يعتبر "داريو فو" أحد أهم كتاب المسرح المعاصرين، الذين مارسوا العمل المسرحي لأكثر من نصف قرن. فلأكثر من سبعين عاماً مارس "داريو فو" فنه على مستوى التأليف وتقديم العروض المسرحية، واضعاً اسمه إلى جانب أسماء العظماء من كتاب المسرح الإيطالي أمثال "جولدوني" ، "بيرانديلو" ، "إدواردو دي فيليبو" ، وغيرهم من الكتاب العظام، ويضاف إلى ذلك غزارة الإنتاج عند "فو" وكثرة المتغيرات التي تعرض لها العالم وعاصرها كمؤلف ومخرج، وبالتالي انعكست هذه المتغيرات على أعماله المسرحية فكراً وتقنية وموقفاً سياسياً.

من الصعب على أي قارئ في تناوله لأحد نصوص "داريو فو" فهم هذا النص والتعامل معه دون التعرف على العناصر الفنية والأسس المكونة لهذا المؤلف الظاهرة.

إن مصطلح الظاهرة بمعناه العلمي ينطبق تماماً على شخصية "داريو فو" باعتباره نوعاً من الفنانين الذين لم يتكرروا كثيراً، ومن ثم فهو ظاهرة تستحق الدراسة والتنظير. فلقد عرف تاريخ المسرح فنانين عديدين قاموا بالجمع بين أكثر من وظيفة، كالمؤلف المخرج، الممثل المخرج صاحب الفرقة، المخرج المصمم للديكور .. وغير ذلك من الأنماط، ولكن لم يجمع أحد من الفنانين مثلما جمع "داريو فو"، فهو المؤلف، الممثل، المخرج، مصمم الديكور، الموسيقي، معلم التمثيل مصمم الاستعراضات، إلى جانب كونه صاحب الفرقة، وصاحب موقف اجتماعي وسياسي واضح، يطرح بدوره تساؤلاً هاماً حول وظيفة الفن، ودور الفنان وعلاقته بالمجتمع الذي يعيش فيه؟ سواء المجتمع الصغير، أي البلد الذي يعيش فيه، وانطلاقاً إلى مجتمع أوسع وأرحب، وهو ما يطلق عليه المجتمع الدولي، أو العالم.

و"داريو فو" نموذج أيضاً، فهو نموذج للفنان الذي يملك أدوات الفن المسرحي، وعناصره بشكل كامل، بحيث يمكننا أن نطلق عليه لقب (رجل المسرح)، فلقد مارس جميع الأدوار الفنية بشكل حقيقي، وأكسبته هذه الممارسة خبرة جعلته يلم بتقنيات فن المسرح من حيث الكتابة وتقنيات خشبة المسرح عرضاً وعلاقة مع الجمهور. وقد انعكست هذه الخبرة على النصوص التي يكتبها بحيث أصبح (يكتب للعرض المسرحي) ليحسم الصراع الدائر حول علاقة النص بالعرض والصراع بين المؤلف والمخرج، ومحاولات البحث عن نظرية خاصة للعرض المسرحي تميزه عن النظريات الأدبية التي حاصرت النص المسرحي، والتي جعلت المسرحيين يتمردون عليه ويسعون أحياناً لتعديله، وأحياناً للتخلص منه.

إن " فو" في كتاباته وأحاديثه عبر وسائل الإعلام المختلفة، وفي محاضراته لتلاميذه أثناء دروس التمثيل التي يلقيها دائم التحدث عن ثلاثة أشخاص هم:

"أرليكينو": الشخصية المهرجة في "الكوميديا ديلارتي" أو كوميديا الفن كما يسميها البعض، باعتبارها نموذجاً للممثل الذي يريده، ونظراً للقدرات الخاصة التي يجب أن يمتلكها ها الممثل (صوتية وحركية).

"شكسبير" بوصفه النموذج الأعظم للمؤلف المبدع الذي يكتب لفرقة مسرحية معينة، يعرف أفرادها وإمكاناتهم وبالتالي فهو يكتب للعرض، علاوة على أن شكسبير كان يكتب مسرحاً (شعبياً) متجاوزاً المسرح الرسمي الممول من الدولة، والذي مارسه في أوقات معينة.

والمسرح الشعبي هنا يطرح نقطتين هامتين تؤثران في مسرح "فو" كما أثرتا في مسرح "شكسبير"، وهما:    

أ. التمويل

ب. التقنيات الفنية الشعبية. وهو ما سندرسه بالتفصيل لاحقاً.

"بريخت" وهو رجل المسرح الذي يشترك معه "داريو فو" في مجموعة من النقاط أهمها (الأهداف السياسية) من حيث انحيازهما إلى الطبقات البروليتارية (العاملة) وسعيهما إلى إيقاظ الجمهور من خلال طرح قضايا العمال والطبقات الفقيرة ومناقشتها، فمن ثم فإن "فو" قد اتجه إلى تقديم عروضه المسرحية في المصانع والملاعب الرياضية والساحات، وصولاً إلى التبرع بإيراد تلك العروض لصالح العمال وأسرهم ولدعم النقابات العمالية. ويشير "فو" هنا إلى أنه لا يهتم بالسياسة قدر اهتمامه بالعدالة، وقد تسبب هذا الاهتمام في هجوم "فو" الدائم واحتكاكه بالمؤسسات الراسخة سواء في إيطاليا أو خارجها، كالحكومة والبوليس، الفاتيكان، الأحزاب، عصابات المافيا، المؤسسات الاقتصادية الرأسمالية، وحتى الحزب الشيوعي الذي كان يدعم "فو" وفرقته في وقت من الأوقات، سرعان ما حدث التصادم بينهما نتيجة انتقاد "فو" لسياسات الحزب وقادته، ووصولاً إلى انتقاد الولايات المتحدة الأمريكية([1]) وسياساتها ومحاولة الهيمنة على العالم.

