذة من مسرح البوليفار الفرنسي إلى محاولة الكتابة المسرحية الأصيلة التي قد تتأثر ببعض التقنيات الغربية دون أن تنقل محتواها وتلوى عنقها، أو تفصل القضايا المصرية عليها. وكتابات السعدني إحدى هذه المحاولات التي هبطت باللغة العربية المقعرة الى كان لا يفهمها السواد الاعظم من الناس لتفشى الأمية، إلى لغة يفهمها الناس: المثقفون والبسطاء على السواء. ولهذا كانت تقبل على كتاباته سائر الطبقات المختلفة من أعلى شريحة اجتماعية وثقافية الى رجل الشارع؛ ذلك لأن أسلوبه يتسم بالبساطة والوضوح سواء أكان في كتاباته السياسية أو الفنية، وهو بقدر ما يتبسط في الاسلوب إلا أنه يرتفع بمضامين ما يكتبه الى مستوى راق جداً.
والسعدني في كتاباته لا يقيم وزناً للتوازنات والمجاملات وتملق السلطات في انتقاداته الشرسة إذا كانت عن قناعة.
والسعدني معروف في الوطن العربي بالقدر نفسه الذى يعرف به فى مصر، ومع أنه يستخدم دائماً اللهجة المصرية الدارجة في كتاباته وأحاديثه ويؤمن السعدني إيماناً راسخاً بالقومية العربية وأن العرب أمة واحدة.
لقد تجمعت لدى السعدني خبرات حياتية قلما تتوفر لأحد، استمد هذه الخبرات من كل طبقات الشعب المصري التي خالطها، فلم يكن يوماً ذلك المثقف المتأنق الذى يزخرف أسلوبه، أو يتنطع في كتاباته، أو يتشدق بعبارات ومقولات غريبة ليبرهن على اتساع ثقافته، ولم يستمد معرفته بالناس من خلف نوافذ منزله، أو من خلف نافذة سيارته أثناء عبوره في الشوارع ويتجرأ ويعبر عنهم، ولكنه كان يخالط الناس مخالطة حقيقية من أبسط الناس إلى أعاظمهم.
وربما كان الكاتب الوحيد في مصر الذى تربطه صداقة قوية بعمال حرفيين وبأصحاب مهن مختلفة وطبقات مختلفة، فدائرة معارفه تشتمل على:
وزراء، ومديرين، مثقفين، وأميين، صعاليك ومشردين، مليونيرات ومدنيين، فلاحين، وإقطاعين، فنانين، أغبياء، أذكياء، أدعياء.
لقد تعرف السعدني على الرئيس السادات وقت أن كان السادات مفصولاً من الجيش، وتوثقت بينهما عرى الصداقة، وبعد الثورة بدأت تنكمش هذه العلاقة، وكلما ارتقى السادات في مناصبه وزادت مسئوليته، كلما تباعدت المسافة بينهما، إلى أن أصبح السادات رئيساً لمصر انقطعت الصلات بينهما تماماً، وزادت المسافات بعداً، وفى سنة 1971 أمر السادات بإيداعه السجن بسبب – على حد قول السعدني – بعض النكات التي أطلقها عليه السعدني وانتشرت في مصر انتشار النار فى الهشيم، وقتها كان السعدني رئيس تحرير مجلة صباح الخير، وفى سنة 1973 أفرج عنه.
نشاطه المسرحي بدأ عام 1957!
ونشاط السعدني المسرحي بدأ في سنة 1957 وامتد حتى عام 1970 أخذ فيه النهج نفسه الذى سار عليه لطفى الخولى واختار أن يكتب فى المسرح أعمالاً لها طابع سياسي وبلغة شعبية كان هذا هو التيار السائد في تلك الفترة وانخرط السعدني فى هذا التيار يدافع عن مكاسب الثورة، ويهاجم فساد النظام الملكي الذى عم فيه الرشوة والفساد وظلم الناس، ونقدم هنا بعد استعراض سريع للسيرة الذاتية للسعدني إحدى تجاربه المسرحية التي كتبها والتي تشكل ملمحاً من ملامح الكوميديا المصرية في فترة الستينيات، تلك الفترة التي لم تحظ باهتمام كاف من النقاد اللذين اكتفوا بتسليط الضوء على بعض الكتاب، وتجاهلوا البعض – يقف في مقدمة هؤلاء على سبيل المثال محمود السعدني، وفايز حلاوة، ولطفى الخولى وغيرهم.
محمود السعدني في سطور
1927 ولد بالمنوفية، لأب عامل في شركة الترام . (بعض المصادر أشارت إلى أنه ولد سنة 1928 بينما التاريخ الذى ذكرته هو التاريخ الذى سمعته منه شخصياً). 1940 تخرج فى مدرسة الجيزة الابتدائية.
