تمثل اللوحة رجلا ينظر للأمام بنظرة كل ما يميزها أنها موحية ..هى نفسها النظرة التى تجعل من اللوحة أكثر من مجرد رسمة لرجل .. بل ترفع من قيمتها الفنية والحسية لتضعها فى مكانة تكاد توازى مكانة نص مكتوب وملآن بتفاصيل مروية رهيفة تستطيع أن تقرأها وتشعر بجمالها كلما توغلت فيها وسافرت .. فاللوحة كلها تقريبا فى هذه النظرة الإنسانية المشحونة ..فى عين الرجل المنكسرة ونظرته الصامتة التى تقول الكثير وكأنك أمام ينبوع يفيض بموجات نفسية متنوعة .. فتستطيع مثلا أن تقرأ معانى بين الهزيمة والسمو .. بين الغفران والنسيان .. بين الإجترار والإلحاح .. تستطيع أكثر أن تفلسف حالتك الخاصة مع هذه النظرة لتحس بمشاعر تنتابك وتوظفها مع حالتك الحالية .. كالتعزى .. كالتسامى ..كالحزن .. كالفوضى وحتى كالتشرد .. فبداخل كل منا بئر مختزن لا ينضب من كل أنواع المشاعر التى اكتنزناها على مر تجاربنا الحياتية واللوحة قد تكشف الغطاء عن هذا البعد الإنسانى الشامل فينا وتجعلنا نخاطبه .. فمعانيها تجاوزت المرسوم .. ونظرتها تعدت الملامح لتعبر عن آدمية نقية تلخص سيرة إنسان ورؤيته للعالم .. يمكننا القول _ بما أن الشخصية المرسومة ذكورية _ أن اللوحة قد تصور فكرة الرجل عن العالم وقت المحنة .. أو تمثل كينونته المجردة التى خلقها الله عليه والتى تتعرى إذا ما واجه ظرف قاس فيتحول لكائن أشبه بالطفل اليتيم الذى برغم يتمه ووحدته لا يستسلم للضعف أو الإنهزام لكنه أيضا يكون وحيدا ومتعبا ينتظر من العالم بعض الرأفة والمواساة ..فيعود لعجينته النقية التى تأخذ من العالم وتعطى له.. للآدمية الذكورية فى أبهاها .. برائحة تشبه كثيرا رائحة آدم عليه السلام ..رائحة الخلقة الأولى ..
وقد رسم الفنان الفرنسى ( آن - لوى جيروديه ) هذه اللوحة التى تعود إلى العام 1809 بفرشاة كلاسيكية وبصيغة نبيلة كما يبدو عليها.. تجلى ذلك فى عظمة التكوين البشرى وفى منطق البناء وقوة الخط ووضوحه .. تماما كما نلحظ فى لوحات الفن الإغريقى والرومانى الذى يتميز بلمسة أرستقراطية واضحة تظهر تفاصيل الشخصية النفسية والفيزيائية وتعطى إحساسا برجولتها الواضحة أو بأنوثتها الفواحة ..وهو ما يمكن أن ينعكس على هذا الرجل فى اللوحة والذى قيل أنه الكاتب الفرنسى( شاتوبريان )..
برغم هذه الإشارة عن النبل .. يمكن أن يتخيل العقل للوهلة الأولى أن هذا الرجل متشرد أو بالأحرى مُشرد .. أى تم تشريده على يد أحدهم أو عن طريق ظرف ما ..شعره المهوش الذى يتلاعب به الهواء قد يوحى بذلك ..أيضا ملامح وجه التى تبدو وكأنها ناقمة على العالم وتعبر عن اكتئاب داخلى.. يبدو أيضا وكأنه مصدوم من أمر ما فهرب وعاش أياما بلا مأوى حتى أصبح على هذا الوضع الذى يشبه الصعلكة .. أو تعود بالوقت على حياة اللا مأوى من بعد عيشة نبيلة وراغدة دلت عليها ملابسه التى تحمل بريق لفخامة وذوق قديمين ..الألوان الداكنة التى اعتمد عليها الرسام أبرزت أيضا هذه الرؤى المتسللة التى لا تتوقف عن الولادة كلما أمعنا النظر فى الوجه .. فطغيان اللون الأسود والتشديد على تناقض الضوء والظل أثرا فى الإنطباع الكلى عن معاناة الشخصية وشرودها .. مع ذلك نجد أن وقفة الرجل لم تخل من الكبرياء ..فهو يقف بوضعية متأنقة متكئا على صخرة أعلى من كل ما حوله حتى أن جسده كله تقريبا يظهر فى التابلوه وهو ينظر للعالم من علو وبطرف عينيه .. كأنه يستخف به ويعطف فى نفس الوقت على شقاءه ..حجمه العملاق إذا ما قارناه بخلفية اللوحة التى تبدو فيها الأشياء صغيرة يشى بشىء من العظمة .. من ناحية أخرى فهى عظمة قد لا تكون نابعة من حجمه وحده بقدر ما تنبع من عظمة الطبيعة نفسها من خلفه وثباتها وبقائها .. فالجو المنفتح الذى رسمت فيه اللوحة صنع مقاربة بين العالم المستمر للأبد وبين الإنسان الصامد مهما مرت عليه المحن .. أى أن قوة الإنسان مستمدة من قوة الطبيعة .. أو على الأقل يجب أن يتعظ بها ..أو يجب أن يكون الأمر كذلك .. مهما كان .
المصدر ـ موقع كتبي
ساحة النقاش