<!-- <!-- <!--
فى الدورة الثانية لمهرجان الموسيقى الشعبية الذى أقامه مركز الفنون بمكتبة الاسكندرية ثمة سؤال جوهرى يطرح نفسه بقوة وانا اشاهد الفرق المشاركة من مصر ودول البحر المتوسط الا وهو : ما صلة الموسيقى الشعبية بالرقص...ما الذى يربط بينهما؟ فالعلاقة عميقة جدا ، فلا موسيقى شعبية بدون رقص ولا موسيقى دون ان يتفاعل الجسد معها بصورة تلقائية وكأن ثمة هاتفا يأمر الاجساد بأن تتفاعل وتؤدى وتترجم هذه الأنغام علاقة خفية فما هى ولماذا.؟
دون شك هذه الأنواع من الموسيقى الشعبية ترتبط تاريخيا بطقوس وسياقات أجتماعية ، والطقس هو الأساس فى نشأة هذا النوع من الموسيقى وارتباطه بالرقص ،ويقينى أن هذه النشأة ولدت مع مولد الدراما/ المسرح عند اليونان ومن قبل فى القبائل البدائية التى كانت تمارس طقوسا بين الرقص والموسيقى والغناء وسائل للعبادة أو تفاصيل حياتها اليومية التى تشكل السياق الأجتماعى لهذه الشعوب ، فكانت طقوس الميلاد والموت والفرح والحزن والصلاة بواسطة الرقص والموسيقى ، وتباور هذا الشكل عند اليونان من خلال عبادة الاله
" دينسيوس " فمن خلال الطقوس والرقصات التى كانت تقام لعبادته والتى كان الكهنة يقيمونها لهذا الاله أصبح هؤلاء هم الممثلين وأصبح من يتولى الأنشاء هم الشعراء ثم توسع أختصاصهم فأصبحوا كتاب المسرح وولدت التراجيديا من محاكاة المحتفلين رقصا وغناء بعبادة الاله دينسيوس وذلك اعتقادا منهم أن هذه الأفعال وقاية من المأسى التى يمثلونها فيحدث لهم التطهير من هذه الشرور فالجسد يستجيب بشكل غريزى لهذه الموسيقى.
ففى الحفل الاول والذى كان لفرقة " الكفافة " من أسيوط حيث أدى هؤلاء بدون موسيقى فقط من خلال ايقاع الكفوف حيث كانت أيديهم وسيقانهم هى الأيقاع وليس فقط ما كان مبهرا تفاعل الجسد مع الصوت لهولاء اثناء الأداء بل ايضا عناصر المسرح التى يطرحها هؤلاء والتى هى جزء من اداء الفرقة .
حيث تفاعل الأجساد مع صوت الأيقاع الذى تحدثه كفوفهم ونوع الغناء الشعبى الذى يؤديه هؤلاء فغالبا ما يقود الجماعة واحد من الفرقة غالبا هو المغنى او صاحب الصوت الاقوى ، ولا يغنى فقط بل يمسرح هذا الغناء من خلال السرد المحض والذى لا يخلو من اللحن او الريستايتف بالاضافة الى الموال ودائما ما تنقسم المجموعة الى فريقين يتواجهان ويتقاطعان فى حالة من النشوة لا تختلف كثيرا عن نشأة الدراما عند اليونان ولكن بطعم مصرى خالص .... انه درس فى تجسيد الهوية المصرية والحفاظ عليها.
واذا تأملنا كلمات الأغانى فأن الدينية منها تعبر بقوة عن شدة الوجد والأنجذاب من ناحية المطلق ، أما الأغانى العاطفية فهى لا تخلو من الجنس ولا اقصد الذى يخدش الحياء ولكن يعبر عن حب حقيقى يصل الى اعلى الدرجات العشق وايضا هذه الكلمات لها دور فى تفاعل الجسد معها سواء المؤدى أو جمهور المشاهدين الذى يدخل الى حالة النشوة تلقائيا بالفطرة.
وسوف أتناول فرقة أخرى من البحر المتوسط وهى " كيكلوس " للفنون الشعبية من اليونان وهم من يونان شرق " روميليا " وصلوا كلاجئين عام 1906 واستقروا فى قرى شمال اليونان وعاشوا هناك ولديهم نفس ملابسهم الشعبية والرقصات والعادات والتقاليد والغريب ان أهم الة لديهم هى " المزمار" الذى لا يختلف كثرا عن المزمار البلدى المصرى ! وهم فريق من النساء والرجال يشكلون نصف دائرة على خشبة المسرح مع المزمار،اكورديون وطبلة وتبدأ الأيقاعات بطيئة ثم تعلو وما يحدث لا يختلف عن الدبكة الشامية سواء فى لبنان أو سوريا أو فلسطين ولولا أفتقاد الموسيقى الغربية الى " الربع تون " لتطابقت تماما معها !... وهم يؤدون ايضا بأجسادهم على أنغام الموسيقى بل ويخيل للمشاهد أن الموسيقى هى التى تتبع الجسد لا العكس فثمة موسيقى داخلية لهذه الاجساد هى التى ترسم الحركة.
واذا انتقلنا الى نوع أخر من الأداء الشعبى وهو ظاهرة تستحق أن نتوقف أمامها كثيرا من خلال الفرق المصرية المشاركة ومنها سلالم – مسار إجبارى – وسط البلد وهى فرق حديثة ورغم أنها تستفيد من موسيقى الجاز والروك الا انها تجسد حالة مصرية خالصة خاصة ان من يؤديها مجموعة من الشباب وهى موجهة ايضا لهذا الجيل ، أذ يقدم هؤلاء التراث المصرى من الغناء القديم لسيد درويش وصلاح جاهين وأخرين وايضا يبدعون نوعا من الغناء يستفيد من هؤلاء خاصة الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم.
وأخيرا يقول المايسترو شريف محيى الدين فى تقديمه لهذا المهرجان ، أنه يقدم نوعا من الموسيقى تمنح للجمهور أكثر من مجرد لأستماع حيث تقدم له فرصة اكتشاف الثقافات الموسيقية فى العالم وما يصطحبها من فهم وقبول للاخر ، وأضيف الى كلماته هذه ان المستمع المشاهد لهذا الأداء يكتشف المعنى الحقيقى للدراما وأصول المسرح التى يبدعها المجتمع ولا يتم اختراعها بل تولد فى سياق وأجتماع ما.
شاركت هذا العام ست دول هى قبرص ، وفرنسا ، واليونان ، وإيطاليا ، ورومانيا ، ومصر بأربعة فرق وأرجو ان تكون الدروة الثالثة حافلة بعدد أكبر من الفرق فنحن فى حاجة الى العودة الى الموسيقى الحقيقية حتى يتعلم هذا الجيل أن الموسيقى تختلف تماما عن ما يسمعه فى هذا العصر.
المصدر/ عن باب المسرح بمجلة الاذاعة والتلفزيون العدد 3921
8 مايو 2010
ساحة النقاش