التقنيات الملحمية:

يشير "داريو فو" في مرحلته المتأخرة التي ارتبطت بالسياسة والعدالة والحركات العمالية إلى أنه كان يعيد كتابة نصوصه ويعدها وفقاً للواقع الذي يتغير ويختلف، أي أنه يعيد كتابة النصوص المسرحية وفقاً للأحداث الجارية التي تقع حتى يكون مواكباً ومناقشاً لها مع الجمهور. وكما كان "برتولد بريخت" يكتب (بورولوج) في مقدمة العروض المسرحية يوماً بيوم، ويغير فيها طبقاً للأحداث التي تقع، فإن "فو" قد انتهج هذا النهج لدرجة أنه وصف بعض مسرحياته بأنها (مسرح الصحيفة)، وأنها (مسرحيات للحرق)، أي أنها لن يكتب لها الخلود مثل غيرها من النصوص لارتباطها بأحداث وشخصيات معينة، وأنها لن تحصل على الخلود إلا في حالة واحدة وهي تحديث الموضوعات والشخصيات والأحداث التي يتم تناولها بشكل مباشر طبقاً للمتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية مع الاحتفاظ بالشكل الفني فقط.

إن "داريو فو" مع فرقته لا يكتفي بميوله اليسارية، ولكنه يطمح أن يكون هو وأفراد فرقته (مناضلين) من خلال تكوين الفرقة بحيث يحصل الجميع على نفس الأجور، وعدم تحديد الأجور مسبقاً، وكذلك من خلال المواقف السياسية التي تتبناها الفرقة.

استخدم "فو" عناصر ملحمية يشير إليها في نصوصه كما يطرحها في العروض المسرحية، وأهمها:

-       إدخال عروض الصور والأفلام السينمائية واستخدامها في المسرح.

-       تحطيم الحائط الرابع (كسر الإيهام) ولا يقصد بذلك تجاوز قوس الستارة فقط، ولكن أيضا الإضاءة والجو العام الذي يوضع فيه الممثلون كالمكياج والمؤثرات الصوتية وطريقة الأداء والإيقاعات. فالتخلص من الستارة ليس كافياً، بل علينا أن نعطل بعض وظائف الحوار، وأن نستفيد من الارتجال والحوادث العارضة التي تقع أثناء العرض المسرحي في إنشاء علاقة بين الممثل والجمهور، ودائماً ما يشير "فو" في نصوصه إلى هذه الحوادث مثل (ذبابة تضايق الممثل) أو (انزلاق قدم الممثل وسقوطه بدون قصد) أو (التعليق على بكاء طفل) .. الخ.

-       استخدام الراوي وصعود الممثلين للمسرح دفعة واحدة أو استدعاء الممثلين لبعضهم البعض بشكل يعطي ملمحاً تمثيلياً مقصوداً، أي أننا نمثل عرضاً مسرحياً يجب أن ينتبه فيه الجمهور ويفكر.

إن وجود العناصر الملحمية في نصوص "فو" قد تجاوز الملحمية البيرختيه بحيث ينهل من نفس المصادر التي أخذ منها "بريخت" ومن قبله "مولير" أيضاً، حيث يعود "فو" إلى تقاليد العصور الوسطى، وإلى عصر النهضة الأوربي سواء كان من الكوميديا ديلارتي والمسرح الشعبي بهدف إقامة علاقة جدلية بين العرض والجمهور، فهو يريد أن يجعل الناس (الجمهور) يشعرون بكارثة ما من خلال علاقة ذات كل واحد منهم بالمجتمع. يريد أن يرى الإنسان ذاته في مرآة المجتمع الذي يعيش فيه.

إن تطور فن "داريو فو" يرتبط بتطور وتاريخ المجتمع الإيطالي منذ الفترة الفاشية التي كان فيها شاباً يدرس الهندسة المعمارية في ميلانو، وبانتهاء الحرب بدأ في تقديم مونولوجات مرتجلة، مثل تلك التي كانت تقدم في الملاهي، والتجمعات، ودور السينما في الاستراحة بين الأفلام، وهو نوع شائع في إيطاليا يعتمد على قدرات الممثل الكوميدية على إضحاك الجمهور، كما يعتمد على شخصية المهرج الذي يقدم نقداً لاذعاً للشخصيات العامة المعروفة، أو التعليق على أحداث ومواقف يعرفها الجمهور ويعاصرها.

ويشير "فو" إلى أنه لم يجرب الملاهي وإنما جرب شكلاً من أشكال المسرح المرتبط بالتقاليد الشعبية، وهو نمط كان شائعاً في إيطاليا ما بين عامي (1930-1940).

في عام 1950 التحق "فو" بفرقة "فرانكو بارينتي" المسرحية وتزوج من "فرانكا رامي" الممثلة التي شاركته كفاحه وفرقته، ليترددا ما بين الإذاعة الإيطالية (RAI) إل كتابة السيناريوهات السينمائية والمشاركة بالتمثيل فيها ثم العودة إلى ميلانو لتقديم عروض مسرحية بمسرح (أوديون) وهو ما سنسميه (بالمرحلة البورجوازية) في تاريخ "فو". حيث ذاع صيت فرقته، وقام بجولات أوروبية عديدة طارحاً مسرحاً نقدياً لاذعاً ولكن "ضمن البنى البورجوازية"، وهو الأمر الذي يختلف عن مفهوم المسرح البورجوازي الذي يخاطب الطبقة المثقفة فقط. لقد استخدم "فو" كل المؤثرات المتاحة سواء التكنولوجية أو الأدائية للتأثير في الجمهور من خلال ما أسماه "السحر المسرحي" وهي الوسائل التي رفضها فيما بعد حين اعتبرها غير ملائمة للمسرح الذي يقدمه لأنها تدخل في صميم المسرح البورجوازي الذي يرفضه ويثور عليه.

في الفترة من 1959 ولمدة تسع سنوات حقق "فو" وفرقته نجاحاً كبيراً ضمن أبناء الطبقة الوسطى، وعند التطبيق في نتاج هذه الفترة من نصوص مكتوبة يتضح لنا توجه "فو" للاهتمام بعناصر "الدراما الشعبية" التي إذا مزجناها بالأهداف التي تبناها من انحياز للطبقات العاملة، ومهاجمة البيروقراطية الحكومية، والجيش، والكنيسة، الكيانات الاقتصادية المسيطرة لوصلنا إلى المرحلة الأهم في تاريخ "داريو فو" وهي مرحلة "المسرح السياسي الشعبي".

