ضاق الحاضر بنا ،وغلقت أبوابه أمام وجوهنا ،فقررنا العودة إلى ملاذ آمن ،إلى كهف كان مضيئا في يوم من الأيام ،أما الآن فتغشاه الظلمة وتكتنف جنباته البرودة.ابتعدنا عن الحياة واكتفينا منها بظلالها.
نحن لا نحمل جوازات سفر تمكننا من النزول إلى شواطئ الماضي، ولا توجد أختام إقامة ومن ثم فهجرتنا إلى هذا الماضي ليست شرعية.
في القرن الفائت، قسم أرنولد تويني البشر إلى نوعين:الزيلوتي والهيرودي.الأول يواجه التحديات بالانسحاب إلى الخلف فارا إلى الماضي، يدخل قوقعته معلنا أيضا نهاية التاريخ عند نقطة ماضية يتصور أنها البدء والمنتهى، مغلقة على نفسها مكتفية بذاتها،فهي أصل كل فرع،ومصدر أي خير،فالعقل الموروث هو العقل الفاعل،وما الحاضر إلا انحراف وتدهور في إلغاء بات للعلاقة الجدلية المشروطة زمنيا ومكانيا بين الإنسان كفرد متميز مسنود بالعقل،وبين المجتمع ،الأمر الذي لابد أن يسفر عن فعاليات مجتمعية تكشف عن ثقافة متمايزة ومختلفة.
أما النوع الهيرودي،فهو الذي يستجيب للتحدي الراهن المحكوم بـ: "هنا والآن" بمزيد من التحدي مقتحما المجهول،مؤكدا على دور المعاصرة الفردية في إنتاج إشراقات جديدة تنتقل بالبشرية جمعاء من طور إلى طور آخر أكثر حداثة، ذلك أن الحداثة فعل متكرر عبر الحقب التاريخية وليس رهينا بفترة بعينها.
وقد أثبت علماء البيولوجيا أن عملية التطور الاجتماعي إنما هي عملية تجمع بين الثقافة والميول السلوكية التكيفية من ناحية،وبين الطراز الوراثي الظاهري أو الفيني Phenotype والطراز الوراثي الجيني Genotype وهو ما يسمى بالإنجليزية:
Geno-phenotype co-evolution
إذ لا يوجد جين يعمل في انفصال واستقلال عن غيره من الجينات ،وكذلك الحال بالنسبة للبيئات والمجتمعات،فهي محكومة بالتفاعل الحتمي.
كان المسلمون الأوائل من النوع الهيرودي،فقد أنكروا الجاهلية بما تعنيه من إثارة العصبيات والنعرات القبلية. وكانت الرسالة التي هبطت على الرسول الكريم بمثابة دعم الهي لما هو حادث على الأرض،إذ كانت الجزيرة العربية في طور العبور من مجتمع قبلي إلى مجتمع تجاري. جاءت الرسالة لتؤكد على توحيد الأرض لتتساوى وتتوازن مع العالم القائم آنذاك،فكان الإسلام برسالته السماوية ثقافة اتصال لا ثقافة انفصال.
إن أحد المعاني الاشتقاقية لكلمة Culture الإنجليزية هو شفرة المحراث.فالثقافة تفعل نفس فعل شفرة المحراث من حيث تقليب التربة وإظهار ما في باطنها من آفات وتعريضها لأشعة الشمس كي تقضي عليها،ووسائلها في ذلك: الفرز الدقيق لكل عناصر التراث ومناحيه والنقد والتأويل لمساعدة البشر على التكيف مع المستجد والمتغير،ومن ثم تأسيس قابلية للفعل الاجتماعي المتوثب للتطوير ولإشباع الحاجة الملحة ينتج عنها علاقات اجتماعية متوازنة وصحية تعمق معاني الانتماء وتؤكد الخصوصية القومية ذات الملامح الدينامية غير القابعة في زوايا التاريخ.
