مجموعة من الشباب قرروا التمرد علي كل ما هو زائف، وبلغة المسرح خلعوا الأقنعة ووقفوا وجها لوجه أمام المجتمع ووصفوا عملهم الفني بأنه ليس مسرحية، فقط محاولة لعرض أجزاء من تجارب من الواقع يرفض الواقع أن يواجهها، بل إن معدة ومخرجة العرض سندس شبايك مع مني الشيمي تنفي عن نفسها أنها ممثلة أو مخرجة، وأنها لا علاقة لها بالمسرح، وفريق العمل يؤكد أنهم ليسوا من محترفي المسرح، فقط أنهم يؤمنون بأهمية العرض وتأثيره.

هذه المجموعة أطلقت علي نفسها اسم – بُصى – وقد بدأت هذه المجموعة عملها عام 2006 بطلبة الجامعة الأمريكية بجمع قصص فتيات وسيدات من مصر عن تجاربهن المختلفة وقدموا عرضا لهذه القصص والحكايات الواقعية، وذلك لمدة أربع سنوات داخل الجامعة الأمريكية وبدعم منها، وفي كل عام كانوا يقدمون حكايات مختلفة، وفي هذا العام قرروا الاستقلال عن الجامعة الأمريكية والعمل دون دعم أو مساندة منها وهنا واجهوا الحقيقة المؤلمة حين حاولوا البحث عن مكان لتقديم عملهم، حيث رفضت عدة جهات رسمية وأهلية تقديم هذا الناتج بحجة خروجه عن الآداب العامة وخدش الحياء؟ ولم تجد هذه المجموعة سوي د. عماد أبو غازي الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة الذي دعمهم ووافق علي أن يعرضوا هذا العمل في كافيتريا المجلس لأنه لا يملك مسرحاَ وهذا هو الحل الوحيد بالنسبة له لدعمهم بعد أن رفض أصحاب المسارح الحكومية والأهلية دعمهم، وبالطبع هذا ليس غريباَ علي مثقف كبير مثل د. عماد أبو غازي، وأيضاَ ليس غريبا علي من رفضوا؟

ولنتأمل هذا العمل الذي يرفض أصحابه إطلاق صفة المسرح عليه، ورفض الآخرين استضافته.

أما سبب هروب أصحابه من صفة المسرح فيرجع إلي أنهم قرروا أن يبتعدوا عن التقييم الفني وبلغتهم هم – يشتروا دماغهم – لأن هذا لا يعنيهم فهدفهم هو تقديم المسكوت عنه في هذا المجتمع بلغة عارية خالية من أدوات الزينة كما هي بطبيعتها، ومناقشة الثالوث المحرم من دين وجنس وسياسة إلى حد ما، وانطلقوا من قهر المرأة أو قل سيطرة المجتمع الذكوري وتحكمه في مقاليد الأمور، فإذا كان لفظ ما يقال في الواقع فلماذا نتحايل ونجمله في الفن .. وهذه وجهة نظرهم بالطبع، أما من رفضوا هذا العمل فقد أثبتوا بما لا يدع  مجالاَ للشك أن المؤسسات الأهلية لا تختلف كثيرا عن الرسمية بل هي تابعة لها.

