فن التدريس موهبة ليس مرتبطا بكم المعلومات التى يرددها الأستاذ لكه مرتبط بالقدرة على أقناع الطالب بأستاذية الأستاذ اولا يتبعها تلقائيا أهمية ما يقوله من معلومات أو موضوعات يضيفها بأسلوب مفهوم وجذاب وتصويرها فى أشكال قريبة من حياة الطالب ومجتمعه وسلوكه اليومى.

لذلك فصورة الأستاذ المعلم تظل محفورة فى ذهن الطالب حتى بعد المشيب...فكلنا على أختلاف أعمارنا وتجاربنا فى الحياة نتذكر أساتذتنا الذين أثروا فينا سلبا وأيجابا ممن علمونا فى المراحل المختلفة.

وأزعم أن الأستاذ سعد اردش نموذج للأستاذ المعلم المؤثر فى نفوس طلابه بعلمه الغزير ..فهو قارىء ومطلع يوميا ،يمتلك أسلوبا تصبغه هيبة الأستاذ التى تفرض على طلابه الأنصات والتركيز لما يقول ويولد فيهم الدفعة الى البحث والتحليل والتجريب ...وأحيانا يمارس ديكتاتورية العالم مع الطالب الكسول أو السفساط ...وغالبا ما يمارس الديمقراطية فى النقاش مع من يستشعر فيه الموهبة والأجتهاد والرأى المبنى على دراسة.

ولأ شك أن كل من شرف بالتعلم على يد الاستاذ سعد اردش سيؤيدنى فى ذلك ،فقد مر علينا اثناء الدراسة فى المعهد استاذة كثيرون لكن الذين علمونا فعلا وساهموا فى بناء شخصياتنا الفنية والأنسانية هم قلائل جدا على رأسهم الاستاذ سعد اردش الذى مازالت نصائحه وتعليماته تتردد فى أذنى وذهنى كلما شرعت فى إخراج نص أو نقد عرض مسرحى أو قراءة كتاب أو النظر الى لوحة تشكيلية أو تحليل موقف درامى.

فقد بدأت تجربتى معه قبل دخولى المعهد بعام عندما كان يقوم بعمل بروفات لعرض فى المسرح القومى وأردت أن أحصل منه على حوار يفيد ذلك ويتطرق الى حال المسرح الذى يسوء فسالنى أنتى بتشتغلى فين؟

فذكرت له أسم الجريدة التى أعمل بها واستطردت فى الحديث عن المسرح الأيطالى فقد قرات بعضا من كتبه فى ذلك الموضوع ...واننى أعتبره أستاذى ....ففوجئت به يقول هل أنت طالبة فى المعهد ؟ فنفيت فقال إذن لست أستاذك .... أستاذك هو الذى يدرس لك علما ويؤسسه ويحوله الى ثوابت تنطلقين منها ، فاندهشت من الرد لكننى أخذت الحديث وانطلقت بينا كلماته ظلت محفورة فى ذاكرتى.

وشاء القدر والتحقت بالمعهد وكان على رأس لجنة المشاهدة فتقدمت بمشهد للجارية شفيقة فى مسرحية " حلاق بغداد " فاخطأت فى جملة رفعت بها المجرور ثم أسرعت بتكرار الجملة مصححة أياها ثلاث مرات بأداء كوميدى تلقائى وبعد أنتهاء المشهد وجه لى أحد الأساتذة توبيخا على هذا الخطأ الأ أن الأستاذ سعد قاطعه قائلا هذه غلطة لسان ادركتها بسرعة وصححتها بل واكدتها ثلاث مرات.

