جيران ، ليس مجرد فيلم تسجيلي ، لكنه وثيقة اجتماعية وسياسية وإنسانية وفكرية ، فتشت عنها كثيرا المخرجة التسجلية تهاني راشد ، فتشت عنها في حي جاردن سيتي ، في قصوره المهجورة وفيلاته التي تحكي تاريخ أصحابها ، في البيوت والمدارس والشوارع والحدائق وعلي اسطح المنازل وخلف اسوار السفارات التي تشبه الثكنات العسكرية والتي حولت هذا الحي إلي" كوردون أمني " حاصر سكانه .  

ذلك الحي الذي شهد تحولا مثيرا وملفتا خاصة بعد ثورة يوليو 1952 وتحولا جذريا في السنوات العشر الاخيرة ، وما هذا التحول إلا انعكاس رمزي لكنه واضح وصريح علي التغيرات والتحولات التي اصيب بها هذا الوطن ذلك المجتمع المصري الذي يعد " حي جاردن سيتي " ، مجرد شاهد عيان علي تحوله .

علي مدار ساعتين إلا ربع تمكنت المخرجة المصرية الكندية تهاني راشد ببحث شديد الوعي والانسانية شاركتها في هذا البحث الدكتورة مني اسعد المنتدب الفني لهذا الفيلم ومساعد الاخراج ايضا أن يقدما من خلال النماذج الانسانية المستعان بها في الفيلم شهادات حية

"من لحم ودم وذاكرة وذكريات وحنين " لترصد لنا التحولات السياسية التي شهدتها مصر وذلك من خلال مرأة المعايشة الحقيقية لسكان ذلك الحي والذين تم اختيارهم بعناية حيث نجد حوالي ثلاثين شهادة حية من سكان ومعاصري هذا الحي سياسيين وسفراء وبسطاء ومثقفين واثرياء ونخبة وابناء باشوات وابناء حراس منازل وباعة وكتاب وباحثين وموسيقار وفنانين تختلف وتتناقض رواياتهم وقصصهم وخلفياتهم لكن هناك رابط واحد قوي يجمعهم ويوحدهم وهو انهم " جيران" هم ابناء جاردن سيتي هم المتجاورون في ذلك الحي المتقاربون او المتباعدون في الافكار والرؤي والطبقة ، لكنهم ...... " جيران " ....... هم الوثيقة الانسانية والاجتماعية لمصر .

بذكاء شديد استطاعت تهاني راشد صاحبة 14 فيلما تسجيليا اخرها  كان الفيلم الذي اثار جدلا وصدمة وصحوة وتعاطفا فيلم "  البنات دول " ودخل في احشاء العالم السري لفتيات الشوارع الفيلم الذي حصد العديد من الجوائز الدولية والمحلية بعد ان تم عرضه في مهرجان  كان 2007 هو نفس الذكاء الذي تحركت به تهاني راشد في اتجاه فكري مختلف وهو ان تستغل مشاهدتها ومعايشتها الانسانية كاواحدة من سكان ذلك الحي منذ فترة طويلة تلك المعايشة التي حرضتها من علي ان تكشف وجها اخر لما نراه يوميا علي التحولات لكننا لم ننبه لها.... نمر يوميا علي جاردن سيتي التي تحولت ثكنة عسكرية بسبب السفارة الامريكية خاصة بعد الحرب علي العراق والتي اصبح سكانها شبه مسجونين داخل هذا الحصار الامني الذي يرمز إلي حصار اكبر فرضته امريكا علي مصر وفرضتها السفارة علي الحي .

غاصت تهاني راشد بعدستها وعقلها بين ذكريات وواقع هؤلاء السكان بين اصحاب البازارات الذين وصفوا تجارتهم بأنها " تموت " بسبب الامريكان فقد رفع بعضهم دعواي قضائية رافضين لهذا الحصار الذي خرب بيوتهم ومنع عنهم حركة البيع والشراء يقول الاخوان هشام وهاني الجابري اصحاب البازار "ممكن نقعد سنه ما يدخلناش سائح بعد ما كانوا بالالوف بعثنا لوزير الداخلية ورئيس الوزراء وطلبنا منهم فك الحصار والمتاريس عنا لو مش عايزين يعملوا لنا نزع ملكية ويعوضونا السفارة بقالها اكثر من نصف قرن كنا احنا اهل جاردن سيتي اللي بنحميها حتي العصافير بطلت تصوصو ....!"

