إنهم يرحلون، الأحبة يسافرون لعالم أجمل ويتركونها لنا بكل ما فيها من غلظة وقسوة. يرحل حبيبي وأخي وأستاذي وصديقي الرجل الطيب الدكتور عامر علي عامر. إنه يوم خاص يوم فقد ماتت الشجرة الوارفة المثمرة واقفة.
مات بغتة بعد معاناة صامتة مع مرض مؤلم لم يغير من قوته وصلابته ومحبته للناس والدنيا بل والتزامه الدائم الميقاتي بمواعيد عمله في المعهد العالي للفنون المسرحية، المكان الذي وهبه د. عامر عمره وموهبته وصحته وعلمه:
كان – رحمه الله – نموذجاَ لجوهر الشخص الذي يصلح لممارسة مهنة المعلم، فهو صاحب طبيعة ملتزمة وحساسية خاصة ناحية كرامته وسلوكه الشخصي، مع طبيعة تطوعية لعمل الخير ومساعدة الآخرين ولعل أكثر ما كان يستنفره للحرب من أجل الآخرين هو رؤيته لموهوب شريف يتعرض للظلم، وكم من حروب خاضها بالنيابة عن هؤلاء المستهدفين في موهبتهم حيث أعداء الموهبة من متوسطي القيمة كثر، ويملكون الطاقة السلبية لتأليف واختراع وتهيئة الأكاذيب للطعن في كل شئ وبلا حرمات ولا حدود، كان الرجل الطيب لا يبخل بوقت وجهد ومال لدفع الأذى عن هؤلاء.
كان كموقد مشتعل من الانفعال طوال الوقت، ولكنه يدهشك من قدرته علي التأمل، كان خبيراَ مثمناَ للمواهب وهو وراء الدفع بعدد كبير من نجوم الكتابة والإخراج والنقد للساحة الفنية فقد كان محترفاَ في منح الفرصة الأولي، رغم صعوبة حصوله علي كل ما حصل عليه من فرص في الدراسة والسفر والنشر والإخراج، فقد كان يعمل ككل الشرفاء عبر الطرق المستقيمة.
كان حقيقياَ في كل شئ، ورغم صرامته وملامح وجهه الجادة وملابسه ذات الألوان الوقورة، كان عامر علي عامر ملوناَ بكل ألوان قوس قزح.
كان من عشاق الحياة وكلما تقدم به العمر كان يزداد إحساسه بالسخرية، كان اهتمامه اليومي بعائلته الخاصة لا يمنعه من ممارسة العطاء المعنوي المنتظم لكل أصدقائه، كان يدهشني كثيراَ عندما أري لهفته لفعل أي شئ في استطاعته كي لا تتم هزيمتي، كان يدهشني أكثر عندما يهب لمنح الأصدقاء والتلاميذ أسباباَ للسعادة، كانت تبدأ بالدعوة للسمر وتمر برعاية الإنجازات العلمية والفنية ومباركة قصص الحب لتنتهي بالزواج، لقد وهب عامر علي عامر نصف عمره لمن أحب من الناس، كان من هؤلاء الذين عندما يغيبون يصبح العالم أقل بهجة وأقل إنسانية وصفاء.
وعندما أكتب الآن متأملاَ وجهه الإنساني الذي كان يحمل معاناة مفرطي الحساسية المتوترين معظم الوقت، لا أنسي أبداَ أن الله قد جعل في حياتي ذلك الرجل الذي كان يفرغني من جنوني عندما يملأني الصغار في هيئة الكبار بكل الإساءات البغيضة.
كان مجرد حضوره في الأماكن التي جمعتنا يشحنها بطاقة إيجابية هي طاقة الطيبين.
كان يغضب بشدة ويصفو سريعاَ كان يعذبه العداء بلا سبب، فلم يكن يقدر علي التعايش مع الكراهية اليومية التي تصنعها بعض علاقات التلازم الوظيفية، كان كالطفل الكبير عندما يكتب وعندما يغضب وعندما يحب.
ولعل إصراره علي منح الأطفال معظم مشروعه الإبداعي والعلمي كان توافق عالمهم البرئ الملون مع عالمه النفسي الذي كان يهرب إليه من وطأة الحياة.