تبدأ هذه المرحلة من عام 1968 حيث كان العالم يعج بالثورة والحركة والرغبة في التغيير، كان العالم يموج بالصراعات السياسية، وكانت مظاهرات الطلبة والعمال تجتاح أوروبا مصحوبة بإضرابات عمالية، ثم حرب فيتنام والتورط الأمريكي فيها، واضطرابات وحروب منطقة الشرق الأوسط، وتنامي الدعوات والحركات الاشتراكية في مواجهة الرأسمالية المتسلطة، والدعوة لحصول العمال على حقوقهم وسط عالم يتصارع بين قطبين سياسيين. وهنا يقرر "فو" على حد قوله: (أن يوقف تمثيل دور مهرج البورجوازية)، وأن يضع مهاراته في خدمة الطبقة العاملة الإيطالية،بل ويتجاوزها إلى الطبقات المقهورة والمظلومة في كل مكان من فيتنام إلى فلسطين إلى شيلي، وحتى في الاحتجاج على أحداث الميدان السماوي وقهر مظاهرات الطلبة في الصين.

ارتبط "فو" وفرقته للحزب الشيوعي الإيطالي حيث دعمه الحزب ووفر له الحماية في فترة تعرض فيها للتهديد هو وزوجته، وكانت الفرقة حينئذ تسمى "المشهد الجديد La Nova Cena"، ولكن سرعان ما انتقد "فو" الحزب وقياداته متخلياً عن دعم الحزب له ليكون مع فرقته ما أسماه "مسرح البلدية La Comune"، ويتجه هو وفرقته إلى مكان مهجور ويحوله إلى مسرح من خلال الجهود الذاتية للفنانين وسمي هذا المسرح بـ "قصر الحرية Palazzo Della Leberta'".

ومنذ تلك اللحظة تتضح رؤية "فو" المسرحية من خلال تحديد دور المسرح الذي يريده في علاقته بالمجتمع، ويمكننا أن نلخص ذلك في عدة نقاط.

1.   عدم الاعتماد على أي جهة في التمويل، مما يجعل فرقيته وعروضه مستقلة وحرة في توجهاتها الفكرية وفي تقنياتها أيضا، وهو ما سعى إليه المسرحيون دائماً لتحرير المسرح من الخضوع لرأس المال، سواء كان أفراداً أو مؤسسات أو الدولة ذاتها، وحتى لا يتحول إلى ما أسماه المسرحيون (المسرح البورجوازي).

2.   إن نصوص "داريو فو" تكتب لتقدم في عرض، أي أنه يكتب وفي ذهنه كل عناصر العرض المسرحي من ممثلين، وديكور، موسيقى، إضاءة، رقص .. الخ، وحتى الجمهور. وغالبا ما كان "فو" نفسه وزوجته يقومان بالأدوار الرئيسية، لذا نجده يبتعد عن الوصف ويهتم بالحدث الدرامي وتطويره دون الوقوع في فخ الوصف المطول أو التكرار أو اللف والدوران حول المعنى الذي يريد توصيله.

3.   تندرج نصوص "داريو فو" تحت مسمى (المسرح الشعبي)، وهو مصطلح يقصد به تحديد الجمهور المستهدف للعرض والموضوعات التي تناسبه، وأيضا التقنيات المستخدمة، وهي عناصر نجدها في مصرح العصور الوسطى وشكسبير ومولير كما تتفق مع التقنيات الملحمية البريختية.

-       إن المسرح الشعبي عند "فو" ليس مسرحاً متباكياً، إن الجمهور (الشعب) يضحك دائماً حتى في عروض مسرحيات الأسرار الدينية الوقورة، لذا جد أنه في مسرحية (أسرار الكوميديا) Mestro Buffo قد وصل إلى الحد الذي أثار عليه الكنيسة وجعلها تدعو لمقاطعة عروضه.

-       إن الفظاظة دليل على صحة الشعب وحسه السليم، وكل المقاطع التي تتحدث عن الجوع في نصوص "فو" مأخوذة من المخيلة الشعبية التي تتسم بأنها فظة وخصبة، إن المهرجين عبر العصور كانوا مشغولين بالجوع من وجهة نظره، ليس فقط الجوع للطعام والجنس، ولكن الجوع للسلطة والكرامة والعدالة، ويصف أحد النقاد الأمريكيين "فو" بأنه (بذيء وقاسي، ومواضيعه تتنوع من الحديث عن أعضاء ذكورة عملاقة الحجم إلى سياسية إيطاليا الدفاعية). إنه أشبه ما يكون بالمهرج "أرلكينو Arlkino" سليط اللسان، الذكي الذي يعشقه، والطريف أن لجنة جائزة نوبل في حيثيات منحها له جائزة نوبل للأدب قد وصفت "فو" بأنه (يحاكي المهرجين في العصور الوسطى، حيث كانوا يقومون بجلد السلطة والحفاظ على كرامة المضطهدين)([2]).

-       مخاطبة الجمهور سواء من خلال الراوي أو حديث الممثل المباشر مع الصالة، بمعنى كسر الحدث والإيهام والكلام الجانبي مع الجمهور، فهو عند "فو" "شريك في المؤامرة"، والشخصيات عندما تتحدث للجمهور مباشرة تكون في حالة اعتراف وصدق.

استخدام الراوي والمهرج والدمى المتحركة باليد والدمى الضخمة التي تملأ المسرح.

-       الممثل هو الناقل الوحيد للتعبير ودون مؤثرات مشهديه. ويشير "فو" إلى نوعية الممثل الذي يريده بأنه (المهرج الملحمي) الذي يتميز بقدرته على إنشاء اتصال قوي وحميمي مع جمهوره، من خلال الارتجال اللفظي والحركي والاستفادة من الحوادث العارضة لتحقيق التواصل مع الجمهور. إن محاولة إشراك الجمهور في الحدث من أهم أهداف نصوص "فو" وعروضه،  بحيث تساهم استجابات الجمهور وتفاعله مع العرض في تعزيز البنية الإيقاعية للعرض، وكثيراً ما يتم إيقاف الحدث لكي يؤدي الممثل إرتجالات معينة (يشار إليها في النص المكتوب)، خاصة عندما يريد "فو" الإشارة إلى أحداث معاصرة مهمة.

-       استخدام عناصر الإضحاك التي تقدمها الكوميديا ديلارتي مثل عناصر التنكر، سوء الفهم، المفارقة الكوميدية، الحديث الجنسي، الفظاظة .. الخ، وأهم ما يميز الممثل المهرج الملحمي عن الممثل العادي هو كمية المفارقات التي يستطيع المهرج أن يعبر عنها من خلال الجسد والصوت والعنف الكوميدي.

