حديث التنوير حديث طويل متكرر،بل ويبدو تجريدا إذا شئنا الدقة،بما يعني أنه متروك لتفسير المفسرين واجتهاد المجتهدين
كيف نهبط بالتنوير إلى الأرض لنلمسه بأيدينا،ومن ثم نحاصر تشعباته ،ونضبط استخدامه
للتنوير -كما نعتقد- ثلاثة مسارات،هي ثقافية ،سياسية، واجتماعية /اقتصادية.وعندما نقدم الثقافي على السياسي،نكون قد أكدنا على أن اختيار شكل الدولة -أي دولة- إنما هو أولا وأخيرا اختيار ثقافي تظهر تجلياته في بقية المسارات.
يرفض التنوير على مستوى الثقافة أي افتراضات تدعي جوهرية الثقافات وثبات مكوناتها ،بما يؤجج معاني الصراع مع الثقافات الأخرى المختلفة عنها .ولا يمكن لهذا الرفض أن يتم دون الفصل بين الحقول المعرفية: الحقل المعرفي الديني -الفني-الفلسفي-العلمي البحت،على أن يتم التعامل مع كل حقل من هذه الحقول من داخله , استناداً إلى قوانين عمله الداخلية .فلا يمكن على سبيل المثال النظر إلى الدين من خلال قواعد العلم ،ولا إلى العلم من خلال المعطى الديني وإلا سنقع في خلط مدهش يسفر عن تحويل كتاب الدين إلى كتاب علم ويدعي كذباً ‘‘ احتواء الكتب السماوية على كافة النظريات العلمية ويتعسف في ذلك كل تعسف , أو يسفر عن عقل أشعري جديد يرفض مبادئ السببية أو لا يحفل بها على الإطلاق .
من شأن الفصل بين الحقول المعرفية أن يوجد تعددية ثقافية تعتمد على قيم فردية لا جماعية , هذا أولا .أما ثانيا،فهو يجبر الثقافة التقليدية على تطوير وعيها بذاتها بل والسعي إلى استبطان هذه الذات عبر نشاط تأويلي يعيد ربطها بالسياق الحاضر والراهن، ومن ثم يعيد بنائها وتجديدها من داخلها ،ويعلي من شأن الاختلاف على المماثلة والمغايرة على التجانس , ليصبح التنوع والانفتاح والتسامح هي المعايير التي يحتكم إليها المجتمع .
أما ثالث نتائج الفصل بين الحقول , فيتلخص في إيجاد نقاط تتماس بها الثقافات وتتوافق من خلالها الثقافة التقليدية مع الحضارة الحديثة , وتحضرني هنا إحدى المقولات الشهيرة "لطه حسين" الذي قال:" أريد أن آخذ من الغرب الثقافي ما يمكنني من محاربة الغرب الاستعماري ". ونذكر أيضا في هذا المجال جهود رفاعة الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا ممن سموا بجماعة المنار والذين ذهبوا إلى أن مشكلتنا مع الحضارة الحديثة إنما يمكن حلها بتأويل جديد للتراث .
أما التنوير على المسار السياسي، فلا يعني إلا الفصل بين السلطات التشريعية التي تسن القوانين وتراقب تنفيذها , والقضائية الضامنة لهذه القوانين والرادعة لأي خروج عنها ،والتنفيذية التي تقوم بتنفيذها .ولكن للأسف تتعطل عمليات التحديث في العالم العربي الإسلامي بفضل مركزية سلطوية تضع كل شيء في حجر السلطة التنفيذية وتجعل من السلطتين التشريعية والقضائية مجرد تابعتين لا حول لهما ولا قوة في مواجهتها , الأمر الذي يتمخض عن عنف عام وتجاهل للحريات الأساسية وحقوق الإنسان تحت مظلة من الفقر الدستوري المستخف بالديمُقراطية في توافق مدهش مع الأصولية التي ترفض قطعياً أي سلطة سياسية للأفراد أو الجماعات أمام حق التصرف المطلق للحاكم المسلم وخصوصاً وأن الشورى ليست ملزمة له , وتؤدي دورها من أعلى إلى أسفل، لا العكس ومن ثم لا تعتبر مشروعاً ديمقراطياً بالمعنى الحقيقي لكلمة ديمقراطية .
وبالانتقال إلى مسار التنوير الاجتماعي/ الاقتصادي نشير أنه لا تنوير بدون عدالة اجتماعية خاصة و أن هذا المفهوم قد تحرك بعد سقوط الكتلة الاشتراكية من حيز المساواة إلى حيز الإنصاف، ولكن حتى هذا الحيز غير قائم ولا موجود , فأكثر من 40% من تعداد الشعب المصري يعيش بأقل من 5 جنيهات يومياً وهو مبلغ يقل كثيراً عن الفلسطينيين في غزة، حيث بلغ دخل الفرد دولارين في اليوم ونحن بالطبع ندرك الفرق في التعداد السكاني , ولكن هناك أيضا فروقات هائلة في الإمكانيات والموارد بين مصر وغزة .
والموقف في الطبقات المتوسطة ليس أقل سوءا ،فهذه الطبقة شهدت تضخما Inflation بفعل التعليم غير الجيد بين أغلب شرائحها ،ومن ثم فقدت قيمتها في نفس الوقت الذي تتوق فيه إلى حراك اجتماعي يحسن من أحوالها ولا تجد أمامها من سبيل غير الأصولية فأصبحت مصدرة لها. خاصة وأن أغلبية هذه الطبقة من موظفي الدولة وأقلها من الحرفيين والتجار الصغار , ولم تسع الدولة إلى استيعابهم ضمن هياكل حديثة مثل الأحزاب، ومن ثم لم يجدوا من سبيل لحل مشاكلهم سوى الروابط التقليدية مثل الرابطة الدينية أو الانتماءات القبلية والعشائرية في مناطق مثل الصعيد .
إن العدالة الاجتماعية تتطلب إعادة توزيع الدخول الناتجة عن العملية التنموية , وإعادة توزيع المشاريع التنموية ذاتها جغرافياً بحيث تغطي كافة المناطق المحرومة ،وتتطلب كذلك التخلي عن اقتصاديات السوق المطلقة باتجاه المزاوجة بين التخطيط واقتصاديات هذه السوق وهو ما يتلاءم معنا كدولة نهرية تعتمد على الري الاصطناعي.
بقلم/ د. سامح مهرانرئيس اكاديمية الفنون المصدر / جريدة نهضة مصر
ساحة النقاش