وفي البداية أقول لفريق العمل علي الرغم من أنهم نفوا صفة المسرح عنهم وعن العمل إلا أنني لم اقبل هذا النفي وتعاملت معه علي أنه عرض مسرحي ليس فقط لان – بيتر بروك – قال في أول سطر من كتابه "المساحة الفارغة":- أستطيع أن اتخذ أية مساحة فارغة وادعوها خشبة مسرح عارية، فإذا سار إنسان عبر هذه المساحة الفارغة في حين يراقبه آخر، فإن هذا كل ما هو ضروري كي يتحقق فعل من أفعال المسرح – وعلي الرغم من أنه أضاف قائلاَ إن هذا ليس كل ما نعنيه بالمسرح، ولكن علي الأقل أنه توافر أهم الشروط، وهذا ما حدث في عرض _ بُصى – الذي سأطلق عليه الآن صفة العرض المسرحي بما له وبما عليه ولكن سأحترم توصيف هذه المجموعة لنفسها وللعمل، لنتحدث إذن عن المساحة الفارغة التي كانت عبارة عن مسرح يشبه المكان المخصص للأفراح الشعبية الفقيرة في الشوارع في ساحة الأوبرا أمام مبني المجلس الأعلى للثقافة .. مساحة صغيرة بإمكانيات متواضعة في الصوت والإضاءة ولكن أمام عدد كبير من الجمهور تجمعوا حول هذه المساحة قعوداَ ووقوفاَ لمن لم يحالفه الحظ في العثور علي كرسي، وما يلفت النظر قبل أن يبدأ العرض هو ليس فقط عدد الحضور ولكن التنوع في الجمهور الذي لم أشاهده في مسرح من قبل، فهناك المنتقبات والمحجبات والمتحررات، باختصار يمكن أن تشاهد كل ما هو متاح في الشارع المصري في هذا الجمهور، وهذا ليس غريباَ فالمادة المعروضة في المساحة الفارغة التي يراقبها هؤلاء تخص الجميع أيضاَ تفاعل معها الجميع أثناء العرض.

تبدأ الأحداث أو قل الحكايات بطرح فكرة المسكوت عنه في المجتمع بالنسبة للنساء وبعد سرد لهذه الفكرة تقول الرواية: ( تصدقوا فكرتوني بموقفين ...

مرة كنت ماشية مع صديقة ليا جنب سيتي ستارز وفجأة واحد عدي في عربية وقال لي "أنا عايز أحط تييييييت جوا تيييييت"!

بعدها بأسبوع لاقيت شخص تاني في 26 يوليو في الزمالك بـ ينادي عليا " يا آنسة !" وأول ما اتدورت قال لي :"عايز (......)!"

اتدورت شكرته علي حسن استخدامه للغة وعدم تكراره لجملة زميله

وعلي فكرة لولا علمي بأن الكلمتين دول حتما ولابد هـ يتشالوا كنت كتبتهم لأني مش جايباهم من عندي !أنا مش عايزة "آبح" لكن في نفس الوقت مش هـ جمل!)

وهذه الفقرة التي تم سرها في البداية حددت اتجاه العمل، ورغم محاولة تهذيبها قدر المستطاع ولكن دون الإخلال بالهدف أو مغزي الرسالة، وإن كنت أتفق معهم في أن هذه المفردات تقال في الشارع المصري بصورة تدعو إلى القلق، وأنني أيضاَ أنحاز إلى مناقشة هذا الواقع وطرح أسئلته دون زيف أو تجميل إلا أن للفن شروطا لا يمكن التخلي عنها، نقول ما نشاء ونناقش ما يحلو لنا ولكن بشروط الفن سواء كان الحكي أو المسرح أو حتى فقرة غنائية في فرح شعبي، تتواصل الحكايات لتطرح بقوة أسرار البنات والشباب وتغوص في أعماق المجتمع البطريركي ولكن لا تقف عند هذا الحد لتكون حكايات نسائية أو تتبع ما يعرف بالنسوية ولكن هذه الحكايات تناقش عشوائية المجتمع المصري وتتقرب بقوة من السياسة مما جعل جمهور الحضور يتفاعل معها.

فليس فقط الأسرار المسكوت عنها بين الرجل والمرأة ولكن ما تتعرض له المرأة من قهر هو نتيجة طبيعية لعشوائية هذا الواقع، ولنقارن بين ثلاث حكايات سوف أقتطف أجزاء منها لنعرف كيف يفكر هؤلاء ودون شك لديهم الحق، ولكن هل الفن أن أضع ما هو في الواقع خبط لزق؟ ويقيني أن هذه هي المشكلة، وسوف أناقش من خلال أهداف وآراء هذه المجموعة التي تقول أن تؤمن بأهمية تأثير هذا النوع من الفن، وسأقول لهم إذا كانت المعالجة بهذه الصورة السطحية سوف يكون التأثير سطحياَ أو ينعدم .... ولنقرأ هذه المقتطفات، والحكاية الأولي تطرح صورة البنت المتناقضة حيث تقول الحكاية:

