بشرى ناصر
لست الوحيدة التي تتردد طويلاً قبل الجلوس أمام المرآة، طالما يجري الشيطان في العروق مجرى الدم
علاقتي بالمرآة علاقة شائكة ومعقدة، يشوبها التضارب والتناقض. أمتلك شغفاً لاقتناء المرايا الكبيرة المزيّنة ببراويز مذهبة فاخرة، خاصة ذلك النوع الذي ينتمي للطراز (الفيكتوري) والحقبة (القوطية) على وجه التحديد، وفي المقابل لا أحمل أية مرايا في حقيبة يدي، بل إنني قلّما أتأمل وجهي في المرآة.
ولطالما توقفت عند هذا الأمر، فالأنثى بطبيعتها صديقة للمرآة، أو هكذا أوهمونا، فما أعرفه أن الذكور أيضاً يقفون أمام المرايا ويفتنون بصورهم.
لكنني أخافها، أو على وجه التحديد أخاف تأمل صورتي بداخلها والتي لا تطابقني كثيراً، فلطالما فعلت ذلك فيما سبق، فوجدتني أسأل أسئلة وجودية تقودني نحو مزيد من الإرباك والقلق، ونحو مزيد من الاغتراب.
وقد ظننت ردحاً من الزمن أن التناقض والتضارب في علاقتي بالمرآة يعود إلى التناقض والتضارب في علاقتي مع جسدي، فالمرآة تعني الجسد، إن لم تعن مزيداً من الجسد.
وركنت طويلاً لهذا الاعتقاد، فالاعتراف بأنني أكره أنوثتي وأحبها في آن معاً ليس سراً، ذلك أنني أحسد الذكور على ذكورتهم، وأكره الأنوثة التي أنتمي إليها، مع ذلك أدلل جسدي على النحو الأمثل.
هل أتحاشى النظر طويلاً في المرأة، خشية من المخلوق الآخر الذي يختمر فيها ويطل عليّ ليؤكد أنه يشبهني تماماً؟ هذا الكائن يتطلع دائماً لمواجهتي.
قد يبدو ذلك ضرباً من العبث، لكنها حقيقة يتعيّن عليّ مواجهتها، إذ أواجه ذاتي بذات السؤال يومياً، وكل صباح قبل توجهي للعمل: هل مراياي شرسة قاسية تهيّج دائماً حنيني لاكتشاف ما هو أبعد دائماً من الصورة.
من الذي ينظر بداخل الآخر: المرآة تتطلع نحو العين أم أن الأعين هي التي تسرق ظلال المرآة؟
ألا تؤكد (المعاجم اللغوية) أن مصطلح (مرآة) جاء من فعل (رؤية): أرى ويرى ونرى وترى؟
ليس خوفي من إطالة النظر في المرآة بمستهجن طالما مجتمعي بكامله لا يزال يخاف ذلك، ويعتقد أنها مصدر كبير من مصادر الشرور، ويفكرون بذات النحو الذي فكّر فيه الإنسان القديم البدائي الذي نظر مصادفة ذات يوم في مسطح مائي، فأذهلته صورته المنعكسة فيها، لكنه سرعان ما انشغل بالخوف من افتراس الجني الرابض بداخل النهر له، وبالخوف من التهامه شخصياً.
لا غرابة أن أتبنّى الخوف من المرآة في مجتمع يشهد تغيرات سريعة ولكنه يتمسك في ذات الوقت بهذه المخاوف والمعتقدات، بالقدر الذي بات فيه الباحثون والدارسون أشد قلقاً تجاه التفكير الخرافي الغيبي، فانتشار وتفشّي الخرافات لا يقتصر على أفراد الطبقات الفقيرة أو الطبقات المقهورة أو الفئات التي نالت أقل حظ من التعليم والمعرفة، بل يكاد يكون ظاهرة عامة، حيث تكشف (أزمة الذهنية العربية) عن الخوف من وحش خرافي يتربص به على الدوام، هاجع وهادئ في مكانه، لكنه على استعداد دائم ومستمر للانطلاق في أية لحظة، لينقض على كل الأفكار العلمية فيهدمها ويطيح بها أرضاً.
