رؤية عامة حول " ما هو مسرح الاطفال الموسيقى "؟

من الصمت الى الصوت يمكن تراوح فاعلية الموسيقى في سياق المسرح فمن مسرح "لا موسيقى فيه " بالمعنى المباشر والشائع لمفهوم الموسيقى ، الى مسرح يعتمد بالدرجة الاولى والاخيرة على الموسيقى ، ما يعنيه هذا الكلام ان كل مسرح هو موسيقى في جوهر فعله واشتغاله على الحواس والذهن وكل موسيقى هي مسرح في ما تشكله من ايحاءات وصور في البصيرة والمخيلة.

كل مسرح هو موسيقى وكل موسيقى هي مسرح لكن بين هذا وذاك مساحة من التباينات والتوترات التى تتدرج معها غلبة الموسيقى على المسرح او العكس ، للموسيقى ادواتها بوصفها لغة تعبير وايحاء وتحفيز وجداني وللمسرح كذلك وحين تجتمع الادوات فاللعبة واحدة لا يمكن فيها ان ندعى خدمة احد المركبين للأخر دون تبادلية فعالة لهذه الخدمة فكل الابعاد المتولدة عن تفاعلات العناصر المسرحية من نص كلامي الى نبرات الى لغة جسد وايماءات الى عناصر الشكل البصرية والضوئية وغيرها الكثير ، تتفاعل بدورها مع جميع الابعاد المتشكلة عن تفاعلات العناصر الموسيقية من الصمت الى نبرات اللغة المحكية الى الاصوات على اشكالها وانواعها واختلاف سلوكها من الوشوشات والحشرجات الى الصراخ والضجيج والشواش ومن فوضى الاصوات الغير منغمة الى هارمونية التواشجات اللحنية العذبة ... كل هذا لا ينظر اليه الا بعين واحدة : عين المتعة المسرحية المتكاملة.

المسرح والموسيقى ليسا لغتين الا من باب الادوات والتقنيات اما الانسان فحين يلتقى العمل المسرحي ، فالعين كما الاذن بوابتان الى الوجدان الإنساني حيث تمحى الفواصل وتتماهى تجزيئات المتعة في وجود واحد .

في مسرح الاطفال الموسيقى قد يدخل الى هذا العالم عنصر جديد يغنى ويثرى ويوجه الى عالم الانسان الطفل ، عالم له محدودياته لكن له منطقه الخاص وسحره ، عالم تتخاصر فيه الحاجة الى ملامسة عناصر المسرح والموسيقى مع الرغبة في التحرر والتحليق بعيدا عن واقع المباشرة الحسية والادراكية ، عالم تتنافس فيه ظلال الواقع وظلال الخيال على قلب الطفل وعقله في ان معا.

مقاربة لتعريف الموسيقى في مسرح الاطفال:

كما قلنا ، فالموسيقى مادة حياة تتراوح بين اشتغالها في الصمت واشتغالها في الصوت وبين تفعيل الصمت بوصفه عنصرا موسيقيا في البناء المسرحي وبين تنظيم الاصوات وتفعيلها في البناء المسرحي ذاته ، هناك مساحات شاسعة واحتمالات هائلة.

ان العلاقة التفاعلية بين الصمت والصوت تشبه العلاقة التفاعلية الحياتية ، بين ما نفصح عنه وما لا نفصح عنه وفى الحالتين مضمون وفكر وحركة درامية تحرك الوجود والوجدان ، لذلك فإن وظيفة المسرح الموسيقى في مسرح الاطفال لا تقتصر على وضع بعض الالحان لبعض الاغنيات هنا وهناك ولا تتحدد في تعبئة الفراغات الكلامية والنصية او استباق الحالة النفسية او تعميقها ، ولا كذلك في تأليف بعض المعابر قتلا للوقت حتى يتسنى للطواقم العاملة انجاز مهامها من تبديل ملابس او تصاميم او غير ذلك....

ان وظيفية الموسيقى ، وعلى ضوء ما تقدم تتجاوز هذه التقنيات على اهميتها الى خلق شخصيات وابعاد معنوية ونفسية وحالات مسرحية متكاملة العناصر قد تضفى ابعادا جديدة مستقلة ومتفاعلة مع البناء المسرحي العام ، تغنيه وتشارك في مساره بل تصنعه في كثير من الاحيان، الموسيقى اذن بعد اخر في ملامح العمل المسرحي المعقدة.