ومرت السنون وشاء القدر مرة اخرى ان يكون مشرفا على مشروع تخرجى فى السنة الرابعة ....وكانت تغمرنى سعادة رائعة اذ سيتحقق الامر الذى نفاه عنى من قبل سيكون أستاذى بالفعل ,,,وذكرته بالموقف لكن يبدو أنه لم يتذكر ، لكننى كنت أتابعه باهتمام بالغ وأستفيد من كل معلومة يلقيها فاكتشفت سر الأقبال عليه من طلاب الدراسات العليا والماجستير والدكتوراه ، فقد كان من عاداته مع طلابه فى الجلسات الاولى أن يطرح مجموعة من الأسئلة ليفتح باب النقاش ويظل ينصت ثم يقترح نصا للمشروع فتوفره الطلبة ويقومون بقراءته وتحليله ومناقشته معه فى المحاضرات ويسير الأمر كانه استقر عليه و فى نهاية المحاضرة يطلب من كل طالب أن يختار عدة نصوص أخرى تتم قراءتها ومناقشتها وتحليلها  على نفس هذا السياق هذا السلوك أتبعه معنا فى البكالوريوس فقد كان عددنا خمسة ...ثلاث طالبات وطالبان فاقترح علينا نص "جريمة فى جزيرة الماعز " للايطالى " اوجوبتى " وبكل حماس قمت مع زملائى أحمد مراد وخليفة سالم وصفاء علم الدين وصافيناز محمود بتوفير نسخ و قرأنا النص وحللنا شخصياته وأحداثه وبقى توزيع الأدوار.

لكن المفاجاة أن يطلب الأستاذ سعد اردش من كل طالب فينا ثلاثة نصوص مختلفة تتناسب مع عددنا ومواصفاتنا فذهبنا الى المكتبة وفعلنا وأستغرقنا عدة أسابيع أخرى فى عرض النصوص وبحثها ومناقشتها معه ... فما أن ننتهى من نص حتى يبدأ الاخر بنفس القدر طارحا عدد من الاسئلة مما يدفعنا لأعادة القراءة والبحث فى النص.

وهكذا أستمر الحال الى أن وجدنا جميع " السكاشن " مجموعات الفرقة الرابعة استقرت على نصوصها ووزعت الادوار بل وشرعت فى الحركة على المسرح ، الامر الذى اقلقنا جميعا فكشفنا له عن مخاوفنا من ضياع الوقت فى قراءة النصوص دون الأستقرار على أحدها ويكون ذلك على حساب المشروع فقال : لقد قرا كل واحد فيكم ثلاثة نصوص وعرضها على الأخرون الذين ناقشوها وحللوها ايضا كل ذلك فى اربعة أو خمسة أسابيع اليس هذا مكسبا عليما وثقافيا يضاف الى رصيدكم المسرحى والثقافى حتى تتمكنوا من أدواتكم ، أنه فى نظرى أهم من المشروع الذى سيتم فى كل الأحوال وفى موعده ونصحنا نصيحة  أخبرنا أنه يكررها على كل دفعة يدرس لها وهى أن يستغل الطالب وجوده فى المعهد ليقرأ ويطلع ويبحث و يناقش و يستخدم المكتبة فانها الفرصة الوحيدة لتكوين ثروة لغوية وأدبية وثقافية  تعينه فى حياته العملية فان فعل ستتحول القراءة الى سلوك دائم فى حياته وان لم يفعل لن يفعلها بعد التخرج .

بعدها طلب منا أن نوزع على أنفسنا شخصيات مسرحية " جريمة فى جزيرة الماعز " فضحكنا بعد أن فهمنا الدرس وأثناء قيامى بالدراسات العليا فى الأخراج الدرامى وكان لى مشروع أشرف عليه الدكتور محمد ابو الخير وهو عرض " الزيارة " للمؤلفة اليونانية لولا اناغنوستاكى وكانت رؤيتى الإخراجية له تعتمد على التجريد المسرحى الأ من مراه كبيرة فى مواجهة الجمهور تنزل من السوفيتيه الى الخشبة أحيانا تعكس صورة الجمهور وأخرى تواجه البطلة نفسها من خلالها بالاضافة الى توظيفها كشاشة لبروجيكتور يعرض صورا كاريكترية لأفكار وشخصيات وعلاقات متداخلة تعج بها رأس ونفس البطلة .

