لا أود بكل تأكيد أن تكون الكتابة عن الراحل الناقد الكبير فاروق عبد القادر كتابة من ينعي الرحيل الأخير لعالم الهدوء الأبدي.

ففاروق عبد القادر – رحمه الله- باق معنا بكل كتبه وترجماته الهامة القائمة علي الإنتقاء والأختيار العمدي الذي كان يقصد به دعم مسارات جديدة في مسار المسرح المصري مثل كتابه الهام "نافذة علي مسرح الغرب المعاصر".

الصادر في 1987 عن أهم أهل المسرح المجربين في القرن العشرين، وذلك قبل الإهتمام المحموم بالتجريب المسرحي بعد تبني الدولة للمشروع التجريبي منذ إطلاق مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في 1989.

وكذلك اهتمامه بآثار تشيكوف وتينسي وليامز وآداموف المسرحية التي ترجمها، وقدم فيها وجهة نظره في إيقاع الجملة المترجمة كحوار مسرحي يصلح للوضع علي لسان الممثلين.

أود أن أراه هنا بعيداَ عن النظرة الساخنة لمعاركه النقدية التي دخلها مع قامات كبيرة بعضها مؤثر للغاية داخل المؤسسة الثقافية الرسمية وكسب بسببها وحدة الإنقطاع للترجمة والكتابة العميقة.

وقد كان فاروق عبد القادر عندما يدخلها لا يمارس بها الإبتزاز النقدي ولا يستهدف إثارة الرأي العام الثقافي، فلم يكن قلمه مطواة يرفعها في وجه أحدهم لتمرير مسرحية ركيكة ألفها، ولم يكن يصدر عن دوافع شخصية تسعي لكسب رضا أحد النافذين القادرين علي المنح والمنع.

لقد كان يكتب ما يعتقد، كان حقيقياَ في كل شئ كتبه، وسواء وافقنا عليها أو اختلفنا معها فهي تخصه وتعبر عما أعتقد إخلاصاَ لواجبه المهني.

أما إعجابي الشخصي به فمصدره الحقيقي لم يكن إلا بيتر بروك، فقد توحد فاروق عبد القادر مع حلمه النقدي الذي تجاوز مجرد متابعة ما يقدم علي خشبة المسرح المصري في القاهرة وأقاليم مصر وفي الدول العربية، إلى دور حقيقي مؤثر للناقد وهو تقديم الأمثلة الحية التطبيقية لأعمال مسرحية هامة، ومن أبرزها بالإضافة لترجمته لمسرحية "الملك" كمحاولة للتعريف بمسرح الشارع المناسب للذهاب للجماهير في أماكنها مما يخدم حركة التنمية الثقافية في المجتمع.

وقد ترجمها عام 1968 مبكراَ قبل أن يتردد هذا المفهوم في أنحاء مصر والوطن العربي.. ومن أبرزها بالطبع ترجماته لكاتب المسرحي الإنجليزي "بيتر بروك" الذي قدمه عبد القادر للسان العربي في ترجمة رائقة تعبر عن فهم عميق لأبعاد التجربة المسرحية ومنها ما أصبح مراجع أساسية للأكاديميين والمهتمين مثل: النقطة المتحولة: أربعون عاماَ في خدمة المسرح، والمساحة الفارغة: هل المسرح ضروري في عالمنا، ثم إصراره علي تقديم الملامح الاخري لبروك فترجم في 2006 خيوط الزمن سيرة وشخصية لبيتر بروك.

وكان مصراَ علي استكمال ملامح المبدع الحر المنتمي للمسرح الحي الجديد العامل علي تنوع الثقافات، وثقل المحتوي المعنوي وجدة اللغة المسرحية، مما دفع بيتر بروك للتنازل عن حقوقه في الترجمة لصالحه حتي يسهل عليه عمله، وكي يبادله تقديراَ بتقدير.

إنه دور الناقد الحقيقي أن يقدم ما يراه إيجابياَ ويصل مسرحه الوطني بتيار المسرح العالمى، وعبد القادر لم يكن في هذا الصدد يترجم بتكليف رسمي أو من أحد الناشرين، كان يترجم منتقياَ وموجهاَ وبتكليف من ضميره النقدي.

إن اهتماماته المتنوعة بعالم النفس والرواية والقصة ونظرية الثقافة بشكل عام كانت في الخلفية العامة الأساسية التي تدعم عمله النقدي المسرحي، وقد كان من حيث الكم هو إنتاجه الرئيسى.

أما كتاباته النقدية التطبيقية في مجلات المسرح ثم المسرح والسينما ومجلة الطليعة ومجلة روزاليوسف وغيرها فقد تابع فيها عروض المسرح المصري منذ الستينيات حتي آواخرالتسعينيات.

