شكلت حضارات الشرق القديم أحد الأصول الهامة للتراث الغربي نظراَ لأن أوروبا هي الأمتداد الغربي لآسيا جغرافياَ وتاريخياَ وحضارياَ فاللغات الهندية الأوروبية نابعة من أواسط أسيا واللغة ليست مجرد أداة للتعبير بل تحمل في طياتها الفكر وتصورات العالم وقيم السلوك وقد دخلت من قبل ديانات الشرق في الدين الروماني حيث كان الشرق في ذلك الوقت مهد الحضارات في جميع مناحيها.
وقد أستهوت الديانات الشرقية القديمة بعض حكماء الروم وفلاسفتهم فتحولوا كأفراد إلى أخلاق الشرق القديم، فظهر في روما دين "سيبيل" CYBELE إلهة الطبيعة عند آسيا الصغري والإلهة "مابيللونا"MABELLONA إلهة الحرب الشرقية، والدين "الفريجي "PHRYGIAN الذي ظهرت طقوسه في أساطير الخصوبة عند اليونان والرومان والعديد من الديانات الأخري التي وصلت إلى روما مع الجنود ووصلت معها اليهودية والمسيحية.
ومن سوريا إنتشرت لدى الرومان آلهة الشام التي حملها العبيد والتجار والجنود السوريون إلى روما وكذلك طقوس التنبؤ بالمستقبل والسحر وفدت من بابل إلى روما وانتشرت عبادة الشمس والكواكب وكذلك ديانات الحيوانات المقدسة، والأضحيات البشرية وتأسس نظام الرهبنة ثم الإنقلاب عليه في ديانات الخلاص والتصوف والإشراق وفي مصر تأسس دين "سيرابيس"CERAPIS الذى أنتقل إلى اليونان ثم روما فمارس الرومان شعائر المصريين وطقوسهم وذاعت عقيدة خلود الروح والعالم الأخر كي تفتح بعداَ جديدا َفي الوعي الروماني .
وأمتد ذلك أيضاَ للفلسفة، فالفلسفة اليونانية كانت متصلة بأسيا الصغري التي كانت بدورها علي أتصال جغرافي وتاريخي من ناحية الشرق بحضارات ما بين النهرين وبالديانات الشرقية خاصة من فارس فظهرت تأثيرات صوفية إشراقية وديانات باطنية إشراقية من فارس خاصة الزرداشتية، وكان فيثاغورث علي إطلاع برياضيات الشرق وتصوفه، ودرس أفلاطون في جامعة منف حوالي خمسة عشر عاماَ وربما تكون نظرية المثل الشهيرة لديه قد تأثرت بقيم الفن المصري القديم، الذي ينتقل من مستوي التعبير عن الصورة المرئية إلى التعبير عن الصورة الذهنية فالفنان المصري القديم لا يرسم أفراداَ بل يرسم المثال الذي تتحد فيه الأنواع والأجناس ، إن كل الجوانب الإشراقية الصوفية في الفلسفة اليونانية إنما هي إمتداد لحضارات الشرق بما في ذلك باطنية سقراط وتأملات طاليس والطبائعيين الأوائل في نشأة الكون والحياة.
وكما كان الشرق القديم وراء التراث اليوناني الروماني كمصدر للوعي الأوروبي وكان ايضاَ وراء التراث اليهودي والمسيحي كمصدر آخر لذلك الوعي، فالتوراة إن هي إلا مجموعة من أدبيات لها مثيلها في بابل وآشور وأكاد وكنعان، وقد تمت مقارنات عديدة بين ملحمة جلجامش وسفر التكوين لبيان كيفية تكوين الثاني علي نمط الأول.
وفي الأناجيل أول من بشر بميلاد السيد المسيح هم ثلاثة مجوس من الشرق، ونشأت المسيحية في بيئة تعرف الزرداشتية، واستمر الأثر الشرقي في الأناجيل واستمرت الفلسفة المسيحية في الشرق متمثلة في الفلسفة البيزنطية التي اعتبرتها المسيحية الغربية إنحرافاَ عنها.
وخرجت الرهبنة من صحراء مصر الغربية، وأسسها القديس أنطونيوس في القرن الرابع الميلادي وبالتالي أصبح الشرق في قلب الغرب، ثم ظهرت الأفلاطونية المحدثة والهرمسية لتكشف عن مدي حضور المصدر الشرقي القديم في الوعى الأوروبي حيث حمل أفلاطون مؤسس الأفلاطونية الحديثة شوقه الشديد لتعلم الفلسفة الهندية، وسافر إلى إيران وبعد رجوعه افتتح مدرسة فلسفية في روما فكانت جميع مبادئه وأعماله متأثرة بالأفكار الهندية.
