مصطلحات كثيرة وجد رجل الشارع نفسه أمامها، لا يعرف معناها جيدا، لكنها تتردد من حوله، وقد ترتبط بها مصائره، بدأت هذه المصطلحات بلفظ فى القرآن الكريم، تم استخدامه تجاه المسلمين أنفسهم، فوجد المسلم المؤمن باله، والناطق بالشهادتين شخصا آخر يصفه أنه كافر "كافر"، واختلطت المفاهيم الاجتماعية، التى أخذت بعد ذلك شكلاً سياسيا. وكان السؤال من هو "الكافر"؟ وما هى أوصافه؟. ولابد تبعا لذلك أن يطرح سؤال آخر: من هو المؤمن، وما هى مواصفاته؟
وتحركت عجلة الأحداث بسرعة، فأصبح رجل الشارع العادى، الذى يمارس شعائره بتلقائية يصلى ويصوم رمضان، ويؤدى الزكاة وينطق بالشهادة، وإذااستطاع أن يحج يفعل، أصبح يسمع تعبيرات مثل "الإسلام السياسى" و"التطرف" و"السلفية" و"المتشددون" و"السنيون"، ثم سمع عن تكوين منظمات سياسية دينية تنادى بتطبيق الشريعة الإسلامية دون اجتهاد، وبدأت مواجهة بين هذه الجماعات والدولة، فتنافست على دخول الانتخابات، بداية من مجلس الشعب واتحادات الطلاب فى الجامعات والمدارس، ثم النقابات المهنية، ثم وصلت إلى حد استخدام السلاح، والاستيلاء على ثروات المحلات الكبرى خاصة محلات الذهب واستحلال هذه الأموال باعتبار أنها من منظور أصحاب هذه المذاهب أموال كفرة، حتى ولو كانت لمسلمين.
ثم ظهرت دلائل العنف، قتل الشيخ الذهبى واتهامه بالكفر، وهو رجل دين وقور، وانتشرت فى الجامعات ظاهرة الجلباب الأبيض، والذقون الطويلة كرمز لتنامى هذه التيارات، أكثر منها تمسكا بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وانتشار حجاب المرأة بدافع الحشمة والسير على هدى السنة.
وبدأت ظاهرة العنف المسلح الذى تمارسه هذه الجماعات، فانفجرت مقاه، وتمت مهاجمة السائحين باعتبارهم مصدر ثروة للبلاد، ولأنهم يمثلون دلا جاءوا منها، ولاشك أن قتلهم يحرج السلطات السياسية. وعلى الفور بدأت الدولة فى التصدي ومواجهة العنف بعنف أشد منه أحيانا، وظهر على السطح اصطلاح "إرهاب"، ويعنى فى أبسط معانيه أن الإرهابى هو ذلك الشخص الذى يود إرغامك على اقتناع فكر، حتى ولو بالسلاح، رغم أن الدين نفسه يدعو على (جادلوهم بالتى هى أحسن).
وعند هذا الحد، نظر السينمائيون بعيون الحذر، والسلبية إلى ما يحدث حولهم، ولم يجرؤ أحد أن يدلو دلوه، لدرجة أن البعض كان يرى أن مسألة مواجهة سياسية بين الدولة وتلك الجماعات، وأن دور الدولة بمؤسساتها هو القضاء عليهم. ولم يأخذ هؤلاء السينمائيون الضوء الأخضر إلا بعد أن أعلنت الدولة عن المواجهة الحاسمة، وقد بدأت هذه الظاهرة عقب وقوف الدولة ضد شركات توظيف الأموال التى تعاظم دورها، وبدأت تشكل خطراً على قوة الحكومة نفسها، فرأينا فى بعض الأفلام حكايات عن أصحاب هذه الشركات وقد تستروا بالدين، فحققوا مكاسب عالية، مثلما حدث فى "كراكون فى الشارع" لأحمد يحيى و "إمرأة واحدة لا تكفى" لإيناس الدغيدى.