وهي تعد وثيقة تأريخية نقدية تسجل وترصد الحالة المتحركة الواقعية للأيام المسرحية المصرية، وبعيداَ عن صدامية الكتابة وحدة وضوح نبرتها إلا أنك تلحظ فيها عدة أمور أساسية وهى:

أولاَ: إنها تصدر عن صرامة الاعتقاد بأن دور الناقد دور مقدس لا يقبل التعاطف أو المجاملة.

ثانياَ: إنها كتابة تصدر عن معرفة بطبيعة العلاقات الخاصة والحركة في دوائر الإنتاج المسرحي الرسمية والأهلية، وما يقف خلف الإنتاج المسرحي من جماعات ضغط ثقافية، وكان في هذا الصدد حريصاَ علي ذكر المسكوت عنه.

ثالثاَ: لغة عربية رائقة وسهلة وبليغة وذات إيحاء أبعد من معني الجملة البسيط، مع حس ساخر وحدة تشبة الكتابة بحد السكين.

رابعاَ: إدراك للسياق الثقافي العام، فقد كان يبتهج بعمق صلاح عبد الصبور ومقاله المزود بالهوامش والمراجع التأريخية عن الحلاج، يعبر عن حس وجهد علمي، والتزام مهني خاصة عندما يشير عبد الصبور إلى العدل والحرية في سياقه الستيني.

ثم يرصد أهم كتاب السبعينيات تحت عنوان: الفرسان الجدد يصعدون الخشبة المنهارة وقد أحاط يسري الجندي وأبو العلا السلاموني بحنو الخوف علي موهبتهما من الانصراف للكتابة التليفزيونية.

وهو ما حدث مع مرور الزمن خاصة مع الموهوب يسري الجندي أما السلاموني فقد أفلت قليلاَ ولم ينم في أحضان المسرح الآمن، ثم يقسو للغاية مع الثمانينات والتسعينيات كأنه يبحث عن جمال مسرحي مراوغ، ويرحل لاهتمام أكثر بالترجمة والرواية والقصة.

خامساَ: مقدرة علي مخالفة الإجماع والاعتراف النقدي العام، والخروج كناقد فرد ليس ضد المؤسسة الثقافية فقط، بل ضد الجماعة الثقافية ذاتها.

سادساَ: اعتناء ببحث وتتبع الاختيار الفكري للمبدع، فقد كان لا يحب هؤلاء الشكلانيين الجماليين بدون موقف فكرى.

وكان لا يخشي أن يصدر أقوالاَ بهذا الشأن مع قامات كبري حصدت الاعتراف الجماعي مثل المخرج الكبير الراحل نبيل الألفي، بل تأمل خروجه الكبير عن الإجماع عندما يتحدث عن عرض إيزيس للمخرج الكبير كرم مطاوع وهو نص للرائد الكبير المؤسس توفيق الحكيم، وكان العرض من أشعار الشاعر الكبير أيضاَ صلاح جاهين، فيصف العرض ليقول:

"يقف عرض (إيزيس) علي تلك الحافلة الرجراجة الزلقة بين العمل المتقن والعمل الزائف" إن أهم ملامح فاروق عبد القادر كناقد مسرحي، أنه كان يمارس دوره الاختصاصي علي خلفية معتقدة كمثقف عام ورؤيته للواقع والظروف الموضوعية التي يقدم فيها الإبداع.

لقد كان يؤدي عمله كرسالة يؤمن بها، وكان يدرك قيمة وقدر ودور الناقد المسرحي، كان فاروق عبد القادر بلا شك يقف في المنطقة الصحيحة للناقد والكاتب والمبدع ألا وهي يسار المجتمع والإبداع والسلطة والناس.

وأنا لا أقصد المعني السياسي الدقيق لمصطلح اليسار، لكنني أقصد بالكلمة موقع المسافة التي يتخذها الناقد لتأمل الحياة والناس والإبداع منها يراقب ويرصد ويحلل ويدفع ما يعتقد، وهي منطقة تجلب المشكلات وتصنع العداء وتثير حول الشخص ريبة غامضة، لكنها هي الأرض الحارقة الصعبة التي يقف عليها الناقد، ومنها يصدر صوته، وعلي المجتمع والسلطة وجماعة الثقافة والفنون احترامها وتدعيمها وحمايتها وتقبلها حماية لها من الصوت الواحد ومن أغنيات حلو الكلام الذي يضل من لا يسمع غيره – رحم الله الناقد الكبير فاروق القادر – فقد كان يعرف معني النقد، ما أحوجنا لتأمل درسه ومعناه في لحظة نحتاج فيها حقاَ للناقد الذي يكتب ما يعتقد.

 

بقلم/  د.حسام عطا.

المصدر / جريدة مسرحنا العدد 156

5 من يوليو 2010.

 

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,820,535