إن محاسبة أية أيديولوجيا أو منظومة فكرية لا يمكن أن يتم بمعزل عن منتجها البشري، هل هو قادر على الابتكار أم منحاز لنموذج متكرر، هذا الانحياز الذي يفاقم المشكلة ويزيد الطين بلة،ويجعلنا لقمة سائغة للطامعين والمتربصين ودعاة الهيمنة والسيطرة،ولنتأمل جيدا ما قاله الفيلسوف الأمريكي سكينز:
"مثلما أسفر التطور البيولوجي عن هيمنة أحد الأنواع،كذلك فإن التطور الثقافي للبشر سوف يفضي إلى هيمنة ثقافة على الثقافات الأخرى".
إن المنتج البشري العربي/المسلم -ولا جدال- لا نستطيع أن نباهي به الأمم،فهو الأقل إسهاما في الحضارة العالمية،فـ "النحن" أصبحت جماعة من المستهلكين المتباهين بما يستهلكونه،وكلما زاد الاستهلاك والإقبال على ما تنتجه الماكينة الخارجية والغربية خاصة ،كلما عد ذلك علامة من علامات التميز الفئوي والانفصال عن المجتمع، والحمد لله الذي "سخر لنا الغرب" كما جنح أحد المشايخ في واحدة من تجلياته.
إننا نؤكد ما سبق وذهب إليه العديد من مفكري الغرب أمثال "جان جاك روسو" حين قال " إن فرط الرخاء في منطقة الشرق الأوسط ومناخها المعتدل ومواردها الطبيعية الوفيرة إنما أدوا إلى ثقافة تأملية تتطلع باستمرار إلى "الما وراء" أي الغيبيات ،أما قسوة المناخ في أوربا وقلة الموارد الطبيعية وشظف العيش، فقد أدت بالإنسان الأوروبي إلى صراع مرير من أجل البقاء،وبالتالي أصبح فاعلا في التاريخ وليس أسيرا بين جدرانه.
"يظن الغرب أن الفروق بين عقليته وباقي العقليات أبدية ،ولكن ها هي تجربة الشعوب الآسيوية تثبت تهافت التحليلات الغربية وأنه بالإمكان تجاوزه والتفوق عليه ،وفي هذا الصدد ،يشير "كيشور محبوباني" في كتابه: "نصف العالم الآسيوي" إلى أسباب الصعود الآسيوي والتي تتلخص في الاهتمام بالبحث العلمي ،حيث قامت الصين بمضاعفة نسبة استثماراتها في البحوث والتنمية إلى الناتج المحلي أكثر من مرة، بينما ارتفع إنفاق كوريا الجنوبية على البحث العلمي من 9.8 مليار دولار في 1994 إلى 19.4 مليار دولار في عام 2004 مما أسهم في عودة الكثير من الباحثين الآسيويين من الدول الغربية ،وثاني أسباب الصعود الآسيوي: تأكيد مبادئ الجدارة والاستحقاق والذي لن يتأتى إلا بالفرص المتكافئة للأفراد ،إذ ينبغي الاستفادة من أي موهبة في جميع المجالات،ويشير "محبوباني" إلى أن هذا المبدأ مدهش في بساطته إلا إن كافة المؤسسات الإنسانية إنما تنجح لتطبيقها هذا المبدأ.
أما السبب الثالث والأخير فهو شيوع ثقافة السلام وعدم الدخول في نزاعات عسكرية تقضي على التنمية الاقتصادية ،وعلى سبيل المثال انتهجت الصين نهجا يقوم على "النهضة السلمية" ،مستفيدة من تجربة الاتحاد السوفيتي السابق الذي انهار بسبب التركيز على التنمية العسكرية.
يمكن للقارئ المهتم الرجوع إلى المراجع الآتية:
-الصدام داخل الحضارات، لـ دبيتر سنجاس(ترجمة شوقي جلال
-أركيولوجيا العقل العربي لـ: شوقي جلال
-نصف العالم الآسيوي الجديد لـ "كيشور محبوباني" ترجمة سمير كريم.
بقلم /د. سامح مهران رئيس اكاديمية الفنونجريدة نهضة مصر
ساحة النقاش