وأثناء ذلك بدأت ظاهرة إقناع الكثير من الممثلات ونجوم السينما بأن أموال الفن حرام، وأن الفن كله حرام، وبدأت هذه الظاهره باعتزال راقصة ظهرت فى بعض الأفلام وهى هالة الصافي، ثم الممثلة شمس البارودي، وبلغت هذه الظاهرة ذروتها حين اعتزلت شادية وارتدت الحجاب، وقيل أن السبب أيضا يتعلق بمرضها. وانتشرت الظاهرة بانضمام سهير رمزى، ومديحه كامل، وسهير البابلى، وهالة فؤاد التى أصابها مرض مميت فى أواخر حياتها، وقيل أن أغلب هؤلاء كن قد وصلن إلى سن الاعتزال، ولم يكن الحجاب سوى سبب أخير للاعتزال، وقد ارتدت بعض هؤلاء الحجاب، ثم ابتعدن عن الفن، وما لبثن أن عدن ثانية باعتبار أن الفن نوع من المهن. وأغلب هؤلاء اللاتى عدن لم يعرف عنهن الابتذال ومنهن مثلا سوسن بدر.
بدأت ظاهرة الاعتزال نسائية فى المقام الأول، أما الرجال فقد انحصرت فى ممثلين أكثر منهم نجوم، مثل محسن محيى الدين، وحسن يوسف الذى تغير أدائه تماما فى أواخر علاقته بالفن (راجع فيلم عصفور له أنياب 1987). ومحمد العربى الذى لم يترك وراءه تراثا يذكر.
وعندما اشيع فى الجرائد على لسان بعض الدعاة أن الفن حرام، عقد الفنانون ندوات فى أماكن عديدة للدفاع عن سلوكهن وتمسك الكثير من الفنانين الموهوبين بمواقفهم ولم توقف مسيرة العطاء، لكن بين حين وآخر راحت الأخبار تعلن أن فنانه قد دخلت زمرة الحجاب، بل أن بعضهن قد ارتدين النقاب.
وأمام كل هذا وقفت السينما، فى موضوعاتها سلبية تماما، كما اشرنا، وعندما واجهت الدولة شركات توظيف الأموال، ظهرت الأفلام التى تتصدى فقط لهذه النقطة من المواجهة، وبدا أن هناك سطوة اجتماعية جديدة أقوى من سطوة الدولة فى التعامل مع الفن، وقد تمثل ذلك فى أن الرقابة صرحت بعرض فيلم "الملائكة لا تسكن الأرض" لسعد عرفه 1988. والذى يكشف فيه بعض المتسترين بالدين، لكن منتج الفيلم لم يتمكن من عرضه فى أى دار سينما لسنوات طويلة، حتى تم العرض على استحياء فى دار سينما ليدو فى أواخر عام 1995. كما كان الفيلم يعرض بشكل خفى فى نوادى الفيديو.
ويدا هنا أن الفنان الذى يتعرض لمثل هذه الأمور الحساسة يمكنه أن يواجه بالكثير من العنف، وتولد لدى الفنانين خوف خاص بعد الانفجارات التى حدثت لنوادى الفيديو فى أماكن عديدة، وبدأت الحراسات تفرض نفسها على قطاعات من الشارع لم تكن موجودة من قبل، وتوجه عادل إمام إلى إحدى قرى الصعيد التى عرفت إرهابا مسلحا ضد فرقة فنية، ليعرض مسرحيته "الواد سيد الشغال"، وليضع نفسه بعد ذاك تحت حراسة مشددة. ثم كان ذلك مدعاة لأن يغير من نوعية الأفلام التى يقدمها باعتباره هدفا للمسلحين.
