دائماً ما يقترن اسمه باسم كاتبنا الكبير "نجيب محفوظ" فكلاهم حقق فى حقل إبداعه ما يمكن تسميته بعلامة فارقة فيه، دون أن نبالغ أو أن نغفل حق المبدعين الآخرين فى انجازا ما أنجزه فى حقل الدراما التليفزيونية، ليس تزامنا فقط مع ابداعه، بل أيضاً فى سبقهم لإبداعه غير أن اسم "أسامة أنور عكاشة" صار ماركة مسجلة للأعمال ذات القيمة الفكرية والفنية العالية فى مجال الدراما التليفزيونية بصورة أساسية، مثلما نجح "نجيب محفوظ" فى تحقيق هذه الماركة المسجلة فى حقل ابداعه الروائى لا تضاهيها أية ماركة أو قيمة جمالية رفيعة أخرى أيضاً دون مبالغة أو غبن حق الآخرين فى ذات الحقل.
صحيح أن "عكاشة" بدأ ابداعه فى حقل السرد الحكائى، ونقلت عن أعماله الأولى قصص للدراما التليفزيونية قبيل تحوله هو لهذا الحقل الجماهيرى الواسع بل وجاء إلتقاؤه بفن السيناريو بطريقة مشابهة لدخول "محفوظ" لذات المجال، حيث طلب المخرج "صلاح أبو سيف" فى نهاية أربعينيات القرن الماضى من "نجيب محفوظ" أن يكتب له سيناريوهات لأفلامه الأولى (مغامرات عنتر وعبلة) و(المنتقم)، لما تميز به الأخير بكتابة الحكايات بوعى عميق وتحليل دقيق للعلاقات الاجتماعية، ويبدو أن الأمر قد حدث مع "عكاشة" حيث انجذب الأديبان وكاتبا السيناريو "سليمان فياض" و"كرم النجار" لمجموعته القصصية الأولى (خارج الدنيا) 1967 والتقطا قصتين منها، أعداهما فى سهرتين تليفزيونيتين، أخرجت الأولى منها "علوية زكى" والثانية "فخر الدين صلاح" الذى كان له فضل جذبه كاتباً لعالم الكتابة الدرامية، حينما طالبه بعد ذلك بكتابة سباعية، موفراً له، مثلما فعل "أبو سيف" مع "محفوظ" السيناريوهات المكتوبة ليتعرف على طرق صياغتها، فكتب له سباعية (الإنسان والسراب) عام 1976، وبعدها لم يغب لحظة عن الشاشة البراقة.
السينما والمسرح
ومع ذلك لم ينس "عكاشة" لحظة عشقه للأدب القصصى، وظل متمسكاً بصفته أدبياً، وحريصاً على أن يمنح المكتبة اعماله السردية بانتظام، بداية من مجموعاته القصصية (خارج الدنيا) و(مقاطع من أغنية قديمة)، مروراً بسردياته التأملية: (همس البحر) و(تباريح خريفية)، وصولاً إلى رواياته (أحلام فى برج بابل)، و(منخفض الهند الموسمى)، و(وهج الصيف) التى كتب لها كمسلسل السيناريو والحوار "عاطف بشاى" وأخرجه ابنه "هشام عكاشة" ورحل أثناء تصويره الممثل الكبير "محمود مرسى"، وكذلك (جنة مجنون)، و(سوناتا لتشرين).
كتب "عكاشة" أيضاً للدراما السينمائية، وأن لم يقدم فيها سوى أربعة أفلام فقط، انتجت خلال أربعة أعوام أيضاً، فيما بين 1989و 1992، وهى (كتيبة الإعدام) و(ساعة الصفر) و(الهجامة) و(دماء على الأسفلت)، وحتى الدراما المسرحية لم تغب عن عين كاتبنا المتميز، فقد بدأ منذ عقدين من الزمان الكتابة المسرحية، وقدم له الأعمال الأربعة المنشورة وهى (الناس اللى فى التالت) و(أولاد اللذين) و(ليلة 14) و(فى عز الظهر)، فضلاً عن مسرحيتين للقطاع الخاص هما: (القانون وسيادته) و(البحر بيضحك ليه)، ومع ذلك ظل "عكاشة" مصراً على كونه أديباً روائياً، مانحاً بعض مسلسلاته مصطلح (رواية تليفزيونية) متحدثاً عن مشروعه باعتباره (أدب تليفزيونى)، ربما حرصاً منه أن يظل شامخاً فى الحقل الذى برع فيه المقرون به "محفوظ" حتى أنه حصل منذ ثلاثة أعوام عن مجمل أعماله التليفزيونية المتميزة على جائزة (نجيب محفوظ) للتأليف الدرامى فى أول تدشين لها بمهرجان الاعلام، ووقتها كتبت هنا أنه من ناقلة القول الحديث عن وشائج القربى بين سيد الرواية المقروءة على صفحات الأوراق، وسيد الرواية المرئية المشاهدة عبر البث التليفزيونى، فكلاهما أنجز فى حقله ما يعد تأسيساً حقيقياً لفن الرواية بفرعيها المقروء والمرئى، وكلاهما نجح فى تقديم رواية الأجيال المتعاقبة، والتى تكشف عن هذه العلاقة المتفاعلة بين الفرد ومجتمعه، فلا أحد يستطيع العيش خارج جغرافيته وزمنه ووطنه بكل ميراثه التاريخى وطموحه لتغيير واقعه، وكلاهما أيضاً خلق شخصية روائية/ ودرامية صارت تمثل أفكاراً واجيالاً واتجاهات مثل السيد "أحمد عبد الجواد" والست "أمينة" و"سعيد مهران" و"سيد سيد الرحيمى" فى أعمال الأول، والعمدة "سليمان غانم" والسيد "سليم البدرى" و"بشر عامر عبد الظاهر" والعمدة "فتح الله الحسينى" فى أعمال الثانى.