وفي مصر نشأت "مدرسة الأسكندرية" التي تضع قواعد التأويل الرمزي للنصوص الدينية في اليهودية والمسيحية تحت تأثير التأويل الباطني الشرقي والبحث عن معاني النصوص في أعماق النفس البشرية وهي مدرسة شرقية بالأصالة، تأكدت فيما بعد ذلك فى التراث الإسلامي عند إخوان الصفا وفي الفلسفة الإشراقية عند الفارابي وابن سينا والتراث الصوفي كله.
ثم كانت الحضارة الإسلامية ودورها الكبير كأحد روافد النهضة الأوروبية الحديثة من خلال علومها خاصة الفلسفة وعلوم الكلام والعلوم الطبيعية والرياضية، وقد استطاعت التأثير علي رؤية العصور الوسطي في الصلة بين الإيمان والعقل، فبعد أن كان الإيمان يتجاوز حدود العقل وكان سداَ لا يستطيع الوصول إليه أو إدراكه أصبح الإيمان هو العقل والعقل هو الإيمان، كما أعطت نموذجاَ جديداَ بالنسبة لصلة الفضل الإلهي بالطبيعة وأعطت نموذجاَ جديداَ هو إتفاق العلم الإلهي والإرادة الإلهية مع قوانين الطبيعة.
إنه من الحكمة الإلهية أن نعيش في عالم يحكمه القانون دون أن يقلل ذلك من تصورنا للإرادة الإلهية وبالتالي اعطت الفلسفة الإسلامية للعصور الوسطي المتأخرة إتفاق الوحي والعقل في مقابل النموذج المسيحي الذي يجعل الإيمان يفوق العقل، ويجعل الطبيعة تتجاوز قوانين العقل.
واستمر النموذج الإسلامي قائماَ فيما يسمي "بالرشدية اللاتينية" حتي القرن السابع عشر الميلادي حيث ازدهرت العقلانية الأوروبية لتستقل بذاتها عن عقلانية المسلمين وتقول أن الإغريق قد جاءوا في أعقاب الفرس والمصريين والكلدانيين كقادة للفن والعلوم وخلفهم في الزمان الرومان والعرب، والآن جاء دور الأوروبيين في الشمال الذين أستطاعوا التفوق عليهم جميعاَ، ومن هنا تكون النموذج الغربي الذي سنتحدث عنه بالتفصيل فيما بعد.
لكن هذا لم يمنع ظهور بعض الأراء المحايدة التي كشفت عن الأصول الشرقية في الفلسفة الغربية، فالعلامة "جوئرس"
(1776-1848)GORRES كان يري أن الإسكندر المقدونى اقتني عند هجومه علي الهند بعض المصنفات في الفلسفة والمنطق أرسلها إلى أستاذه أرسطو، فقد اقتبس مافيها ورتبه ونظمه في فلسفته ومنطقه، كما قال الفيلسوف الألماني " شوبنهاور" (1778-1860) إن فيثاغورث وأفلاطون اقتبسا التمثيل الأسطوري إلى أقصي مدي فقد حصلا عليه من الهند أو من مصر واستعملاه.
وقد أثبت العالم المحقق الألماني "رودالف آتوا" أن الفيلسوف الألماني "نيتشه" (1762-1820) كان يقلد في تصوره للمثالية الفيلسوف الهندي "شنكرا"، وبرهن المحقق الأمريكي "ميلا مد" علي أن عقيدة وحدة الوجود التي نشدها الفيلسوف الهولندي "إسبينوزا" (1632-1677) مأخوذة عن الفلسفة الهندية، كما أسس الفيلسوف الألماني شوبنهاور معظم فلسفته علي أفكار" أوبانيشاد، وفيدانتا" والبوذية" وقد اعترف هو بذلك.
وأقر نظيره الألماني " نيتشه" (1844-1900) في فلسفته فكرة التكرار الأبدي وهو صورة لعقيدة التناسخ.
ومع ذلك فإن الإتجاه الغالب هو طمس دور الشرق في تشكيل الوعي الأوروبي هذا الإتجاه الذي أسسته السياسة الإستعمارية، التي جعلت من الاستحالة أن يكون المستعمر مصدراَ لثقافة الدولة المحتله وحضارته حيث أن حجة الإستعمار أنه يقوم بعملية تحضر تمدن للبلاد التي يدخلها، "فالصياغة الغربية للثقافات الشرقية كانت مكملة للأيديولوجية الأوروبية والسيطرة السياسية".
ومن هنا بدأت مؤامرة الصمت وتحويل صورة الشرق في ذهن الغرب الإستعماري وفي فلسفته التاريخية منذ القرن الثامن عشر وكأنه موطن للسحر والخرافه بينما أصبح الغرب هو المركز الحضاري الأوحد للعالم.
بقلم/د. امل نصر المصدر/ كتاب جماليات الفنون الشرقية و اثرها على الفنون الغربية
ساحة النقاش