وعندما زادت العمليات المسلحة (الإرهابية) فى مصر، وتم قتل مفكرين يختلف معهم أعضاء تلك الجماعات، بدا كان هناك ضوء أحمر زائدا، وجديدا لأن يدلو الفن بدلوه، أن يسمح لمسلسل تليفزيونى من نوع "العائلة" لعرضه طوال أمسيات رمضان 1414هــ، حول نشأة التيارات السلفية فى مصر وسلوكها الخاص والعام، وقد أعتذر الكثير من النجوم عن الاشتراك فى المسلسل، وقبل العمل فيه ممثلون حملوا مصائرهم على أيديهم، وقيلوا أن تكون لهم حراسات خاصة. وفى نفس الفترة كان عادل إمام قد قدم فيلمه الإرهاب والكباب" والذى بداخله إشارة عابرة لأحد المتسترين بالدين، أنه سبب لتعطيل مصالح الناس، ثم جاء فيلم (الارهابى) لنادر جلال ليس فقط ليقف ضد الذين يستخدمون السلاح لقتل السائحين، والكتاب، ورجال الشرطة، وليكشف أفكارهم أمام الناس، حتى ولو من وجهة نظر الحكومة، ولكن أيضا ليحدث تكاتفا بين الفن والشرطة، فأمام دور العرض العديدة، كان لابد لعدد كبير من رجال الشرطة أن يقوموا لساعات طويلة بحراسة دور العرض التى تعرض الفيلم الذى استمر وجوده عدة أشهر عام 1994، مما يعنى توفر الأمن طوال هذه المدة لحماية الفيلم ومشاهدوه.
وما لبثت أن تفتحت الآفاق لمناقشة أفكار هذه الجماعات من وجهة مظر الفنانين وجاء بعد ذلك فيلم "طيور الظلام" لشريف عرفه، ثم "الناجون من النار" لعلى عبد الخالق الذى تم إنتاجه فى أواخر عام 1994ن وتعثر عرضه حتى منتصف عام 1977.
إذن فنحن أمام مجموعة من الأفلام تتباين فى هوية الشخصيات الذين نتعامل معهم، وكما سبقت الإشارة، فهناك خطوط فاصلة بين المتدين والمتطرف، والمتشدد، والسلفى. ثم الارهابى، ولكنك قد تجد كل هذه الصفات فى شخص واحد. وهو بدوره مؤمن بما يفعله، بدليل أنه قد يدفع حياته ثمنا لأفكاره وقناعته. ولذا لن نناقش فى هذا الفصل صورة المؤمن المتدين ولا المتطرف، أو حتى بعض المتسترين بالدين.. بل سنتناول كيف صورت السينما هؤلاء الذين أصطلح على تسميتهم بالإرهابيين .. وهم الجناح المسلح من تلك الجماعات. وقد رأيناهم فى ثلاثة أفلام هى : "الإرهابى" لنادر جلال 1994، و"طيور الظلام" لشريف عرفه 1995، ثم "الناجون من النار" لعلى عبد الخالق. فهذه الأفلام، خاصة الأول منها، قد دخلت فى الموضوع مباشرة دون خوف أو تذبذب، من الواضح أنه لم يظهر حتى الآن فيلم أكتسب نفس الشعبية، ورأته الجماهير بنفس الاتساع فى عروضه عامة، بل أنه عرض فى التليفزيون بعد عام احد من عرضه التجارى، وذلك ضمن سهرات عيد الفطر، مما يعنى أكبر مساحة من المشاهدين مثلما حدث لفيلم "الارهابى".
وبالنظر إلى مجموع هذه الأفلام يمكن أن نلاحظ أن :
* يمكن اعتبار أن هذه أفلام مجابهة فى المقام الأول. ظهرت فى وقت معين اشتدت فيه العمليات المسلحة ضد الأقباط، ورجال الشرطة، ورجال السياسة وأيضا المواطنين العاديين الذين دفعوا حيوانهم حين جلسوا فى إحدى المقاهي، أو ركبوا قطارا، أو حتى تواجدوا إلى جوار المتحف المصري بميدان التحرير. وقد تصور البعض أن هذا يمس الدين، وكثرت الأقاويل حول هوية هذه الجماعات، فأثيرت من حولهم الأقاويل أهم ليسوا من المصريين، وأن تمويلهم من خارج مصر.