العامل الموسيقى في بناء ذهنية الطفل:

الموسيقى بطبعها وطابعها لغة بعيدة عن المباشرة وعن تسمية الاشياء بأسمائها ، الموسيقى بطبيعتها الاولى لا تحدد بل تحرر ولا توجه بل تطلق ولا تشرح او تفسر لكنها توحى وتحير ، انها لغة صامتة لا تقول أي شيء الا كي تقول كل شيء.

من هنا ينبغي الولوج الى فهم اهمية الموسيقى في تحفيز الذهن والعاطفة من حيث هي ما يحرر من التقييدات المعنوية والتحديدات الدلالية نحو الخيال والبحث والتأويل.

الموسيقى اذن ، وفى حضن العناصر المسرحية الاخرى الداعمة انما تشكل عنصرا هاما في تنشيط الوعى الدلالي والادراك الحسى فهي لا تحيل الاشياء والعناصر الى ذاتها بل تفرقها عن ذاتها وتنزع عنها مرجعياتها المعنوية والدلالية ، ناقلة كل ما يشاهد ويسمع الى حيز الفعل الذهني المشارك والخلاق لا الى الحيز الذهني المتلقي بسلبية وخمول ، انها تفكك المتحد وتشكك بالمطلق وتهدم المسلمات وتخلخل المفاهيم وتسقط المعاني المعجمية من علياء جمودها نحو حركية ودينامية خلاقة وشكاكة وباحثة.

الموسيقى بطبيعتها وطبعا غير مطيعة تفاجئ وتناور وتتقلب وتخلخل وتخون وتتجاوز ...انها الحياة بعينها لا تقبل الثبات ولا الطاعة.

الى هذا كله تؤسس الموسيقى في مسار تسللها الى ذهن الطفل ووجدانه انها تؤسس الى انسان اخر ، انسان في خلقه سجوده وفى خيانته للمسلمات اخلاصه وفى حركته الدائمة ابداعه ونموه.

الموسيقى اداة والموسيقى موضوع:

لا تقتصر الموسيقى على كونها اداة في العمل المسرحي للأطفال لكنها قادرة على ان تصبح موضوعا له، حين يتحول الابداع الى موضوع لذاته ينشغل الابداع بالأبداع وفيه ولأجله فتصبح الموسيقى بوصفها حيزا او مجالا ابداعيا الى موضوع يستدعى طرحه ومراقبته وتفكيكه ولكن بأدواته هو : ادواته الموسيقية ذاتها.

الموضوع / المعنى ، الشكل يتحدان ويتقاطعان فلا تكون الموسيقى مجرد اداة تجميلية او تأثيرية في عمل درامي بعيد عن انشغال الموسيقى والابداع الفني والجمالي بذاته ، بل تكون اداة تسقط بظلالها على الشكل المعنوي والدلالي وتكون المعنى الشامل لطبيعة اشتغالها بوصفها اداة وشكلا حين يكون البطل موسيقيا وهمومه موسيقية وادواته التي يعيش معها وبها ولأجلها موسيقية فمن الطبيعي ان تحدث تقاطعات بين اليات الموسيقى واليات العناصر المسرحية بمجملها.

الفعل الموسيقى والتأثير السمعي في نمو وتطور شخصية الطفل:

الموسيقى لا تعلم بل تضلل والموسيقى لا تفسر او تشرح بل تحير وتثير الاسئلة ، الموسيقى لا ترى الى الوجود بوصفه حقيقة بل تخلق هي حقائقها الخاصة ، حقائق من الخيال والخداع لكنها ربما اجمل من الواقع.

كيف ؟

فلنأخذ مثالا بسيطا :

حين قام المؤلف الموسيقى الروسي الرائع " سيرجى بروكوفييف " بتأليف موسيقى " بيتر والذئب " كان قد اتخذ بعد القرارات الشكلية البسيط والاولية منها ان ترتبط كل شخصية من شخصيات القصة ( واغلبها من الحيوانات ) بألة موسيقية معينة وثيمة موسيقية ذات طابع يشير الى الشخصية ويرافق ظهورها وسلوكها عبر القصة ، لكل من قال " واقعيا " ان القط مثلا يجب ان يرتبط بالة الكلارينيت  ؟ هذه العلاقة التي تتأسس في ذهن الطفل او المستمع أيا كان ، العلاقة بين شخصية القط وشخصية الكلارينيت هي علاقة وهمية كاذبة تم توظيفها فنيا وتحويلها الى حقيقة لا هروب منها.