ود. عامر علي عامر صاحب مسار مهني متنوع يصدر عن عقلية رجل المسرح الذي مارس التأليف والإخراج والنقد المسرحي، ومنح وقته رغم تنوع اهتماماته للدراسة العلمية وللعمل كمعلم لأجيال عديدة عبرت علي يديه للحياة الفنية كأستاذ للدراما بالمعهد العالي للفنون المسرحية، وهو المعهد الذي تخرج فيه سنة 1980 بتقدير جيد جداَ، وواصل دراسته العليا ليحصل علي دكتوراه في فلسفة المسرح في موضوع مسرح الطفل من كلية الآداب بجامعة الأوتونوما بمدريد بأسبانيا بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف الأولي، وخلال عمله العلمي المنتظم ساهم في المسار المهني الجاد حيث ألف العديد من المسرحيات، والتي عرضت علي مختلف مسارح مصر وبعض الدول العربية، ومن أشهرها مسرحية "أوراق منسية بس ليها أهمية" والتي عرضت عام 1978 بمسرح معهد الفنون المسرحية، ومسرحية الأطفال "ولد وبنت بيحلموا" سنة 1981 وعرضت بثقافة الجيزة وبمهرجان مسرح الطفل بالأردن في عام 1982، ومسرحية " ياسمين بتحب المزيكا" علي المسرح ذاته عام 1984، ومسرحية "حالة بلادة" وعرضت بالبدرشين 1985 وفرقة سوهاج المسرحية 1992، ومسرحية الأطفال "بنت العمدة" والغفير عام 1993 للفرقة نفسها، ثم "ثور ظريف جداَ" التي قدمها المسرح القومي للأطفال سنة 1994، ومسرحية الأطفال "سندريلا العندليب"، وعرضت بالإمارات سنة 1996، وأيضاَ عرضت بالثقافة الجماهيرية بسوهاج 1997، ثم مسرحية "الكتكوت الأصفر" وعرضت بالكويت عام 1999.
أما مسرحية "ليلة في قهوة السعداء" فقد عرضت علي قاعة عبد الرحيم الزرقاني بالمسرح القومي عام 1995، وأخرج معظم تلك الأعمال بنفسه، كما أخرج لغيره من المؤلفين مسرحيات عديدة منها "حفلة علي الخاذوق" لمحفوظ عبد الرحمن بثقافة الفيوم، ومسرحية "فيروز شاه" لحسن سعد بمسرح البالون وكذلك مسرحية "الأستاذ" لسعد الدين وهبه، وله عدد من الدراسات والمقالات المنشورة والنصوص المطبوعة والتلاميذ الذين يسيرون علي الأرض علماَ وفناَ وقدراَ يسيراَ من إنسانيته.
ولكن يظل إيمان مبدعنا الكبير الراحل د. عامر علي عامر بمسرح الأطفال هو الإيمان الرئيسي بالدور الهام والتربوي والجمالي لمسرح الأطفال، وهو الإيمان الذي جعله منشطاَ ثقافياَ فاعلاَ، سواء في التأليف أو الإخراج أو التدريس والتدريب أو اجتذاب الجيل الجديد من الموهوبين لذلك المجال، عبر نقل الخبرات وتأكيد الدور الثقافي الهام لمسرح الأطفال في إعداد الناشئة، وفي تربية الذائقة الجمالية للأجيال القادمة.
أكتب هذه السطور ولم تفارقني بعد صدمة رحيله، فلا زالت ضحكاته الصافية في أذني، كلي ثقة في رحمة الله الواسعة أن تفتح له روضة من رياض الجنة بطيبته ومحبته وعمله الصالح الوفير الذي لم ينقطع من الدنيا بكتاباته المنحازة للشرفاء وللجمال وللحق وللخير، رحمك الله رحمة واسعة أستاذنا الطيب النبيل الدكتور عامر علي عامر.
بقلم / د.حسام عطا.
المصدر / عن جريدة مسرحنا العدد 152
7 من يونيه 2010
ساحة النقاش