* وقد بدت هذه المجابهة من خلال منطق الكلمة فى مواجهة الرصاصة. والحوار فى مواجهة فرض الفكر الأخر. وفى فيلم "الارهابى" رأينا كيف يعانى على عبد الظاهر من حرمان عاطفي، ينعكس فى سلوكهن وذلك فى رغبته فى الزواج من أى فتاة يختارها له أمير الجماعة، ثم فى مواقفه إزاء الطالبة الجامعية داخل البيت الذى استضافه لعدة أيام.
وفى الفيلم هناك مجابهة غير منظورة بين على عبد الظاهر (عادل إمام) وبين الأسرة التى عاش بينها، فقد اكتشف أن الدين سلوك، وأن الدين المعاملة، وأن الأسرة الت ىتعامل معها باعتبارها نموذج للمجتمع الكافر، فى منظوره، ليس فيها من هو خارج عن الناموس، حتى فريدة الفتاة الجامعية التى ترتدي ملابس عصرية، ترفضه بشدة، وتقف ضده وهى فتاة تتسم بالجدية والالتزام.
وتبرز المجابهة هنا فى أن هذا الشخص المبرمج لاستخدام السلاح ضد من يتصورهم كفرة، ويحلل لنفسه نسائهم، وأموالهم، ويبدأ فى الاقتناع من خلال سلوك الآخرين الذين لا يجيدون تخويف الناس بالدين، ولا يعرفون هويته، فى أن هناك فكرا آخ، وعوالم فسيحة، تختلف عن تلك الغرفة الضيقة، فى مسكن عشوائي، بلا أثاث، لا يطل منها على أى عالم آخر.
وفى الفيلم مجابهة مع عدة أطراف، ويصبح حليف اليوم، خصم الغد، بعد أن أقتنع "على" بوجهات نظر مغايرة، جاءت عن طريق سلوك هؤلاء الآخرين. ومن الذين جابههم على البداية السائحين ورجال الشرطة الذين قتل واحدا منهم، ثم من تصورهم كفرة، والجار المسيحي، وجميع أعضاء الأسرة، مثل الابنة الكبرى سوزان، وعائلها الدكتور عبد المنعم، والأم، والكاتب فؤاد، صديق الأسرة الذى تهدف الجماعة إلى اغتياله لأنه يعارضها فى مقالاته ومحاضراته.
أما المجابهة فى فيلم "طير الظلام" فقد بدت من خلال ذلك المحامى الذى يقوم بتمويل الجماعات المسلحة، وتنظيم عمليات اغتيال لرجال الشرطة، والمجابهة هنا مع كل الأطراف، فالفيلم يرى أن كافة الطوائف بها فئات فاسدة، مثل الوزير المتسلق. والجهاز الإدارى فى الوزارة وأيضا فى تكوين الجماعات التى تتستر بالدين من أجل الاستيلاء على السلطة.
وفى فيلم "الناجون من النار" يختار المخرج اسم جماعة دينية تحمل نفس الاسم تمارس الإرهاب بالسلاح. فهنا نرى عبد السلام الطبيب الذى تعرف من خلال امرأة على جماعة من الناس سعوا للاستفادة من شخصيته القيادية وثقافته الواسعة من أجل التأثير والسيطرة على آخرين. كما جندوه فيما فيما يتعلق بوضع خطط العمليات الكبرى، وقد كشف الفيلم عن كيفية تكوين تلك الخلايا. وكيف أن هذه الجماعة يمكنها أن تجعل عبد السلام يدبر خطة لاختطاف شقية ضابط الشرطة عبد الله، واستخدامها كرهينة لإجبار السلطات على مبادلتها بعدد من رموز الجماعة.
