مر الفن الموسيقي العراقي، منذ نحو ثلاثة عقود من الزمن، في واحدة من أنضب المراحل التي عرفها في تاريخه الطويل على صعيد العطاء النوعي. وهذا الحال يعكس مفارقة مزدوجة، حيث اقترن حصوله بتزايد اهتمام الدولة بدعم الموسيقى بشكل لم يعرف من قبل عبر قيامها بإنشاء المعاهد واستقدام بعض الخبراء الأجانب وإغداق الأموال على بعض الأنشطة والمؤسسات المعنية بهذا الفن الذي كان قد عرف، في النصف الثاني من الستينات تحديداً، نهوضاً واعدا وأصيلا صنعه الفنانون أنفسهم وبدون أي دعم من الدولة، وتجسد في ظهور حركة تجديد شبه شاملة تظافرت على خلقها جهود نخبة من الملحنين الشباب آنذاك (محمد جواد أموري، طالب القرغولي، كوكب حمزة، سامي كمال، كمال السيد والعديد غيرهم) والاصوات الحميمة (حسين نعمة، فاضل عواد، انوار عبد الوهاب، ياس خضر وسواهم) والنصوص الشعرية الشعبية الجميلة الجديدة (لا سيما قصائد الشاعر الكبير مظفر النواب ونصوص أخرى لعريان السيد خلف وزهير الدجيلي وطارق ياسين وزامل سعيد فتاح وأبو ضاري وعلي الشيباني بين غيرهم..) وتلك التراثية المكتشفة من جديد وخاصة روائع الشاعر الحاج زاير في الابوذية والزهيري.
لكن تلك الحركة الفنية الموسيقية البديعة سرعان ما أجهضت حال وصول حزب البعث إلى السلطة. فقد سارع إلى تنفيذ سياسة جديدة وطفيلية سميت بسياسة «لإمكان للحزن في عهد الثورة»، وهدفت منها السلطة البعثية الهجينة في الواقع إلى فرض رقابتها على الفن الموسيقي، الوجداني في جوهره، لاستخدامه في استراتيجيه أحكام سيطرتها على المجتمع بعد أن سيطرت على أجهزة الدولة بدءا بأدواتها القمعية. وهذه السياسة التي ركزت على مصادرة اللحظات الحميمة للفرد العراقي، تدرجت من جهة التنفيذ على عدة مراحل. تمثلت الأولى في حظر بث الأغاني «الركيكة» بالفعل. تلى ذلك منع بث الأغاني ذات البعد النقدي كنصوص الفنان الكبير عزيز علي، وحتّى بعض أفضل الأغاني الوجدانية التي قد توحي ببعد سياسي (كأغاني روحي، البنفسج، وسواهما من نصوص مظفر النواب..) ثم جاءت رحلة التركيز على أمطار المشهد بالأناشيد الشعاراتية والأغاني التعبوية وتبعيث الأغنية عموماً وهي عملية بلغت أوجها، في مرحلة لاحقة، في أرغام الفنانين على تلحين الأغاني التي تجمّل فظاظة النظام وفجاجة قائده ورموزه.
وهكذا، عبر هذه المراحل وبفضل تواطؤ جماعات انتهازية تعاونت معها نجحت السلطة في أحلال نفسها وبشكل مطلق وسيطاً ورقيباً وقيّماً أوحدا على الموسيقى العراقية التي دخلت منذ مطلع السبعينات في فترة مظلمة بكل معنى الكلمة. فقد تعرضت علاقة الفنان بالناس، التي هي منهله الأساسي في الإبداع، إلى نوع من القطيعة وبالتالي إلى تدهور جمالية وخصب النتاج الموسيقي العراقي الذي تحول في قسمه الأعظم الى مجرد ملحق بإعلام حكومي مبتذل وبليد باستثناء النتاجات النادرة لأولئك الذين اختاروا الانسحاب اضطراراً لحماية كرامتهم الفنية مع كل ما ينطوي عليه ذلك من الم صامت يشبه النزيف.