في مثل هذه التداعيات تكم ن حقيقة الفن وقوته : حقيقة الفن في اللاحقيقة وواقع الفن غير فن الواقع ، هناك الى ما لا نهاية من امكانات الخلق والتداعي في الموسيقى والفن لا تشرح الوجود ولا تفسره ولا تقدسه ، لكنها تعيد خلقه باستمرار تؤلفه فيما يؤلفها وتهدمه فيما تبنيه.

من هنا ومن قوة تأثير المسموعات وشحناتها العاطفية يمكن فهم مدى قدرة الموسيقى في التأثير على نمو وتطور شبكة مفاهيم وتداعيات الخواطر المتشكلة في ذهن الطفل والثى تشكل بدورها جزءا هاما من وعيه وحسه وادراكه ووسائل انفعاله وتفاعله مع الحياة وعلى هذا الاساس نقول:

قل لي ماذا تسمع اقل لك من انت !!

الموسيقى والنبرة المسرحية في مسرح الاطفال

تشكل الاصوات والنبرات و" حركة الكلمة " كما احب ان اسميها عنصرا موسيقيا معنويا وجماليا خاصا في الاعمال المسرحية الخاصة بالأطفال فاختيار الاصوات ( اصوات الممثلين ) وكذلك جميع المؤثرات التي تندرج في سياق تشكل النبرة المسرحية هو عمل موسيقى بامتياز هذا ناهيك عن البعد المجازي للعناصر المابعد صوتية التي تشكل النبرة المسرحية وتداعياتها الدرامية بالأجمال.

الممثل لا يتكلم بنبرة تقريرية ( الا اذا استدعى الامر ذلك ) في مسرح الاطفال لكنه يستخدم نبرة ما ولونا صوتيا ما واداءا كلاميا ما يساهم ذلك كله في بناء الشخصية ويضفى عليها طابعا صوتيا هو ففي صلب الحس والتصميم الموسيقى لأبعاد الشخصية ، هذا نابع من ان البعد الصوتي التنبيرى والأدائي هو في صلب ما يشكل شخصية الانسان عموما فنحن قادرون عبر الهاتف ان نتعرف على هوية الشخص وعلى حالته المزاجية والنفسية فى اللحظة ذاتها فقط من خلال مكونات الصوت.

من مهام الموسيقى ان يتدخل في صناعة الاصوات التمثيلية لشخوص المسرحية وصقلها بما يخدم الدور المسرحي ، واستدعائها في التطويرات الموسيقية المرافقة والمحيطة لها عبر العرض المسرحي.

هنالك من الاليات المستخدمة لهذه الاغراض موسيقيا ، الكثير مما يعرفه اصحاب الصنعة ويستخدمونه في معالجة هذا الجانب المسرحي ولا مجال هنا لاستعراضها ولكن سنأخذ مثالا واحدا بسيطا من حيث الفكرة لا من حيث التطبيق:

ولنعد هنا مرة ثانية الى " بيتر والذئب " حيث يفترض ان يميز شخصية الجد " جد بيتر " صوتا ما يدل على ما توحى به شخصية الجد عموما من بلوغ ورجولة وقوة ، لكن كذلك من رأفة وحنان ومحبة للحفيد ... جعل بروكوفييف من الة الفاغوت الرخيمة الصوت والقوية والدافئة اله تحاكى وتنوب عن شخصية الجد ... حتى صرنا نعرف بمجرد سماع صوت هذه الالة بأن الجد هو المتكلم وهو الحاضر مسرحيا هذه مثلا وليس حصرا احدى ابسط الوسائل واكثرها كلاسيكية في استدعاء الشخصية المسرحية في عناصر موسيقية مرافقة بشكل او باخر للعمل المسرحي.

كتب/محمد جمال الدين

المصدر /جريدة مسرحنا العدد 166

13 سبتمبر 2010

 

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,203,051