ليس بعيداً عن فكرة السجن بمدلولاتها المختلفة، فإن مقولة «الضحية هي الجلاد القادم»، صحيحة في كثير من الحالات، لكن في أحيان أخرى يتحوّل الجلاد إلى ضحية؛ وفق لعبة تبادل الأدوار التي تحرك المصائر من أعلى إلى أسفل، والعكس .
هذه الحركة التبادلية في المصائر هي المحور الأساسي لمسلسل «سجن النسا»، الذي عُرِضَ مؤخراً على شاشات التليفزيون، وهو من إخراج كاملة أبوذكري وبطولة كل من: الفنانة نيللي كريم ومجموعة من الفنانات مثل: درة، روبي، سلوى خطاب، ريهام حجاج، وغيرهن.. والنص الدرامي مأخوذ عن مسرحية للكاتبة فتحية العسال -التي غيبها الموت مؤخراً عن عالمنا- مع معالجة درامية اختلفت عن النص الأصلي للمسرحية، حيث اعتمدت كاتبة السيناريو مريم نعوم بمشاركة هالة الزغندي على نفس الفكرة المحورية للمسرحية، لكن مع كثير من الإضافات .
الخط الأساسي في مسلسل «سجن النسا» هو حكاية غالية (نيللي كريم)، التي تأتي للعمل في السجن بعد وفاة والدتها التي عملت سجَّانة أيضاً في نفس المكان (سجن القناطر)، وفي يومها الأول تكون غالية رافضة تماماً لمهنتها الجديدة، لكنها سرعان ما تعتادها مع مرور الوقت. راهنت المخرجة أيضاً على شخصية والدة غالية السجَّانة الميتة، التي لا تحضر جسدياً، بل تدور الحوارات عن طبيعة علاقتها بالسجينات، وتبدو النقطة المثيرة إبداعياً في تقديم شخصية غائبة - حاضرة في آنٍ واحد-، فالأم- دون أن تدري- أورثت الابنة مهنتها، والوسط الاجتماعي في السجن يُطالب غالية بأن تكون مثل أمها التي يُقال إنها كانت حنونة وعطوفة على السجينات، في مقابل هذا تبدو غالية وكأنها تجهل كل شيء عن أمها وحياتها المهنية، حتى أنها في الحلقة الأولى تسأل سجَّانة أخرى: «أمي كانت بتشرب سجاير؟ ».
إلى جانب حكاية غالية هناك عدة خيوط وحكايات تتقاطع في فضاء جغرافي واحد هو السجن بمعناه المادي؛ نساء من مختلف الطبقات الاجتماعية يلتقين في عنبر السجن، بعضهن ارتكبن جرائم يُعاقبن عليها، وأخريات يكشفن عن معاناتهن في ظِلّ نظام اجتماعي مُتسلِّط يهيمن على النساء من جانب حقوقهن، وفي الوقت عينه يجبرهن على تحمل أعباء تفوق قدراتهن المادية والجسدية والنفسية؛ ولكل حالة نموذج يجسد حكاية خطيئة أو ظلم أو ضغينة أو انتقام أودى بالمرأة إلى السجن؛ أي أن المسلسل لا يكتفي بتقديم حياة النساء داخل السجن الواقعي، بل داخل سجن المجتمع والأفكار والرغبات، حيث تنتهي كل الخيوط مع فعل عنف أو موت فعلي أو معنوي .
اختارت المخرجة الشكل الهرمي في تدرج ظهور أبطالها، وإذا كانت القاعدة العريضة للعمل هي حكاية غالية، التي ترفض لقبها كسجَّانة وتطلق على نفسها لقب «الحارسة»، فإنها منذ الحلقة الثانية وعبر تحوّلات واضحة وسريعة تتكشف التحوّلات النفسية التي تطرأ على البطلة، فالسجَّانة التي وصلت مُتعثِرة ومُرتبِكة في يومها الأول واستمعت إلى حكايات السجينات وبكت معهن، لن تلبث أن تتحوّل إلى نموذج آخر للسلطة والفساد، رغم أن فساد غالية لا يبدو أصيلاً فيها، بل دخيلاً وإلزامياً، كجزء من مهنتها، فهي مضطرة لاجتذاب إحدى السجينات لتنقل لها ما تفعله المسجونات في غيابها، كما أنها تأخذ رشوة من السجينات مقابل بعض التسهيلات، ونراها تقوم بأخذ ما يحلو لها من حاجياتهن من ثياب وماكياج، بل إنها في الحلقة الرابعة تقوم بسرقة قميص نوم أعجبها بأن تدسه بين طيات ثيابها الرسمية، ولا تبدو شخصية «غالية» فقط هي الشخصية الإشكالية والمركبة نفسياً فقط، بل إن معظم البطلات يقدمن ما يُمكن من إدانتهن والتعاطف معهن في آنٍ واحد، تؤدي درة دور بائعة في محل تقع تحت ضغط الفقر والإغراء المادي، حتى يتم القبض عليها من طرف مباحث الآداب. أما جمالات (نسرين أمين) فحياتها داخل السجن أفضل من داخله، وتبدو شخصية رضا التي تؤديها الفنانة روبي من أكثر الشخصيات الدرامية تعقيداً في اختيارها الانتقام من مخدومتها عبر قتلها حرقاً من دون تقديم أسباب درامية كافية للفعل .
وإذا كان لا يوجد ما يمنع النساء من الأحلام، فإنه لا يوجد ما يمنعهن من الانتقام أيضاً حتى السجن بتنوعات وجوده المختلفة، كواقع صلب محدد بجدران تسيطر على حركة الجسد، أو السجن الاجتماعي الكبير، بكل قيوده وأفكاره والأدوار التي تجد المرأة نفسها فيها رغماً عنها، فتكون مسجونة رغم أنها حرة، تنطبق هذه الفكرة على شخصية غالية التي تدور عليها الدوائر فتتحوّل من سجَّانة إلى سجينة بعد أن تُتهم بارتكاب جريمة قتل، تتعرض غالية أول مرة لخديعة من خطيبها الذي يستولي على أموالها ويتزوج من فتاة أخرى بسبب طمعه بأموال والدها، وفي المرة الثانية يقوم نفس الشخص بارتكاب جريمة قتل (لوالد زوجته) تتورط هي فيها وتدخل السجن، بعد أن تشهد صديقتها ضدها .
ثمة عالمان يتجاوران في «سجن النسا»: خارجي وداخلي؛ حيث يجسد الأول عالم الأبطال وتحركاتهم خارج السجن، فيما يتوغل العالم الداخلي في التفاصيل اليومية للسجينات ليقدم إجابات عن حيواتهن السابقة والحالية، لماذا دخلن السجن؟ ما هي خلفيتهن الاجتماعية؟ والأهم ما هي الوسائل التي يمتلكنها للحفاظ على توازنهن داخل السجن؟ وإذ يكشف المسلسل عن كل هذا فإن الأهم هو التأكيد على وجود نسخة أخرى من العالم الخارجي داخل عالم السجن المُصغَّر، في مختلف الأوجه، هناك القسوة والسلطة والمحسوبية، والفساد، والرشوة، وهناك المتع والرفاهية، والطبقية والتفاوت الفكري والنفسي والأخلاقي .
المصدر ـ مجلة الدوحة ـ سبتمبر ،ـ 2014.
ساحة النقاش