لدينا إرث هائل من الوصايا الأبوية والمحاذير والمخاوف والإكراهات والهيمنة التي لا تعني في النهاية إلاّ مزيداً من استحواذ على الهوية الأنثوية، ولا تعني أيضاً إلاّ مزيداً من الهيمنة التي أخذت بشكل أو بآخر شكل القسر والعنف، فاستراتيجية (الإغواء) من أشد وأقسى أشكال العنف الثقافي الموجه ضد المرأة، بما خلّفته - ولا تزال - من تأثير على مظاهر عملية البناء الثقافي للإنسان العربي، وما رافق تلك الإستراتيجية من أنظمة تبريرية ترسبت في قاع تفكير الإنسان العربي، ومثلت آلية تفكيره المعاصر، لينعكس ذلك كله على مظاهر سلوكه وقناعاته.
لست الوحيدة التي تتردد طويلاً قبل الجلوس أمام المرآة، طالما (الشيطان) يجري في العروق مجرى الدم، وطالما لا يختلف هذا الخوف من الشياطين والجن عن خوف الإنسان المصري القديم أو الآشوري الذي اعتقد أن تلك المخلوقات العجيبة، تتشكل في أية صورة أو هيئة لتهاجم الإنسان، فتنفذ أو تتسلل من أي مكان دون أن يشعر بها أحد، من الخرائب أو المدافن أو الأماكن المهجورة.
في المخزون الشعبي الكثير من المعتقدات ذات الطابع الأسطوري، لذا فعلى الرغم من عدد المرايا الهائل الذي مرّ في تاريخي، كالمرايا المزيّنة بالطواويس الملوّنة التي كانت تزيّن مخدع العرسان الجدد، والمرايا التي توسطتها صورة للزعيم (عبد الكريم قاسم)، والتي كانت تزيّن جدار غرفة نوم والديّ، ومرايا أبطال الحكايات الشعبية.
لا يسعني اليوم تصوير الحيرة والتشكك اللذين حاصراني كلما وجدت أمي أو عمتي (الحولاء) تقوم بتغطية هذه المرآة ليلاً بقطعة قماش. كما لا يمكنني نسيان أو تناسي المحاذير والمخاوف التي تحيط المرايا من قبل النساء الكبيرات سناً، إذا ضم المنزل امرأة (نفساء)، فقد كان الخوف على المرأة في فترة النفاس من أن (تنكبس) لا يضاهيه أي خوف آخر، ويبدو أن مصدر المخاوف سببه ضعف جسد المرأة بعد الولادة، حيث شاع في معظم الثقافات الإنسانية اعتقاد بأن (المرايا) تختطف أرواح المرضى الواهنة والضعيفة، لذا يشددون كثيراً في مسألة وجود المرايا في غرف المرضى.
لقد ملأت هذه المرآة عالمي بالشكوك والحيرة ومنذ سن مبكرة، مع أن (المرآة) وببساطة شديدة مجرد أداة أو وسيلة من وسائل تعريفنا بأنفسنا، أو على الأصح بصورتنا قبل الظهور إلى الناس، لا غنى عنها لأي فرد منّا، لكنها ونظراً إلى أنها مثل (الصورة) تمتلك قوّة سحرية، حيث تحتوي على صورة الإنسان، وإن خلت من الحقيقة، لكونها مسطحة، لكنها تحوي العالم بأكمله، ولا شكّ أنها كانت تجربة مثيرة ومتفردة تلك التجربة التي نظر الإنسان فيها ولأول مرة في تاريخه، للمرآة أو من مسطّح مائي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر / مجلة الدوحة عدد يناير 2013 .
ساحة النقاش