-       إن تدريب الممثل عند "فو" يتطلب مواصفات خاصة، حيث أن نصوصه عبارة عن مجموعة من المشاهد التي تتداخل مع بعضها البعض ويؤدي فيها الممثل أكثر من دور، وخاصة الأدوار شديدة الاختلاف التي قد تصل إلى حد التناقض مما يعني قدرات خاصة لدى الممثل واستخدام خاص لأدواته الجسدية والصوتية والانفعالية.

 

"داريو فو" والترجمة:

ترجمت أعمال "دريو فو" إلى أكثر من ثلاثين لغة، وترجم القليل منها إلى العربية، وقد نالت بعض نصوصه وعروضه شهرة واهتماماً أكثر من غيرها بسبب طبيعة موضوعاتها وارتباطها بمشاكل وأحداث سياسية أو بسبب ردود الأفعال حول تلك النصوص سواء من خلال الحكومات أو المؤسسات أو حتى المافيا، فقد وصل الأمر إلى حد اختطاف "فرانكا رامي" زوجة "داريو فو" كرد فعل على هجومه على المافيا.

حيث أن نصوص "فو" كتبت لتقدم في عروض مسرحية جماهيرية، ولأنها تراعي قدرات الممثلين الذين يؤدون الشخصيات، ولأنها تتناول أحداث وشخصيات ترتبط بفترة وزمان محددين، فإن "داريو فو" يكاد يكون المؤلف الوحيد بعد "بريخت" الذي يطلب من المعد لنصه أو القائم على إخراجه أن يقوم بتغيير الأسماء والأحداث المذكورة طبقاً لوجهة نظر المخرج أو المعد، حيث أن "داريو فو" نفسه إذا أعاد إخراج أحد نصوصه فإنه يقوم بتغيير العديد من المشاهد والأحداث كما حدث في نص (لن ندفع .. لا تدفع) الذي كتبه عام 1973 حين أعاد كتابته وتقديمه عام 2007 تحت اسم (قيد الدفع .. لن ندفع). كما أن "فو" يتيح فرصة وحرية كبيرة للممثل للارتجال ولإقامة حوار حيوي وجدلي مع الجمهور.

لقد مر "داريو فو" بتجربتين هامتين حين شاهد نصوصه تقدم في كل من فرنسا وأمريكا، وفشلت التجربتان من وجهة نظره. أو على الأقل كان هناك شيء ما خطأ، فقد وجد الممثلون والمخرجون الأمريكيون مشكلة في محاولتهم فهم رؤية "فو" المعقدة والكوميدية، لأنهم يعرفونه من خلال نصوصه المعدة دون الإلمام بالتقنيات والخلفيات التي بنى على أساسها هذه الرؤية. وبعبارة أخرى، فإن مسرحيات "فو" لا تنفصم عن الشخصيات التي يؤديها هو على المسرح أو التقنيات التي يستخدمها كممثل وكمخرج أيضا والتي تحتاج إلى قدرات خاصة، وكل محاولة لتقديم مسرحياته منفصلة عن تقنياته تبوء بالفشل.

إن "فو" يكتب نصوصاً كوميدية بلغة الشارع، ويستخدم اللغة المستخدمة في الحياة بمفرداتها الخصبة، وعند ترجمتها للغات أخرى يتم ترجمتها باللغة الرسمية مما يفقد النصوص جزءاً من حيويتها. كما أن المؤلف في بعض الأحيان يستخدم المفارقات اللغوية بين اللهجة الدارجة واللهجة الرسمية لتحقيق نوع من الكوميديا، لذا فإنه ينبغي عند الترجمة مراعاة اللغة الشعبية التي كتب بها "داريو فو" نصوصه.

فشلت بعض نصوص "فو" عند تقديمها في عروض بفرنسا، وقد أرجع "فو" السبب في ذلك إلى نمط الأداء الذي قدمها به الممثلون الفرنسيون (فالممثل الفرنسي غير قادر على الأداء الملحمي، وهو يؤدي دوره دوماً وفق الأسلوب الفرنسي في نوع من الحذلقة الاستعراضية التابعة لنمط التمثيل في مسرح "البوليفار") .. كما أن النصوص التي يكتبها حاليا لن تعجب الجمهور في فرنسا، فهي نصوص مؤقتة 0مسرحيات للحرق).

إن الاختلاف هنا يكمن في التقنيات التي يجب أن يستخدمها الممثل بالإضافة إلى طبيعة الجمهور الذي تقدم له العروض لما تتضمنه من مشاكل وقضايا سياسية واجتماعية معاصرة قد لا تهم جمهور المسرح الفرنسي.

تتميز الإرشادات المسرحية في نصوص "فو" لارتباطها بالحدث، فهي إرشادات غير وصفية لا يسترسل المؤلف فيها لقدرته كمخرج وكممثل على تنفيذها بسهولة، وعند ترجمة هذه الأحداث قد يحدث لها بعض التحريف أو التطويل. كما أن أي اختلاف في المعنى قد يؤدي إلى تحريف في الهدف المقصود وقد يكون ذلك سبباً في إحجام الكثير من المترجمين عن ترجمة نصوص "داريو فو" بالإضافة إلى أن معظم الترجمات كانت تتم عن لغات غير الإيطالية كالإنجليزية والفرنسية.

 

الأبواق والتوت البري Clacson, trombette e pernacchi 

في السادس عشر من مارس عام 1978، قامت منظمة يسارية تدعى "الألوية الحمراء"، باعتراض موكب رئيس وزراء إيطاليا السابق لمدتين متتاليتين "ألدومورو"، وقامت بتصفية حراسه الخمسة واختطفته إلى مكان مجهول مطالبة الحكومة والدولة بإطلاق سراح ستة عشر عضواً بالجماعة معتقلين بالسجون الإيطالية، وعلى مدى خمسة وخمسين يوماً سمح الخاطفين لـ"ألدومورو" بكتابة خطابات لأسرته ولأصدقائه من السياسيين، طالب فيها الحكومة بإنقاذ حياته والاستجابة لمطالب خاطفيه.