( موضوع إنك تعرف البنت دي موافقة ولا لأ سهل جدا لأن حركاتهم بقت مفقوسة ومتكررة، مبدئيا اللبس بـ يديك فكرة كويسة بالذات المحزق، زي مثلا لما تلاقي واحدة لابسة بادي كارينا وعلي صدرها قلب ولا وردة ولا كلمة، ده أنا مرة شفت بنت لابسة بادي مكتوب علي منطقة الصدر HERE ! تفتكر يعني قصدها أروح ألعب بلياردوا هناك؟؟ ولا لم تلاقي واحدة لابسة بنطلون محزق وعليه رسومات باينة أوي علي جيب البنطلون من ورا. والمحجبات كمان ! هما يعني دول مالهمش نفس)

حكاية جريئة ولكن ساذجة وسطحية يعرفها الجميع وأيضا تعرف كل هذه التناقضات؟ أليس كذلك

أما الحكاية الثانية فيختمها الراوي بهذه الخطبة:

( إحنا مجتمع عبيط صحيح وبيضحك علي نفسه! بنطالب بحرية المرأة وبنقول إنها نص المجتمع وفي نفس الوقت بنخبي البنت في البيت ونفضل نعايرها بأنوثتها!).

ثم الحكاية الثالثة التي يعرفها الجميع وتم مناقشتها في الأفلام والدراما التليفزيونية وعنوانها بنات للإيجار.

( علي نفس المقهى جلسنا .. اسمه خالد يعمل علي التوك توك في "المنوات" لكنه ليس منها .. من قرية مجاورة لا أتذكر أسمها الآن .. لكني أتذكر جيدا كلماته وجمله المحزنة التي قالها في بساطة أدهشتني بعد أن تخليت عن ملابس الممثل ، قال "عمرو ده يا سيدي بيشتغل كل حاجة .. بانجو ..سمسار جواز .. أي حاجة فيها فلوس".

وقال "مش وحده .. هنا فيه واحد اسمه صبري في سنه كده، نفس الحكاية".

وقال "يا عم بأي فلوس، لو فاصلت معاه يجيب لك واحدة ليلة، ليلتين ... بـ 100 جنية، ويجيب لك مكان تبات فيه كمان في البلد".

وقال "تعالي كدا بعد المغرب وشوف العربيات المرسيدس والبي إم مرصوصة هنا .. عرب! اللي عايز ياخد واحدة ويمشي واللي عايز يبات .. وكده يعني ".)

وعلي مدي ساعة توالت الحكايات في هذا الإطار وأعترف أنني انحزت للجرأة وتعرية المسكوت عنه في المجتمع ولكن هل لهذه المباشرة تأثير أم أنها تفريغ لبعض الكبت لا يختلف كثيرا عن الصراخ أو من يتلو وصلة من الردح ؟ كنت أتمني أن يتم وضع هذه المادة في سياقها الفني حتى يكون تأثيرها أكبر، تطرح الأسئلة، لا تجيب وتعظ وتخطب، أما المسألة الأخرى التي أثارها هذا العمل ليس المسكوت عنه في المجتمع لكن الأهم من هذا ضعف وهشاشة المؤسسات الثقافية الرسمية والأهلية التي أثبتت أنها كيانات من ورق خافت من مجموعة شباب كان يمكن توجيههم فنياَ لا رفضهم وطردهم، فتحية لهم وأيضاَ لدكتور عماد أبو غازي الذي دعمهم قدر المستطاع.

وعلي الرغم من إعجابي بهذه المجموعة وحماسهم إلا أنني أقول لهم إن الفن كما قال – هكسلي – ليس هو الحقيقية وليس هو الواقع، بل شئ آخر، إنه الحقيقة مقطرة ومصفاة كيماوياَ ..

  

بقلم / جرجس شكري

المصدر / مجلة الإذاعة والتليفزيون العدد 3931

17 يوليو 2010.

 

 

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,255,751