بدأ "عكاشة" عالمه الدرامى التليفزيونى، متأرجحاً بين فنى القص والمسرح، وغلبت على أعماله الأولى مثل (طيور الصيف) المواقف محدودة الأمكنة، واللغة المسرحية البليغة، والجمل المباشرة، ثم سرعان ما بدأ يؤسس لدراما واعية بحرفية الكتابة، ومدركة لتقنيات الصياغة، ومرتقبة باللغة المنطوقة، ومعيدة انتاج الواقع بأزمته المختلفة: الماضية والحاضرة، فى ابنية تعبر عنها وتتجاوز محدوديتها لتخاطب أزمنة أخرى، ترسل لجمهورها رسائلها الآنية، فى الوقت الذى تتسامى فيه لترسل رسائلاً لجمهور ازمنة قادمة، خالقا بذلك فناً قابلاً للعيش والتجدد، صحيح أنه من الصعب حتى الآن، وان لم يكن مستحيلاً، تجديد التعامل مع ابداعاته الدرامية التليفزيونية، بتجدد مخرجين لها، كما هو الحال مع دراماته المسرحية، وكما يمكن أن يكون الأمر مع قصصه ورواياته، والقابلة لوضع سيناريوهات عنها، وذلك لأن طبيعة الدراما التليفزيونية، مثل السينمائية، تظل لصيقة الصلة بالمسلسل أو السهرة أو الفيلم الذى أظهرها على الشاشة.
فإذا كان الجزء الخامس مثلاً من مسلسله الكبير (ليالى الحلمية) قد واجه تعنتاً رقابياً وتحفظاً اعلامياً، فهل يمكن اليوم اعادة اخراج متنه الأصلى فى عمل جديد؟، بل هل يمكن اعادة اخراج (عابر سبيل) أو (عصفور النار) أو (على أبواب المدينة) بمخرجين اخرين وتقنيات اكثر تطوراً؟، مثلما تفعل هوليود اليوم باعادة اخراج افلامها وافلام غيرها القديمة بتقنيات اليوم المدهشة؟
سنة الحياة
صحيح أن ثمة تغيراً حدث فى عقل "عكاشة" خلال مسيرته الابداعية، وانعكس بالضرورة على رؤيته الفكرية وأبنيته الدرامية، لهذا لم تعرف دراماته، كما اشرت مره من قبل، الياس ولم تعلن خراب العالم، ولم تستسلم لرياح السموم، بل هى تحركت لتجند كل عشاق الوطن للوقوف ضد بيع تراثه، ورفضت رفع (الراية البيضاء) امام جحافل الجهل، وغرت مع (كناريا) رغم كل المؤامرات المورطة له والمستمرة فى استنفاده، مدركة أن (الشهد والدموع) هما معاً أساس الحياة، فلا بهجة دون ألم، ولا بكاء دون أمل فى التغيير.
هذا التغير الحادث فى ابداع "عكاشة" هو سنة الحياة عنده، حيث يدرك أنه لا ينزل النهر مرتين، (ومازال النيل يجرى)، غير أن هذا التغير لا يتم عنده إلا بالبحث الدقيق عن جوهر هذا المجتمع، لذا راح يفتش عن معدنه الأصيل ، فوجده مرة فى فن ابن قاهرة المعز العربى "حسن" (أرابيسك) المتمسك بفنه الرفيع، والرفض لصياغة مجتمع من خليط فاسد من القيم المكتسبة، فالنتيجة حتماً ستكون (بظرميط)، إلا أن مصرنا ليست هى القاهرة الفاطمية، فالوطن شاسع الأرجاء، يمتد من عمق أفريقيا، عبر السودان، ليصل الى شواطىء المتوسط غربى الهوى، فتهمل دراما "عكاشة" الباحث عن جوهر الهوية هذا المزيج الفرعونى الافريقى العربى فى صعيد مصر، لتتوقف عند شمال البلاد، مفتشة فى معشوقته الاسكندرية، وعالمها (الكوزموبوليتانى) الذى كان، عن هذا الخليط من الدماء الإيطالية والمصرية السارى فى شرايين بطل (زيزينيا) "بشر عامر عبد الظاهر" أو "بوتشى" فلا يجد نتاجها هذه المرة (بظرميط) بل هو تأكيد على عدم نقاء النوع، وعلى عدم رفض حضور الدماء والثقافة الغربية فى نسيج عقل المجتمع، وهو ما اكدته "نوراى" ابنة عشرينيات القرن الماضى وبطلة أحدث أعماله (المصراوية)، المتمسكة بمصريتها رغم الدماء التركية التى تسرى فى عروقها من أمها، فقد كان للوجود التركى فى ريف الدلتا المصرى حضوراً كبير خلال قرون طويلة من الزمان.
ذات يوم أعلن "عكاشة" أنه "مصرى الهوية، عربى الثقافة"، وهما امران غير متناقضين، حتى ولو كفر هو مؤخراً بالقومية العربية، فمعدة الوطن، كما قال "جمال حمدان" قابلة لهضم كل الثقافات، مقدماً مزيجاً مبهرا ًلشخصية ليس من السهل فكها لعناصرها الأولى، أو فهم أساليب تعاملها مع العالم.
بقلم/ د. حسن عطية المصدر/ عن مجلة أخبار النجوم العدد/ 921بتاريخ 27 مايو 2010
ساحة النقاش