تباينت ردود الأفعال حول ما يجب أن تفعله الدولة أمام عملية الاختطاف هذه خاصة وأن إيطاليا تعرضت ولفترات طويلة لمناوشات وعمليات اختطاف واغتيال من قبل جماعات مسلحة مثل المافيا، الجماعات اليمينية المتطرفة، الجماعات اليسارية المسلحة، والتي تنتمي إليها تلك التي اختطفت "مورو"([3]).

رفضت الحكومة الإيطالية المفوضات نهائيا مع المختطفين، وأعلن قادة الحزب الديمقراطي المسيحي الذي ينتمي إليه "مورو" لأن الرسائل التي كتبت لا تعبر عن رغبة "مورو" الحقيقية، وإنه كتبها تحت التهديد. وانتقل النقاش إلى إمكانية تعذيب أحد عناصر منظمة الألوية الحمراء للوصول إلى معلومات عن الجماعة والخاطفين أم لا. ورفض الجميع ذلك حيث أنه يمكن تعويض الخسارة في "ألدومورو" ولكن إيطاليا لن تتمكن من تعويض ما سينتج عن تعذيب سجين للحصول على المعلومات باعتباره مقدمة ستصبح عادة بعد ذلك([4]).

بعد أن طالت مدة الاختطاف دون استجابة من الدولة قامت جماعة الألوية الحمراء بقتل "ألدومورو" رميا بالرصاص في 9 مايو 1978. وقد نتج عن ذلك استقالة وزير الداخلية حينئذ "فرانشيسكو كوسيجا" وإن كان بعد ذلك بفترة قد تم انتخابه رئيساً للجمهورية.

لقد أثارت حادثة اختطاف وقتل "ألدومورو" خيال الفنانين، فتم تناول الحالة في العديد من الأعمال السينمائية والمسرحية كما أثارت تلك القضية جدلاً كبيراً داخل المجتمع الإيطالي وخاصة المثقفين، ودارت مناقشات عديدة حول فكرة الاختطاف نفسها وموقف الدولة من الاختطاف، ومواقف السياسيين المختلفة، والعناصر الإنسانية لأسرته ولخاطفيه، وكذلك المصالح الخفية لبعض السياسيين وراء التضحية بشخصية مثل "ألدومورو".

في عام 1981 كتب "داريو فو" نص (الأبواق والتوت البري) حيث استلهم حادثة الاختطاف ومحاولة الاغتيال، ولكنه وضعها في سياق آخر، طارحاً سؤالاً هاماً، وهو ماذا لو كان الذي تعرض للاختطاف هو أحد أباطرة الاقتصاد الإيطالية؟ ماذا لو كان هو "جياني أجينللي([5])" صاحب ومالك ورئيس مجلس إدارة شركة "فيات([6])" وغيرها من المؤسسات الصناعية والاقتصادية الكبرى؟

إن السيد "أجنيللي" ابن الأسرة الشهيرة يتحكم في مصر الآلاف من العمال في إيطاليا وخارجها، وفكرة اختطافه سيكون لها تأثير كبير على الاقتصاد والسياسية وستحظى باهتمام الجميع، لذا فقد كتب "داريو فو" نصاً مسرحياً كوميدياً يضع فيه آراءه ومواقفه السياسية ويناقش مع المجتمع وجهات نظرهم بداية من "أجنيللي"، "رونالد ريجان" رئيس أمريكا حينئذ، "أندريوتي" رئيس وزراء إيطاليا حينئذ، "كوسيجا"، النقابات العمالية في بولندا، الحكومات، البوليس، القضاة، وأخيراً المواطن العادي المقهور الذي يعاني في جميع الحالات، وربما توقعه أخلاقه وشهامته في مشاكل لا يستطيع التعامل معها، فيجد نفسه في النهاية وهو البريء المسالم متهماً بأنه "إرهابي". كل ذلك في إطار من السخرية والنقد اللاذع، أي أن "داريو فو" يسعى لتحقيق المعادلة الصعبة، وهو الجمع بين عنصرين هامين وهما: المتعة المبهجة، والهدف السياسي الجاد.

تبدأ أحداث المسرحية في إحدى المستشفيات، حيث تذهب السيدة "روزا" للتعرف على زوجها الذي تعرض لحادث وضاعت ملامح وجهه تقريباً، ومن خلال الحوار نفهم أن الزوج "أنطونيو" قد هجر زوجته وأنه كان يقضي نزوة مع عشيقته عندما وقع الحادث، ونفهم أيضاً أن الطبيب سيعيد تشكيل وجه المصاب طبقاً لصورته التي ستزوده بها "روزا"، وفي لحظة ما يتوقف الحدث المسرحي، حيث يتم كسره ويتقدم شخص ما يخاطب الجمهور مباشرة، معرفاً نفسه بأنه الممثل الذي يقوم بدور "أنطونيو" زوج السيدة "روزا" ولكن (لست أنا الكباب المشوي الموجود على منضدة العمليات .. هذا شخص آخر. إذن من هو؟).

ويبدأ "أنطونيو" في سرد حكايته، ويقوم باستدعاء عشيقته "لوتشيا" ليسردا معاً ما حدث بشكل عارض، حيث تصادف وجودهما في نفس مكان الحادث، وقد دفعت الشهامة "أنطونيو" لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وسط دخان كثيف وغازات، فيتمكن من إنقاذ الشخص الجالس بجوار السائق، ويخلع سترته ويلفه بها، وفجأة يحدث إطلاق نار، فيهرب تاركاً سترته بكل ما فيها من أوراق، كبطاقته الشخصية وحتى بطاقة الحزب الشيوعي.

إن المفارقة هنا التي تثير الضحك، وتثير الخيال أيضاً هي أن الشخص الموجود في المستشفى والذي يعتقد الجميع أنه "أنطونيو" العامل البسيط المطحون الذي يعمل في أحد مصانع "فيات" الصغيرة، هو السيد "جياني أجنيللي" مالك مصانع "فيات" والشركات الكبرى والبنوك، وأن هذا السيد سيعاد تشكيل وجهه طبقاً لصورة "أنطونيو".

إن " أجنيللي" سيجد نفسه محل واحد من العمال الذين يعملون في أصغر مصانعه، قد يتعرف على معاناة العمال وكرههم لصاحب تلك المصانع الذي يستغلهم، وهو أيضاً يتذمر ويصف العمل بأنه حقير ومهين، بل وسيجد نفسه أيضاً في بيت ذلك العامل مع زوجته وعشيقته.