كما كانت هناك ثلاث كراسى ذات خطوط مستطيله ومربعه ومغلقة يتم تشكيلهم أثناء العرض لتلعب الأضاءة الزرقاء والبيضاء دورا فى تصوير خبايا نفس المراة والمتاهات التى تدور داخلها وكان تشكيل جسد الممثل وقطعه للفراغ له دلائل يطرحها النص وبعد العرض و اثناء مناقشة اللجنة سألنى الأستاذ سعد : لما قدمتى العرض فى هذا الأطار التجريدى ؟ فقلت : انا لم اقصد أن يكون تجريبيا لكننى قصدت ان أعكس العالم النفسى للبطله واطلاقه يسبح فى الفضاء المسرحى الذى تعمه الوان خافته تؤكد الضبابيه واللااستقرار الذى تعانيه البطلة واذا أعتمدت على الحوار والطرق التقليدية فى القاءه لن أضيف للعرض غير الملل والرتابه لكن الحوار الذى تفسره الصورة المسرحية المعتمده على قطعة ديكورية سحرية تحول الفراغ وتشكله بأستمرار وتعمق الرؤية وتبرز قيمتها ومضمونها فقال: رغم انى لا اميل الى التجريب لأن النص كلاسيكى الأ انى موافق على ما تقولين اتعلمين لماذا ؟ فقلت : ربما أعجبتك الصورة المسرحية لكنه صمت لحظة ثم قال : لانك استطعتى أن تجيبى على كل لماذا التى وجهت اليكى من الحضور سواء فى اللجنة أو الجمهور الذى اشركتيه ضمن عناصر العمل ونصحنى نصيحة أحفظها عن ظهر قلب وسأظل حيث قال لى أفعلى ما تشائين طالما تمتكلين الأجابة العلمية والمنطقية على كلمة لماذا ؟

أما فى الدراسات العليا فكان مشرفا على مشروع التخرج و بعد قراءة عدة نصوص كالمعتاد طلبت منه أن يسمح لى أن أختار نص " الوابش " للمؤلف المصرى رأفت الدويرى فسألنى كالمعتاد لماذا مسرح مصرى؟ ولماذا رأفت الدويرى؟ والواغش بالذات؟ فاجبته اننى أرغب أن أخوض تجربة أخراج مسرح مصرى تحت أشرافه فلم يسبق لى أن تعاملت مع قلب مع المسرح العربى وأخشى أن يتولد حاجز بينى وبينه أما رأفت الدويرى فقد أستطاع أن يجذبنى من خلال الواغش بتفاصيل دقيقة عن البيئة الصعيدية وطرح أشكالية الثأر ومردوده على الأجيال الجديدة فى ظل الأنفتاح على التعليم ومحاولة تغيير عقائد وعادات رسخت قرونا فسألنى : بأعتبارك صعيدية هل تؤمنين بالثأر؟ فقلت طبعا اؤمن به اذا كان ثأر أمه وأعتبره واجبا مفروضا لابد من القيام به على أكمل وجه ثم عرضت عليه رؤيتى الاخراجية التى فرضت التدخل فى النص وأعادة صياغته بالحذف والأضافة حتى تحقق هذه الرؤيه لكنه فاجأنى قائلا على المستوى الفنى والتصويرى انا موافق على هذه الرؤية لكن على مستوى التنفيذ لن أسمح لكى بألاضافة فالنص له صاحب هو أولى به وعندما اخبرته اننى عرضت تصورى على هذا المؤلف الذى شجعنى وأيدنى فى ذلك اندهش من أجابتى ثم قال

 " هاتى منه ورقه مكتوبة بخط يده أنه موافق على تصرفك فى نصه " لقد علمنا كيف نختلف فى الراى بأسلوب علمى وعلمنا الا نتعدى على ملكية المؤلف دون أذنه وعلمنا أعتياد القراءة والبحث والتحليل والنقاش القائم على دراسة ومعلومات وثقافة ...علمنا الكثير والكثير فشكل ثقافة أجيال متعاقبة وأثرى وجدانه بعلوم وقيم فنيه وانسانية نستثمرها فى حياتنا العملية والشخصية فى لحظة نحياها فحفر أسمه وصورته فى قلوبنا التى تستنبض به ما حيينا .

 

بقلم / منى ابو سديرةالمصدر/ عن جريدة مسرحنا العدد 15421/6/2010

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,820,649