تجيء أهمية هذه الأفلام أنها تنقل المشاهدين إلى قلب هذه التيارات وأبنائها، وخاصة هؤلاء الذين يرون الناس العاديين من حولهم، فلا يفرقون بين من هو الإرهابى، وغير الإرهابي، فليس فى ملامح الناس ما يدل على أنهم من هؤلاء الإرهابيين، وليس الملتحون فى الشوارع إرهابيين، وليس المتدينون أيضا إرهابيين، وهذه الجماعات ذوات نواميس سرية من الصعب الولوج إليها، أو معرفة أفرادها، وأغلبها شبكات عنقودية لا يكاد بعضهم يعرف البعض الآخر، وقد أتاحت هذه الأفلام للناس أن يشاهدوا أيضا أعضاء هذه الجماعات عن قرب، والكثير من الناس لم تجابه مثل هؤلاء، ولم تشاهده العمليات الإرهابية أو تدبيرها إلا على الشاشة، وعلى سبيل المثال فان الناس الذين يقرأون عن العمليات العسكرية الإرهابية التى يقتل فيها الأبرياء، لا يرون مثل تلك الأحداث الدامية بالتفصيل، وهى غالبا ما يتم اكتشافها بعد حدوثها، أما على شاشة فيلم (الإرهابى) فرأينا كيف يرتسم الذعر على وجوه الضحايا، وكيف تتناثر الدماء، وتتساقط الأجسام، وكيف يبدو المسلح ثابتا حتى تنتهى عمليته، حتى ولو كانت العملية فى ميدان مزدحم، مثل حادث الأتوبيس الذى أشترك فيه "على"، ثم كيف قتل ضابطا، وهرب تحت سمع وبصر الشرطة، كيف ضلل مطارديه، فقص لحيته الكثة، التى يتصور البعض أنها رمز للإرهاب وحده. وقد رأينا فى مشاهد سريعة من الفيلم كافة تفاصيل عملية الهجوم على أوتوبيس سياحى، وفى نهاية الفيلم رأينا كيف تم اغتيال الكاتب فؤاد.
كما أن هذه الأفلام أتاحت فرصة التعرف على بعض الشعائر الداخلية لهذه الجماعات، مثل الزواج، والطلاق، وكيف ينظر هؤلاء إلى المجتمع باعتباره كافر، مهما كان سلوكه، بل وكيف أعطوا لأنفسهم حق استحلال أموال الآخرين، وكيف يمكن لعلى أن يشعر بالارتياح لأى شخص آخر، يتكلم عن الإيمان، ويصوم ويصلى دون أن ينتبه فى البداية إلى اختلاف عقيدتهما، ولعله يدرك فيما بعد أن كافة الأديان لها مفرداتها المتشابهة والمتقاربة، وان اختلفت شعائرها كالصوم والصلاة والحج.
وفى فيلم "طيور الظلام" صور لنا شريف عرفه كيفية صعود واحد من إتباع هذه التيارات الذين بلغوا مكانة عالية فى مجلس إدارة نقابة المحامين. وكما يصور الفيلم، فان "على الزناتى" قد بدأ محاميا ماهرا فى اختيار الحجج القوية التى تؤهل له الحصول على براءة موكله، وفى بداية الفيلم يوافق أن يدافع عن عاهرة، وهو يستخدم الآيات القرآنية فى دفاعه عمن يراها فى أعماقه فاسقة. وهذا المحامى لا يلبث ان تعلو مكانته بعد أن تمنحه الجماعات، التى ينتمى غليها، مكتبا فخما فى وسط مدينة القاهرة. وهو يلتقى بالإرهابيين فى مكتبهن ويخطط لعملياتهم القادمة، وهو يفتح مكتبه من أجل إقامة قضايا الحسبة ضد الصحفيين بهدف إثارة القلق فى قلوبهم، والتفريق بين كاتب وزوجته.