لقد أصبح "أجنيللي" الآن "عضو نقابة! إذا مات الآن سيقيمون له جنازة بالأعلام الحمراء". إنها مفارقة أن يتحول الإنسان من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار رغماً عنه ودون أن يدري بينما يبحث الجميع عن شخص مخطوف من وجهة نظرهم وهو السيد "أجنيللي" وبالطبع لا وجود له.

إن "أنطونيو" رغم طيبته ونواياه الحسنة يجد نفسه متورطا ومطارداً وعاجزا عن استيعاب الموقف "هل أنقذت أجنيللي؟! أخذته بين ذراعي ولففته في سترتي! أنا!. إذا سمع زملائي في العمل عن هذا في مصنع "ميرا فيورا" فإنهم سيصفونني، ويدهسوني بالجرارات. سوف يربطونني إلى حائط ويبصقون علي. اتفواا .. اتفواا. سوف يبصقون علي حتى الموت.

يستمر البناء في الفصل الأول من خلال الانتقال إلى المستشفى حيث يرقد "المزدوج" الذي هو "أجنيللي"، ويخاطبه الجميع على أنه "أنطونيو"، حيث يحاول الطبيب تعليمه، وإعادته للحياة مرة أخرى، بينما يحاول البوليس الحصول على معلومات، والمحقق يسعى لأداء وظيفته، وهنا نجد تناقضا بين قاموسين لغويين، قاموس "أجنيللي " وقاموس "أنطونيو"، بينما يحاول المريض إعادة ذاكرة المريض لبعض الكلمات الصعبة التي لا علاقة لها ببعضها البض وتحمل أكثر من معنى، بعضها علمي، والآخر جنسي كمادة مثيرة للضحك.

في الفصل الثاني تنتقل الأحداث إلى شقة "روزا" حيث تتقابل الزوجة والعشيقة، وعلى خلاف المتوقع نجدهما متفاهمتان، ونلاحظ هنا أن فو يبدأ الحدث الدرامي بشكل تقليدي دائماً بحيث يستغرق القارئ أو المتفرج في الحدث وفي لحظة غير متوقعة يتم كسر الحدث لهدف ما (لتصحيح وجهة نظر أو للتعليق على حدث، أو للتنبيه على شيء ما ينبغي التركيز عليه، أو لمرور فترة زمنية)، وهنا نلاحظ التسلل الناعم الذي يستخدمه المؤلف للعودة للأحداث مرة أخرى، فبينما يكون كسر الحدث صادماً ومثيراً للضحك أحياناً كأن يتظاهر الممثلون كأنه زلت أقدامهم ... والممثلون ينفجرون في الضحك، ثم يدور حوار خارج سياق الأحداث يهدف إلى إيقاظ وعي المشاهد، فإننا لا نشعر عند العودة للحدث الرئيسي لوجود حد فاصل حيث نجد أنفسنا في وسط الأحداث والحوار مباشرة.

إن "أنطونيو" المطارد والمتهم باختطاف "أجنيللي" لا يجد مكانا يختفي فيه غير شقة زوجته "روزا". والمزدوج "أجنيللي" الذي هرب من المستشفى ويطارده البوليس والمحققين يذهب إلى نفس المكان للاختباء، وتقع "روزا" ضحية سوء الفهم وعدم المعرفة، فهي لا تعرف أن هناك اثنين "أنطونيو والمزدوج"، ويتيح ذلك للجمهور متعة الانفراد بالمعرفة، خاصة عند تبادل الأدوار والأماكن بين أنطونيو والمزدوج وعندما تتعامل "روزا" معهما كأنهما شخص واحد مما يثير الضحك.

ينتهي المشهد الأول بالقبض على "أنطونيو" الحقيقي، وعندما يخبر الضابط بأنه هو الذي أنقذ "أجنيللي" يتعرض للتعذيب، ونلاحظ هنا موقف "فو" من السلطة، والبوليس متمثلاً في الضابط، فهو عنيف ولديه رغبة في سحب مسدسه ويستخدم وسائل غير قانونية.

يعترف "أنطونيو" بغير الحقيقة بعد تعرضه للتعذيب "أوقف ذلك.. نعم، الحقيقة.. اعترف، أنا رئيس العصابة المسلحة التي اختطفت أجنيللي .. سأعترف بكل شيء.. فقط اعتقني". وعندما يأخذ الضابط "أنطونيو" ويخرج، تفاجأ روزا بوجود المزدوج لتكتشف الحقيقة للمرة الأولى ويغمى عليها.

المشهد الثاني: يمتلئ البيت برجال المخابرات والبوليس حيث يختبئ كل منهم في قطعة أثاث، لذا فالمشهد مليء بحركة الديكور والمفارقات، ونجد أن المزدوج يتمرد ويرفض لقب أسرته "أجنيللي"، ويرسل إلى البوليس رسائل مثل تلك التي أرسلها "ألدومورو" يطالب فيها بمبادلته باثنين وثلاثين سجينا، أي ضعف ما طلبه مختطفو "مورو"، وهنا تتم مناقشة صريحة ومباشرة لقضية "ألدومورو" في مقارنة صريحة أيضاً مع البعد الاقتصادي الذي يفرض نفسه "أريد أن أقف على حقيقة ما تنويه الحكومة والدولة بالنسبة لي، ما قيمتي عندهم، أريد أن أعرف: هل الحكومة والأحزاب سيكون لديهم الجرأة على التضحية بي مثلما ضحوا بـ "ألدومورو".

إن المزدوج في النهاية يعلن الحقيقة، فلابد للدولة هذه المرة بأن تقول نعم، وفي حين يرفض جميع الحاضرين ذلك، فإن المزدوج "أنيللي" يعلن موافقة الحكومة على المبادلة، شارحاً وجهة نظره التي طرحها "كارل ماركس" في كتابه "رأس المال" "القوة الحقيقية الوحيدة هي قوة الاقتصاد المالي" بمعنى آخر الشركات القابضة، الأسواق، البنوك، بمعنى آخر رأس المال... أنا الدولة.. رأس المال الذي أمثله هو الدولة"، وبينما يحاول الضابط القبض عليه، يشير المزدوج إليه بإصبعه كما في لوحة الخلق، أي أنه هو الذي يصنعه، ويقول له: أنا خلقتك .. انطلق، وفي حين تحدث حالة من الفوضى لمحاولة إيقاف الضابط الذي يسحب مسدسه، وسط الزحام والفوضى يصاب المحقق بطلق ناري آخر في ركبته.