ذلك الحال الذي تصور اهالي جاردن سيتي خاصة التجار انه سيتغير عندما حضروا حفلا دعا اليه السفير الامريكي السابق ريتشارد دوني الذي قال سائلا هل السفارة الامريكية مصدر ازعاج لكم ؟ اما الحاضرون وقد لبس كل مدعو منهم  اللي علي الحبل علي حد تعبير احد التجار قال شكونا للسفير حالنا فوعدنا السفير بأنه سيقيم مشروعات لتجميل وتزيين جاردن سيتي وفي النهاية زرع كام شجرة حول المتاريس الحديدية وعلق روبين ليرنر مساعد الملحق الصحف بالسفارة الامريكية 2008 علي اختلاف النظرة لامريكا وللامريكيين خاصة بعد حرب العراق قائلا "احنا صورتنا بقيت وحشة اوي زمان كنت تسأل المصري عن اهم 10 شخصيات في حياته كان يذكر علي الاقل 3 او 4 من الشخصيات الامريكية دلوقتي الوضع اختلف وموقفنا اصبح سئ لدي العرب  والمصريين والحلم الامريكي عمره ما كان ملك الامريكان وحدهم لكنه ملك العالم كله" كما ذكر ان ما يربط بين شخوص ومصادر هذا الفيلم هو "الجيرة" كلهم جيران فالسيدة الصحفية راوية المانسترلي التي تنتمي إلي عائلة أرستقراطية عاشت وتربت في جاردن سيتي تشهد علي تحولات هذا المجتمع قائلة : "للاسف إن الثورة جاءت بأحلام رائعة ، تعليم مجاني وده حق لناس كتير جاءت بحلم للعدالة ، لكن العدالة لم تتحقق وزادت المحسوبية والعنصرية ، للاسف مفيش حاجة عملناها Enough  اي بشكل كافي مفيش حاجة بنعرف نعملها لا يمكن لمجتمع لا توجد فيه عدالة أن يقف علي رجليه" نفس المنطق تحدث عنه عم احمد بركة الذي نجح في تربية ابنائه فوق سطح هذا المنزل في جاردن سيتي" عمري ما فكرت في الفلوس اللي كان يهمني هم العلم ...تعليم ولادي كان الهدف الحقيقي للاسف دلوقتي بأشوف شباب معهم بكالوريوس ويشتغلوا في القهاوي !!" أما الطبيب خلف بركة ابن هذا الاب المصري البسيط والذي تعلم في مدارس جاردن سيتي والقصر العيني ولم يخرج عن هذه الدائرة فكان خير دليل علي تغير أخلاق هذا الزمن "الان الاحترام بيشتروه .... اما علي ايامي كنا محترمين ونظرة الناس لنا كانت محترمة" ، أما السيدة الارستقراطية إيرين رستم "إحنا عشنا في البيت ده ، وفي الحي ده بس ما كناش عايشين وسط الناس كنا بنشوفهم من الشباك لما كنا نمشي في الشارع كانوا يقولوا لنا Your king is woman  دلوقتي الدنيا اتغيرت علشان الناس عاوزاك تكون  مصري علي طريقتهم وتكون مسلم بطريقتهم " أما الموسيقار سليم صيدناوي فأخذ يحكي عن فترة التأميم وكيف اثرت الثورة علي العائلة  " لما اخذوا صيدناوي ... سألونا ما اهم منصب في صيدناوي ماسكه واحد مسلم ، فقلنا لهم الاستاذ .... مدير قسم الاقطان فعينوه مدير المصنع ... عمل موكيت في المكتب في المكتب وجاب راديو وتليفزيون في المكتب وكان بيشتغلهم هما الاثنان في نفس الوقت ... قلت في نفسي  لو هي دي الاشتراكية تبقي حاجة سهلة اوي مقدرش استحمل واحد قاعد في مكتب ابويا .... سبت صيدناوي بعد شهرين ،الغريبة إني وانا في مصر كانوا بيفتكروني شامي وفي لبنان بيفتكروني مصري وفي اوروبا بيقولوا علي عربي .... ما انا لازم اكون تصنيف وحاجه في عيون الاخرين بس انا سليم صيدناوي "

 

تحركت تهاني راشد بعفوية بين البسطاء والتقطت شهاداتهم علي هذا الزمن وذلك الحي وعن احوال مصر وعن العيشة فقال إبراهيم ... السايس الشاب  " هي دي مصر ... اللي يخاف ما يقدرش يعيش فيها " حارس العمارة العجوز  " انا باخدم وبحرس العمارة دي مقابل الاوضه ، ما باخدش مليم حتي غسيل السلم علي حسابي انا اللي باشتري الصابون والمقشة علي حسابي والباقي ارزاق علي الله "

رغم ان الفيلم يدور حول حي جاردن سيتي حي الاثرياء والارستقراطيين فهو ليس " مصر "

كما وصفه الروائي الدكتور علاء الاسواني كواحد من ابناء هذا الحي متحدثا عن تجربة عبد الناصر " عبد الناصر كان زعيما مصريا حقيقيا كان مضطرا لكي يستكمل مشروعه الوطني كان عليه ان يشغل ماكينة الاستبداد تلك الماكينة التي لم تتوقف منذ الزمن ، وتكتسب خبرة إضافية بمرور الزمن والمراحل السياسية المتلاحقة "

تحدث الفنان التشكيلي عادل السيوي من امام مدرسته الابراهيميه ومن امام  تمثال الزعيم عبد الناصر قائلا " انا متعجب جدا من النحات اللي عمل التمثال ده وجه عبد الناصر سرحان وشارد ، ليه يعمل زعيم سياسي بالصورة الباهته دي ويستطرد السيوي الحديث عن واقعة اعتقال اخيه لمدة عام ، تلك الواقعة التي هزت كيان اسرته وغيرت الكثير من شخصية  اخيه من تلك الواقعة التي لم يرد اخوه ان يتحدث عنها حتي يومنا هذا "

تلك الواقعة قد طالت المفكر الكبير الراحل محمود امين العالم الذي تعرض للاعتقال في عهد عبد الناصر ، لكنه لم يستطيع سوي ان يحب هذا الرجل رغم الظلم الذي تعرض له ذلك المفكر المصري الذي يكتب عن السياسة لا من اجل السياسة ولكن من اجل التغيير للافضل ذلك المكر الجميل الذي اصطحب  تهاني راشد في رحلة حول مكتبته منزله .

اقترب بالعالم من نافذة منزله وبعدسة تهاني راشد واصفا لها الموقع المحيط :" لو بصيت من هنا هتلاقي السفارة الامريكية ، ولو بصيت اكتر " ح يتقبض عليك " .

يحسب لاستديو مصر إنتاج هذا الفيلم " جيران " كما حسب له من قبل إنتاج " البنات دول " للمخرجة نفسها تهاني راشد .

بقلم/ امل فوزى المصدر/ مجلة صباح الخير27/4/2010

 

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,820,346