وفى هذا الفيلم قدم شريف عرفه صورة لأحد أبناء هذه التيارات مخالفة لما رأينا عليه "على" فى فيلم "الإرهابى"، فقد أرتدى هذا الأخير الملابس المألوفة للجماعات فى البداية وأطلق لحيته حتى إذا أحس بالخطر من حوله وكل إليه أن يقوم بعملية إرهابية، استدعى أن يقص لحيته، أما "على" فى "طيور الظلام" فهو شكل آخر، باعتباره شخصية عصرية، يشذب ذقنه، ويطلق شاربه على غير منطوق الحديث الشريف "أطلقوا اللحية وحفوا الشارب". وهو أنيق، جذاب، يمكن أن يجذب أى شخص لحديثه ولباقته، كما أنه لا يتردد فى أن يغنى إحدى أغنيات الفولكلور "ياواش ياواش" باعتباره كان يجيد العزف على العود. هو يتناول طعامه فى أفخم المحلات، ولكنه عندما يخلو إلى زملائه يتصرف مثلهم، وقد أتضح ذلك فى توزيع أطباق الأرز باللبن. ويكشف وجها آخر مليئاً بالتعصب.
ولسنا هنا أمام فيلم عن إرهابى، بل عن فساد الحكومة ومعرضيها معا. ولكننا نرى كيف يتم تمويل الإرهاب، وأن الكثير من العمليات العسكرية التى يكون الصعيد مرحا لدمائها يتم تخطيطها فى القاهرة. ويصور الفيلم أن هناك تعاونا وثيقا بين الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية وتنظيمات الجهاد، وما إلى ذلك من الذين يعلنون مسئولياتهم عن القيام بمثل هذه العمليات.
وفى هذين الفيلمين لم نر الجان الآخر، وهو النساء، مثلما حدث فى مسلسل "العائلة"، وكيف يمكن لفتاة عادية أن تدخل فى زمرتهم، لكن فى فيلم على عبد الخالق رأينا زينب زوجة الطبيب المتطرف عبد السلام، وهى إمرأة لا تقل تطرفا عن زوجها. خاصة بعد أن مات طفلها الوحيد فى كمين أعدته الشرطة بقيادة "عبد الله" شقيق زوجها، وهو الضابط الذى تسعى الجماعة للإيقاع به والانتقام منه، وهى تقف بالمرصاد من أجل ألا ينقذ العملية ضد أخيه. فعندما تحس أن هناك بوادر اتفاق بين الشقيقين على تبادل الحوار من أجل حقن الدماء فإنها تعلن عصيانها وتحاول جاهدة تعطيل الحوار. وتسعى لطلب الطلاق ثمنا لهذا الحوار.
وفى هذا الحوار ينكشف دور المرأة فى تنسيق العمليات الإرهابية. وهى تبدو أكثر تشددا من بعض الرجال، باعتبارها أيضا أم تود الانتقام لوليدها الميت.
*فى السينما بدت المواجهة كأنها تتعلق بالسينمائيين المسلمين، وقد آثر المسيحيون ألا يدخلوا فى المجابهة حتى لا يتم التصر أن الفنان المسيحى يرد على الإرهاب بفيلم بالغ الجرأة، وقد كان من المفروض أن يقوم مخرج قبطى اعتاد العمل كثيراً مع عادل إمام بإخراج فيلم "الارهابى"، ولكنه رأى من الأنسب أن يقوم نادر جلال بالإخراج، وكتب السيناريو لينين الرملى. أما "طيور الظلام" و"الارهاب والكباب" وهو موضوع لا يناقش مسألة الإرهاب الدينى بالمرة فهما من تأليف وحيد حامد وإخراج شريف عرفة، وتمثيل عادل إمام، هذا الثالوث الذى حمل على عاتقه تقديم أفلام بالغة الجرأة فيما يتعلق بمثل هذه الموضوعات وغيرها. وقد مر مؤلف الفيلم ومنتجه وحيد حامد بالعديد من المتاعب التى تحدث عنها ضمن أحداث فيلمه "طيور الظلام"، فمثلما رأينا على يطلب من العديد من المحامين الشباب رفع قضايا ضد الفنانين أو أصحاب الأفلام فى أحداث الفيلم، فان وحيد حامد قد تفرغ بعد عرض فيلمه "النوم فى العسل" لحضور جلسات القضايا التى رفعت عليه فى أكثر من محكمة. والتى شغلته تماما عن قضيته الأساسية وهى الإبداع وتقديم الجديد.