الإرشادات المسرحية:

تجعل الإرشادات المسرحية النص بمثابة سيناريو قابل للتنفيذ من قبل أي مخرج، فعلى سبيل المثال نجد تحديداً للأداء "تتكلم بطريقة طبيعية"، "يدخل المزدوج يمشي مثل طائر البشاروش"، "دون قصد أمسكت روزا بأحد الأسلاك وجذبته، ونتيجة لذلك قفزت الدمية خارج السرير. الجميع بما فيهم الطبيب اندفعوا للإمساك بالدمية وإعادة تركيبيها في مكانها".

"وكأنه منوم مغناطيسي يصعد الضابط على كدس الأثاث، مقتربا من "أجنيللي" الذي يمد يده وبإصبعه يلمس سبابة الضابط. هذه إشارة خيالية وساخرة ومثيرة للضحك، تشير بوضوح إلى "لوحة الخلق" لمايكل أنجلو بكنيسة "سيستينا".

إن الإرشادات هنا لا يمكن الاستغناء عنها، وإذا أغفلها القارئ أو المخرج سيحدث نقص وخلل في فهم النص، كما أن جزءاً كبيراً من هذه الإرشادات يرتبط بعناصر الإضحاك الحركية، فالإرشادة هنا تدخل في صميم الفعل المسرحي وتساهم أيضا في تطوير الصراع والأحداث.

 

الديكور:

يسعى "فو" إلى تحقيق إمكانية تقديم العرض في أي مكان، دون الارتباط بخشبة مسرح معينة، كما أنه يسعى إلى تقليد عروض المسرح الشعبي التي كانت تقام في الأسواق والأماكن العامة، ونظراً لتركيزه على العناصر الفكرية والسياسية في النص فإن عنصر الديكور يتسم بالبساطة، فخشبة المسرح بسيطة وشبه فارغة غلا من العناصر التي تساهم في الحدث المسرحي. ليس هناك خلفيات مرسومة أو كتل ضخمة أو مستويات، ولكننا نجد عناصر أساسية ومستخدمة في المشهد المسرحي مثل سرير، ومعدات طبية، وأسلاك، وأجهزة متصلة بجسد المريض لإثارة الضحك في مشهد المستشفى، وهي أيضا سهلة الحركة من حيث الدخول والخروج بهدف تغيير المناظر في سهولة وسرعة ويسر، وعلى سبيل المثال "يتجمد الممثلون على خشبة المسرح، يتقدم أنطونيو إلى المقدمة ويخاطب الجمهور مباشرة، تخفت الإضاءة في غرفة العمليات، يخرج الممثلون، يبقى أنطونيو، ومن خلفه يتحرك الديكور، يظهر مقعدا سيارة وقطع خردة متنوعة لمواتير سيارات توضح لنا أننا في فناء تكسير سيارات".

إن حركة الديكور تسهم في تحديد إيقاع العمل حيث لا توجد فواصل. والمسرح لا يتوقف من أجل تغيير الديكور، ولكن في لحظات يتم تغيير الديكور في الخلفية بينما يحدث حوار في مقدمة الخشبة.

في الفصل الثاني يكتسب الديكور صفة جديدة وهي الحركة أثناء الحدث الدرامي، ففي شقة روزا نجد أن النافذة تتحرك وكأنها أحد أفراد العمل الفني، أو كأننا نستخدم عدسة الزووم في التصوير التليفزيوني، وحركة النافذة هذه قد تؤدي إلى الإضحاك في بعض اللحظات، كما تؤدي إلى إثارة الانتباه، وإيقاظ الوعي في لحظات أخرى، "يدخل مصراع النافذة من على يمين المسرح، يتوقف المصراع وسط المسرح وتذهب لوتشيا ناحيته وتنظر إلى أسفل حيث الشارع".

"يتأرجح الباب وينفتح بعد لحظة. يدخل المحقق". "تتقدم النافذة على المسرح وهي تصر، تنظر روزا خلالها، نسمع سارينة تأز النافذة".

إن رجال المخابرات والشرطة السرية يتخفون داخل قطع الأثاث كاستخدام جديد لها، أحدهم في التليفزيون والآخر رأسه تحت السلطانية، والمزدوج يتخفى داخل الثلاجة، وعندما تكون هناك معلومات، ترتفع مجموعة من هوائيات الإرسال حيث نجد أن الديكور والإكسسوار عنصرين موظفين لخدمة العرض والحدث الدرامي ولا يمكن الاستغناء عنهما.

 

المسرحة والملحمية:

قد يرى البعض أن "فو" يستخدم تكنيك المسرح داخل المسرح، وأنه يقترب من تكنيك "بيرانديلو" في نصوصه من حيث استدعاء الشخصيات والظهور والاختفاء المفاجئ، إلا أنه قد تجاوز هذا التكنيك مقتربا من التقنيات الملحمية، حيث استخدم تقنيات كسر الإيهام وإيقاف الحدث المسرحي، وجعل الممثل يخاطب الجمهور مباشرة، بل والتعليق على الأحداث أيضا.

وإذا كان "بريخت" يغير في النصوص القديمة، ويعيد صياغتها طبقاً لأحداث سياسية واقتصادية معاصرة، فإن "فو" يفعل ذلك ويكتب لعصره مباشرة، بل ويختلف عن "بريخت"، في أنه يجعل الجمهور "القارئ أو المتفرج" يعيش الحالتين، فهو يعيش الحدث الدرامي ويندمج معه، ثم يقف ليفكر، ثم يعود للحدث مرة أخرى ليستمر حتى النهاية، كل ذلك في إطار من الكوميديا الممتعة.

لقد تم كسر الحدث عدة مرات، أولها بعد المشهد الأول مباشرة حث نتعرف على حقيقة الموقف على لسان "أنطونيو" ثم في المرة الثانية في الحادث العرضي حيث يتظاهر الممثلون بأنهم زلت أقدامهم على المسرح ثم يدور حوار بين الطبيب وروزا ينتهي بالعودة إلى الحدث مرة أخرى، حتى ينتهز "أنطونيو" الفرصة ويحاول الهرب.