بمواجهة هذا الحال، كان طبيعياً أن تظل الموسيقى العراقية لفترة ما قبل انقلاب 1968، حاضرة بقوة وبكل عبقها وحميمتها ملاذاً بالنسبة للروح العراقية الجريحة. ولقد عزز ذلك ان تلك الموسيقى كانت قد استفادت من عطاء ظل يتواصل لأكثر من نصف قرن دون قطيعة تقريباً، ومن تراكم لم يكف عن التطور النوعي بفضل المثابرة الطيبة لثلاثة أجيال من الموسيقيين، تشابكت في ما بينها، وقدمت لنا عدداً من الفنانين الخالدين أبرزهم صالح الكويتي من الجيل الأول ومحي الدين حيدر من الجيل الثاني وجميل بشير من الجيل الأخير. لكن واذا كان الأولان قد نجحا فعلاً في بلورة اتجاه خاص بكل منهما، فان جميل بشير برز كوريث نموذجي الجدارة والوفاء من جهة وكمبدع أصيل من جهة أخرى. من هنا يأتي أجماع النقاد على اعتباره الممثل الأهم للموسيقى العراقية المعاصرة أو في النصف الثاني القرن العشرين في الأقل، دون أن يعني هذا قطعاً نسيان الفنانين الآخرين الكبار الذين زامنوه وساهموا بشكل مستقل عنه في بناء مجد هذه الموسيقى ونذكر منهم بوجه خاص رضا علي وعباس جميل وعبد الوهاب بلال وروحي الخماش وسالم حسين وسلمان شكر..
ولد جميل بشير في عام 1921 في مدينة الموصل الحدباء. ومنذ طفولته وحتى وفاته في لندن في 27 أيلول 1977 ظلت الموسيقى بمثابة مبرر وجوده الأساسي. تتلمذ في البداية على يد والده الذي كان صانعاً ماهراً لآلة العود وعازفاً مبدعاً تعرفه الموصل التي كانت مركزاً رئيسياً للموسيقى في الشرق الأوسط. إذ كانت ساحة لقاء وتفاعل بين الموسيقى العراقية وتيارات وأساليب الموسيقى التركية والعربية والكردية والإيرانية. وعندما غادر جميل بشير مدينته للدراسة في بغداد كان قد غادرها عازفاً ماهراً أصلا. لكن انتقاله إلى العاصمة العراقية لعب دوراً حاسماً في تطوره الكبير اللاحق. فقد تعلم الكثير من الدراسة في معهد الفنون الجميلة ببغداد واستفاد بشكل واضح من أستاذه الموسيقار الشريف محي الدين حيدر مؤسس ومدير المعهد، وظل يحفظ له اعترافاً بالفضل حتى عندما أصبح جميل بشير الموسيقار العراقي الأكثر شهرة، وعبّر عن امتنانه هذا من خلال نشره عدة تأليف موسيقية مجهولة لأستاذه، الذي بلور لديه نزوع المغامرة مع الألحان الصعبة والحرص على ايلاء الجانب التقني والعلمي أهمية خاصة في العزف كما اخذ عنه ضرورة تدوين النوتات الموسيقية لكل ما يقع بين يديه من الحان تراثية إضافة إلى ألحانه المبتكرة. وكان هذا الجانب يقصى عادة من حساب الموسيقيين العراقيين قبلئذ بسبب غرابته آو صعوبته
.
