لا شك أن غزو المسلسلات التركية كثيرة الحلقات للشاشة المصرية ، قد أثار الكثير من التساؤلات حول الأهداف السياسية والثقافية الكامنة خلف غزوها لعين وعقل المشاهد المصرى ، وحول التأثير الاجتماعى والنفسى الذى تتركه هذه المسلسلات الميلودرامية المائعة ، بما فيها التاريخية ، على الشخصية المصرية ، وهو ما سنؤجل الخوض فيه حاليا ، رغم أهميته ، لكننا نود التوقف عند نقطتين أساسيتين ، قد يكونا مدخلنا لمناقشة الآثار النفسية والاجتماعية والفكرية على الشخصية المصرية ، وهما طبيعة الدراما المقدمة ، وقدرة المشاهد على استيعاب مضامينها وأفكارها بصورة سليمة .

 

 

لم تغب مسلسلات الحلقات الكثيرة عن الشاشة المصرية ، وأن اتخذت شكل الأجزاء المتعددة ، مثل (الشهد والدموع) و(ليالى الحلمية) و(زيزينيا) و(المصراوية) و(المال والبنون) و(كيد النساء) وغيرها ، وأهتم بعضها بدراما تعاقب الأجيال ، وانشغل بعضها الآخر بنجاح الجزء الأول كمسلسل متفرد بذاته ، غير أن ما نشير إليه هنا هو المسلسل المهتم بتوثيق الحياة اليومية للمجتمع المصرى فى لوحات متصلة منفصلة ، مازجا بين الثقافة والإعلام والتربية ، والتى كان للمسلسل التليفزيونى القديم (القاهرة والناس) سبق التقديم فى هذا المجال ، منذ أواخر ستينيات القرن الماضى ، وكان يكتبه الثنائى "عاصم توفيق" و"مصطفى كامل" ويخرجه "محمد فاضل" ، وتمحورت حلقاته المتصلة الشخصيات ، المنفصلة الموضوعات حول هموم الحياة اليومية زمنذاك للأسرة المصرية البسيطة 0 وحاول مسلسل تليفزيونى آخر تقديم هذه النوعية من دراما العائلة المصرية ، بدايات القرن الحالى بعنوان (القاهرة 2000) ، من إنتاج قطاع الإنتاج ، وقام بكتابته سبع كتاب جدد ، وأخرجه ست مخرجين من الشباب ، بإشراف "محمد فاضل" و"أسامة أنور عكاشة" ، لم يستمر ، وحل محله أطول مسلسل مصرى متعدد الأجزاء وهو مسلسل (يوميات ونيس) ل "محمد صبحى" ، والذى بدأ منذ عام 1994 ، وأنتج له قطاع الإنتاج بالتليفزيون المصرى الجزء الثامن له مؤخرا ، وأن لم يعرض بعد ، بعنوان (ونيس والعباد وأحوال البلاد) ، ويتعرض لما حدث فى المجتمع المصرى عقب ثورة يناير ، وذلك من خلال أسرة المحامى "ونيس أبو الفضل" التى تضاعف أفرادها بحكم الزمن واتساع جغرافية وجودهم ما بين مصر والولايات المتحدة ، رصدا لردود أفعالهم تجاه الأحداث الاجتماعية والسياسية الساخنة والباردة معا ، وما طرأ على الشخصية المصرية من تغيرات عقلية ونفسية ، انعكست على سلوكها وعلاقتها بذاتها وبالآخرين فى ذات الوقت .

 

 

لا ينسينا هذا أقدم مسلسل قى هذا المضمار ، وهو المسلسل الإذاعى الأشهر (عيلة مرزوق افندى) ، الذى كان يقدم فى خمس دقائق يوميا منذ عام 1959 ضمن برنامج إذاعى أطول وأشهر هو (إلى ربات البيوت) الذى أسسته الإعلامية الرائدة "صفية المهندس" ، وكان يخاطب سيدات مصر القابعات بالبيوت ، يربين أجيالا من المتعلمين والعاملين والمؤثرين فى حركة المجتمع ، وكان المسلسل الإذاعى الناجح يقدم يوميات أسرة مصرية من تلك الأسر التى تشكل قوام المجتمع المصرى بأكمله ، تنتمى للشرائح المتوسطة من الطبقة الوسطى ، تكافح الحياة وتناضل بالتعليم والعمل اليومى ، ويعتمد على شخصيات محددة ، تنتمى لأسرة الموظف المكافح "مرزوق" تعايش الحياة وتتقدم فى الزمن لتختفى منها شخصيات وتضاف لها أخرى ، وفقا لحركة الحياة ذاتها ، وتناقش كل ما تتعرض له الأسرة المصرية من مصاعب ، وما تهفو إليه من أحلام ، حتى أنه لو توفر له أحد الباحثين بكلية الإعلام أو أكاديمية الفنون ، لإنجاز رسالة علمية حوله ، لقدم من خلاله قراءة دقيقة لما كان يشغل المجتمع المصرى وقتذاك ، ولوضع يده على الكثير من الحلول المبتكرة التى نجح المجتمع زمنها فى حل مشاكله .

كان المسلسل عبارة عن حلقات متصلة الشخصيات ومنفصلة الموضوعات ، ومستمرة فى التدفق ، حتى اغتالتها عقليات لم تكن واعية بقيمته ودوره الفاعل وسط جمهوره من المستمعين ، فأوقفته كما أوقفت البرنامج الأم (إلى ربات البيوت) ، وأن كنا نستمع اليوم لأفكار حول عودة هذا البرنامج الأخير ، كما أن لجنة النصوص الدرامية بالإذاعة المصرية رأت وأوصت بضرورة عودة مسلسل (عيلة مرزوق افندى)والبحث عن كتاب يستطيعون استكمال المشوار بنفس الشخصيات بعد أن كبرت ، وأنجبت أجيالا جديدة ، مثل "تفيدة" و"عديلة" وصاحبة الأمثال الشهيرة "أم على" .

 

 

كانت طبيعة هذه المسلسلات تقوم على المعالجة الدرامية لأحداث المجتمع الجارية ، عبر حلقات متوالية ، ولا تحتاج من المشاهد أن يعرف بداياتها ، بعكس المسلسلات التركية التى تتطلب من المشاهد أن يحمل بين يديه كتالوجا للشخصيات عن حياة "فاطمة" و"لارا" وحريم السلطان العثمانى ، ولهذا كانت قدرة المتلقى المصرى على المتابعة قدرة هائلة ، بل وتتوالى أجيال جديدة على المسلسل تتابعه من أية نقطة تتواصل معه فيها دون أن تفقد متعتها معه ، أو تضيع منها رسائله المستنيرة .

الطبيعة الدرامية التوثيقية ، والقدرة على الاستيعاب الواعى أهم عناصر هذه الدراما العائلية ، أما مسلسلات الصابون التركية فهى بحاجة لمجتمع غير منتج ومتفرغ فقط لحكاياتها الميلودرامية .

 

بقلم/ د. حسن عطية

المصدر / مجلة الإذاعة والتلفزيون

  فبراير 2013

 

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,870,493