تم كسر الحدث أيضاً للتعليق على الأحداث والإشارة إلى مرور فترة زمنية حيث تقوم روزا بدور الراوي، سيداتي سادتي .. مرت ثلاثة أيام منذ انتهاء المشهد السابق، جياني أجنيللي يعيش في بيت روزا .. لا يمكنه تغيير فيشة النور، وها هو أنطونيو في السجن يضربه البوليس، معتقدين أنه إرهابي... على أي حال نعود للمسرحية".

إن الخطاب الأخير الذي يلقيه "أجنيللي – المزدوج" حول رأس المال واختطاف "ألدومورو" يعبر عن وجهة نظر "داريو فو" نفسه، التي يرفضها، فقد جاءت المقولة أيضا عن سيطرة رأس المال وتحكمه في الدولة وفي الجميع على لسان "أجنيللي" أيضاً الذي ينتقده "فو" ويهاجمه كما يهاجم سيطرة رأس المال.

 

الموقف السياسي والتطور الدرامي:

حيث أن فو وفرقته لهم ميول يسارية، وتتجه عروضه إلى طبقات العمال والنقابات العمالية التي تقودها الحركات الاشتراكية، لذا فقد استغل التناقض الذي تقع فيه الشخصيات لتوليد الكوميديا، ولإثارة الفكر في نفس الوقت.

إن موقف "أنطونيو" بعدما أنقذ صاحب الشركة التي يعمل بها مبرر جداً، فها الرجل الذي يمتلك كل شيء يقهره حتى في أكثر الأشياء خصوصية "أنا لست غيراناً، لكن الفكرة أغاظتني! جعلني ألف حول نفسي طول عمري، ثم شد فيشة الكهرباء عني عندما استغنى عني في العمل، ثم أنقذ حياته، والآن يأتي ليضاجع زوجتي". إنه مزيج من المأساة التي تقود للضحك وللتفكير أيضا.

وموقف "أنطونيو" الأيديولوجي واضح تماماً، فهو عضو في الحزب الشيوعي ويبحث عن حياة كريمة منذ فترة، "لشهور وأنا آكل مثل بائس، والآن ولو لمرة أريد أن آكل هنا، جالساً إلى مائدة. مثل مسيحي صالح، مسيحي وماركسي! جالساً ماركسياً مسيحياً جالساً، متحيراً بعض الشيء مما يحدث في بولندا.

إن هذا الانتقال والربط الغريب غير المتوقع يثير نوعاً من الضحك المفاجئ، خاصة إذا ما ربطناه بما دار في بولندا في هذه الفترة، حيث أن بابا الفاتيكان في تلك الفترة "يوحنا بولس الثاني" كان من أصول بولندية، وقد قويت الحركة العمالية في بولندا في تلك الفترة لتقترب نقابة التضامن العمالية من السلطة لتفك الارتباط تدريجياً للحركة الشيوعية وبالاتحاد السوفيتي. وفي نفس الوقت نجد أن موقف "أجنيللي" مختلف "أنا جياني أجنيللي!! 275 مصنع في أوروبا وحدها! منها أربعة في بولندا.. في بولندا. مع أولئك العمال المشاغبين! لكنني فرزتهم ثم رتبتهم فوراً، وعينت أحد رجال الثقة مسئولاً". إنه صراع في أساسه بين الطبقات العمالية من جهة وسيطرة رأس المال والطبقة المستغلة من جهة أخرى.

إذا انتقلنا إلى المقارنة بين موقف الدولة تجاه رجل السياسة ورجل المال من خلال المقارنة بين موقفها من اختطاف "ألدومورو" واختطاف "أجنيللي" تكون المقارنة في صف رأس المال، رغم أنف الجميع، ووسط إنكار واحتجاج الحاضرين. "فالحكومة، الدولة، والمؤسسات لا شيء سوى خدمات معاونة للسلطة الحقيقية، وهي السلطة الاقتصادية.. فهمتم. لذلك كانت التضحية بـ "ألدومورو" لإنقاذ الدولة المالية. أحفظوها جيداً.. أنا الدولة. رأس المال الذي أمثله هو الدولة". إن "أجنيللي" يتجاوز فكرة السيطرة على الدولة إلى السيطرة على البوليس، ويصل إلى درجة التأليه، وعندما يرفض الضابط ذلك تنتهي المسرحية بسرعة محتفظة بهذه المقولة السياسية التي يطرحها رأس المال ويرفضها المؤلف نفسه، وفي حين يضطرب الجميع، نجد أن المحقق يصاب في ركبته للمرة الثانية، إنها العدالة التي تصاب دائما وتعجز عن الحركة والفعل".

عناصر الإضحاك في النص:

كما ذكنا سابقاً فإن "داريو فو" يمزج بين عناصر الإضحاك المستمدة من الكوميديا ديلارتي معتمداً على قدرات الممثل الخاصة والقادرة على تفجير الضحك، إنها قدرات المهرج "أرلكينو" في استخدام العناصر التالية:

1.   النقد اللاذع والسخرية من الأشخاص والأحداث المعاصرة التي قد تصل إلى درجة الهجاء.

2.   استخدام المفارقة الناتجة عن تباين المواقف وسوء الفهم والخلط بين ما هو معلن وما هو حقيقي.

3.   عناصر الإضحاك الحركية من خلال استخدام عناصر البانتومايم والدمى، مثل الدمية التي ترقد في السرير ويتم قذفها أكثر من مرة عن طريق الخطأ بل إن "فو"يوجه الممثل إلى ضرورة اصطناع خطأ ما، بحيث "تفقد توازنها، تسند نفسها بأن تجذب السلك المتدلي، تطير الدمية في الهواء وسط مشاهد الهرج.

4.   حركة الديكور ودخول وخروج الشخصيات مثل تبادل الدخول والخروج بين أنطونيو والمزدوج وحيرة روزا بينهما، في حين أن الجمهور يعرف الحقيقة ويضحك على ردود أفعالها.

5.   حركة الممثل، فمثلاً حركة المزدوج وهو يمشي مثل طائر البشاروش.

6.   التكرار سواء اللفظي أو الحركي، فمثلا:

-       عندما يقو�

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,822,033