أما فيلم "الناجون من النار" فمن تأليف محمد شرشر، وإخراج على عبد الخالق، ولم يعتمد على نجوم كبارمثل الأفلام سالفة الذكر، بل أسندت البطولة إلى شباب منهم عبير صبرى، وعمرو عبد الجليل، وطارق لطفى وغيرهم.
· من الواضح أن السينما المصرية كانت أكثر جرأة من الأدب، ومن الصحافة أيضا، فسرعان ما تمت صناعة الأفلام، وخاضت هذه الأفلام مناطق الألغام، واكتسبت شعبية هائلة، وفى الصحافة تبارت الأفلام فى الوقوف ضد هذه التيارات، أو مناصرتها بشكل غير مباشر، وباعتبار أن السينما حرام وفن فاسد فى مفهوم البعض، فانه إذا كانت هناك أفلام دافعت عن التيارات الدينية السلفية فى مواجهة الحكومة. فان السينمائيين المناهضين لهذه التيارات هم وحدهم الذين دخلوا الساحة باعتبار أنه لم يقم سينمائى واحد بالدفاع عن هذه الاتجاهات، وان كانت هناك أفلام عديدة أظهرت هذه التيارات باعتبارها حقيقة واقعة فى المجتمع، مثل بعض أفلام عديدة أظهرت هذه التيارات باعتبارها حقيقة واقعة فى المجتمع، مثل بعض أفلام عاطف الطيب التى صورت الكثير من المنقبات فى قاعات المحاكم، وفى الشوارع، وأيضا فى فيلم "إنقاذ ما يمكن إنقاذه" لسعيد مرزوق 1987، ولكن هؤلاء السينمائيين يحسبون مع التيار المستنير فى المقام الأول. ولم يقتربوا قط من مسألة مواجهة الإرهاب المسلح.
من جانب آخر فانه لا يزال هناك الكثير من السينمائيين الذين يتعاملون مع ما يحدث من حولهم بحذر شديد ولا يودون الدخول إلى دائرة الخطر، فكما هو معروف فان عادل إمام قد أصبح محاطا بحراسة خاصة مسلحة، سواء على نفقته أو لحساب وزارة الداخلية، وكان وحيد حامد ككاتب من أكثر أقرانه جرأة فيما كتبه فى مسلسل "العائلة"، يليه لينين الرملي ومحمد شرشر. وقد ناقشت مسلسلات تليفزيونية عدة من هذه الموضوعات فى السنوات الأخيرة سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وتفاوتت أهمية وجودة هذه النصوص حسب موهبة كل كاتب، لدرجة أنه بدا للحظة أنها موجة يمكن للكثيرين السير فيها، لكن ما لبثت السينما أن مرت بأزمتها الاقتصادية التى جعلت المنتجين يحجمون عن عمل أفلام جديدة، لكن وسط هذه الأزمة، فان نجما واحدا له شعبيته قد تصدى وحده لبطولة هذه الأفلام، ولم يفقد جماهيريته بل حققت أفلامه الأخيرة نجاحاً جماهيرياً كبيراً فى مصر. رغم أن بعض الدول العربية قد منعت عرض هذه الأفلام. وقد أثبتت هذه الأفلام أن السوق الداخلي فى مصر يمكن أن يحقق أرباحا طائلة للمنتج.
تاليف / محمود قاسم تقديم/ ا.د مدكور ثابتالمصدر / كتاب صوت الاديان فى السينما المصريه الفصل الحادى عشر
ساحة النقاش