وفي معهد الفنون الجميلة أيضا استفاد جميل بشير كثيراً من الموسيقار التركي الكبير مسعود جميل الذي عمل لزمن في المعهد رئيساً لفرع الموسيقى، وظل كتاب «سماعي هماوند» الذي ألفه مرجعاً ثميناً لجيل من الموسيقيين العراقيين. فقد درس جميل بشير ستة سنوات في معهد الفنون الجميلة. إلا أن شهرته الموسيقية لم تنتظر تخرجه من المعهد إنما ذاعت بين الناس وهو طالب بعد. ومن الطريف ان نشير هنا إلى ما كتبه الشاعر السوري فخري البارودي عندما زار بغداد في 1943 حيث يذكر بانه حضر أمسية موسيقية تكريماً له أقامها طلاب معهد الفنون الجميلة ببغداد، وعندما سمع عزفهم أثار إعجابه بشكل خاص طالب في الصف السادس يدعى جميل بشير قدم معزوفة اسمها «سماعي ديوان» أثارت دهشته لجمالها وعمق أدائها إلى درجة أن البارودي وقف بعد العزف وارتجل أبياتا من الشعر تكريماً للطالب جاء في مطلعها جميل بشير انك سوف تغدو بشير الانس بالفن الجميل قليل في البلاد اذا عددنا عباقرة الفنون بكل جيل
وبغض النظر عن بساطة هذا الشعر، فان ما توقعه البارودي حصل بالفعل. فبعد تخرجه من معهد الفنون الجميلة عمل جميل بشير مراقباً للأناشيد المدرسية في وزارة المعارف. وبصفته هذه قام بوضع عشرات الألحان المخصصة للأطفال والتلاميذ ما لبثت أن عممت على مدارس البلاد وانتشرت بسرعة لما تتميز به من أصالة موسيقية وروحية جديدة. وقد جمعها مع النوتة فيما بعد ونشرها في كتاب بعنوان «مجموعة أناشيد المدرسة الحديثة»، صدر في 1949 عن مطبعة التفيض ببغداد. بموازاة ذلك واصل جميل بشير التألق في العزف على العود والكمان (وعلى البيانو فيما بعد). وحينما جرى تأسيس الفرقة الموسيقية العراقية الجديدة في العام 1948 اختير ليكون أهم عناصر هذه الفرقة التي ضمت أيضا خضر الياس، عازف الناي الكبير، وعددا من العازفين الآخرين. وقد سمحت له تجربته الطويلة في الفرقة بتطوير مهارة الارتجال الموسيقي لديه وأهلته للقيادة الموسيقية حيث كان يضطلع بنفسه بوضع نوتات الإلحان التي تؤديها الفرقة ويحرص على تدريب زملائه على تنفيذها بدقة بعد ان كان يقوم بتحفيظها لمن لا يجيدون قراءة النوتة منهم، كما سمحت له بتعميق معرفته بالتراث الموسيقي العراقي ليصبح احد ابرز الذين ساهموا في حمايته من الضياع وتطويره، اذ قام بتدوين أصعب الألحان القديمة لاسيما في مجال المقامات، من بينها مقام الراست الذي دونه من اول الى آخره وقدمه لأول مرة انطلاقاً من النوتة المدونة في أحدى حفلات معهد الفنون في أواخر الخمسينات.
ومن جانب آخر عمل جميل بشير على إضافة مقدمات موسيقية من تأليفه لعدد كبير من الأغاني الشعبية لتغدو اليوم جزءاً لا يتجزأ منها. كما رفد الموسيقى العراقية بعدد من الإلحان الجديدة والمبتكرة والمحافظة في نفس الوقت على الطابع العراقي. والى جانب دوره في الفرقة وفي مجال الإنتاج الموسيقي، عمل جميل بشير أستاذا للموسيقى، ولتدريس العود خاصة، في معهد الفنون الجميلة طوال فترة تجاوزت العشرين عاماً ساهم خلالها في تدريب وتكوين نخبة من الموسيقيين الذين لمعوا فيما بعد. وكتب عدداً من البحوث والدراسات الموسيقية التطبيقية أشهرها كتاب بجزئيين عنوانه «العود وطريقة تدريسه» نشره في عام 1961 وضمنه العديد من نوتات المقامات العراقية ولازال لحد ألان من بين أهم المراجع في هذا الصدد. ولقد تفرغ جميل بشير في العقد الأخير من حياته إلى الكتابة الموسيقية في بيته الذي حوله إلى «ورشة عمل» لتسجيل الأغاني العراقية.
من كل ما تقدم نستطيع ربما تكوين فكرة وافية حول المكانة الرفيعة التي يستحقها جميل بشير في تاريخ تطور الموسيقى في العراق. ودون الادعاء بأننا نعرف كل شيء عن هذا الموضوع سنحاول هنا الإشارة إلى الميادين الرئيسية التي توزعت عليها هذه المساهمة حسب معرفتنا الخاصة.
ساحة النقاش