1944 بدأ محاولاته الصحفية في مجلة "نداء الوطن" التي كان يصدرها ناظر المدرسة – "مصطفى بك عبد الهادي" خال الملكة ناريمان زوجة الملك فاروق – لمدة أسابيع، كما كان يراسل مجلة الكتلة التي امتنعت عن نشر مقالاته بعد أن تبنوه لصغر سنه.
1946 تخرج في المعهد العلمي الثانوي بحي السيدة زينب، وأراد أن يلتحق بالجامعة لكن إمكانات الأسرة المادية حالت دون ذلك، حيث كان التعليم بمصروفات لا تقوى عليها الأسر البسيطة، فالتحق بمعهد التمثيل الذى كان تابعاً وقتذاك للشئون الاجتماعية، ونجح في امتحان القبول كممثل، لكنه لم ينتظم في الدراسة ترك المعهد، وعمل بمجلة كلمة ونصف لأول مرة بأجر لمدة ثمانية أشهر، وفى نهاية العام عمل بمجلة "مسامرات الجيب" بمرتب شهري عشرة جنيهات، وكان هذا المبلغ على الورق فقط ولكنه كان في واقع الامر يتقاضى نصفه، ومع ذلك استمر في العمل في هذه المجلة لمدة سنتين، 1948- 1949 عمل بمؤسسة دار الهلال بالقطعة.
1949- 1952 انتقل الى مجلة النداء الاسبوعية وظل يعمل بها حتى قامت الثورة.
1952- 1953 عمل بجريدة الجمهور المصري.
1953 – 1954 عمل بجريدة القاهرة التي تحولت الى جريدة مسائية.
1955 عمل بمجلة التحرير حتى وصل فيها الى منصب مدير التحرير ثم نقل الى جريدة الجمهورية مديراً لقسم الشئون العربية، واتاحت له هذه الوظيفة السفر الى معظم بلدان الدول العربية وتوطيد الصداقة بينه وبين الكثيرين في البلاد العربية، كما جعلته معروفاً في الاوساط العربية.
1956 كان في بيروت وقت قيام العدوان الثلاثي على مصر، فأنشأ بلبنان جريدة "الجمهورية لسان حال جمال عبد الناصر" لكن الحكومة المصرية أمرت بغلقها بعد أربعة وثلاثين يوماً، وأمرته بالعودة الى مصر.
1957 كتب أولى مسرحياته "فيضان النبع".
1958 فصل من جريدة الجمهورية وعمل بمجلة روزاليوسف كتب كتاباً عن قراءة القرآن وأشهر المقرئين لكنه لم ينشر.
1959 اعتقل ضمن حملة الاعتقالات التي ضمت كثيراً من الادباء، والشعراء، وكتاب المسرح، مثل الفريد فرج، ونعمان عاشور بتهمة اعتناقه للأفكار الشيوعية، ومن المفارقات المضحكة أن نشر له وهو داخل السجن بتهمة اعتناق الشيوعية كتابه عن قراءة القرآن وأشهر المقرئين، كما كتب في نفس العام مسرحية "عزبة بنايوتى" 1961 خرج من السجن بعد أن امضى ثمانية عشر شهرا في معتقل الواحات، وعند خروجه وجد جريدة "روزاليوسف" قد اممت فعمل فى جريدة صباح الخير.
1965 كتب مسرحيتى "البلوبيف" و"الاورنس" كما كتب كتاب "الصعلوكى فى بلاد الأفريقي".
1967 وصل الى منصب رئيس تحرير مجلة "صباح الخير" في عام 1980 كما كتب دراسة بعنوان "المضحكون في مصر".
1968 كتب كتاب "بلاد تشيل وبلاد تحط".
1970 كتب مسرحية "بين النهدين"
1971 – 1973 سجن (على حد قوله) بسبب سخريته من الرئيس السادات من خلال النكات التى أطلقها عليه.
1974 ترك مصر بعد أن فصل من وظيفته ومنع من الكتابة.
1975 كتب الجزء الثالث من سيرته الذاتية "الولد الشقي في السجن"
1982 عاد الى مصر مرة أخرى وعمل صحفياً في مؤسسة روزاليوسف" حتى وصل الى سن المعاش ومع ذلك فقد كان يكتب في المصور، ولم يكن يكتب في روزاليوسف.
1985 كتب الجزء الرابع من سيرته الذاتية "الولد الشقي في المنفى"
في 4 مايو 2010 توفى محمود السعدني الى رحمة الله
المصدر/ جريدة مسرحنا
العدد/ 199 – بتاريخ 9 مايو 2011
بقلم/ د. عطية العقاد
ساحة النقاش