كان يوم الأحد (23 يونيو 1996) يوماً مشهوداً في تاريخ الموسيقى المصرية الحديثة. ففي ذلك اليوم عرضت بالمسرح الكبير بدار أوبرا القاهرة، أول أوبرا مصرية، تقدم كاملة في صورتها المسرحية، وهي أوبرا أنس الوجود لمؤلف الموسيقى المصري الراحل عزيز الشوان (1916-1993)، والتي كتب نصها الشاعر سلامة العباسي.

  والجدير بالذكر أن نفس الأوبرا قد عرضت قبل ذلك لأول مرة في ( أول يوليو1994)، ولكن ذلك العرض كان في ( صيغة الكونسير)، أي بدون استخدام ملابس خاصة بالعرض أو ديكورات أو حركة مسرحية، وإنما قدمت الأوبرا في صورتها الموسيقية البحتة من المغنين والمغنيات المنفردين والكورال والأوركسترا السيمفوني. وبذلك سمعها الجمهور لأول مرة في ذلك التاريخ. وكانت تلك أمنية غالية لمؤلفها الذي سعى لسنوات طويلة ليقدمها ولكن دون أن يحقق نجاحا، ولكنها عرضت بعد رحيله( في 14مايو1993) بأكثر من عام.

  ولقد كلن تقديم أوبرا مصرية بكل عناصرها تأليفا وغناء وعزفا وقيادة حلما راود الكثيرين من محبي الموسيقى في مصر. ولابد لنا هنا من توجيه الشكر والتقدير لإدارة دار أوبرا القاهرة وعلى رأسها دكتور ناصر الأنصاري، على نجاحه في تقديم هذه الأوبرا، بالإضافة إلى أوبرا (مصرع كليوباترا) شعر أحمد شوقي وموسيقى دكتور سيد عوض (1926)، التي قدمت في ثلاث حفلات كل فصل في حفل مستقل على النحو التالي:

  الفصل الأول (18فبراير 1994)، الفصل الثاني(25 فبراير1994)،الفصل الثالث(4مارس1994)، ثم قدمت الأوبرا كاملة أيضا في (صيغة الكونسير) يوم(24/2/1995). وفي الثلاثين من يونيو 1995، عرضت أوبرا(حسن البصري)، شعر محسن الجوهري، وموسيقى، كامل الرمالي، وقد قدمت أيضا في (صيغة الكونسير). وكل العروض قدمها سوليست فرقة أوبرا القاهرة وكورال أوبرا القاهرة وأوركسترا القاهرة السيمفوني، فقاد المايسترو يوسف السيسي، عرض كل من أوبرا (أنس الوجود) لعزيز الشوان، وأوبرا (حسن البصري) لكامل الرمالي.

  بينما قام الدكتور سيد عوض بقيادة أوبرا (مصرع كليوباترا) التي ألف موسيقاها. وبذلك يمكن القول بأن العجلة قد دارت، وبدأ عصر إحياء المسرح الغنائي المصري مرة ثانية. ولم يقتصر فقط على تقديم الأوبرات الجديدة لأول مرة، وإنما تعداه أيضا لإحياء مختارات من تراث المسرح الغنائي المصري، حيث عرضت أوبريت (شهرزاد) لبيرم التونسي، وسيد درويش عام 1992، في الاحتفال بالذكرى المئوية لميلاده، كما قدمت أوبريت (ليلة من ألف ليلة) لبيرم التونسي، وأحمد صدقي، في حفل افتتاح مسرح الجمهورية التابع لدار أوبرا القاهرة في شهر نوفمبر عام 1995. وعلى ذلك فإننا نأمل خيرا، ونتعشم أن يستمر هذا الدفع لتقديم أعمال المسرح الغنائي المصري الجديدة والتراثية.

  وقبل أن نستطرد في حديثنا، لابد لنا من وقفة موضوعية لنذكر حقيقة تاريخية وهي الترتيب الفعلي لتأليف الأوبرات المصرية التي جاءت على النحو التالي:

·        الأوبرا الأولى: بعنوان(مصرع أنطونيو) كتب موسيقاها الراحل حسن رشيد (1896- 1969). وقد جاءت في ثلاثة فصول، على أساس أشعار أمير الشعراء أحمد شوقي، في روايته (مصرع كليوباترا) . وقد أتم رشيد الأوبرا عام (1947).

·        الأوبرا الثانية: بعنوان (حسن البصري) وكتب موسيقاها مؤلف الموسيقى المصري المعاصر كامل الرمالي (1922) شعر: محسن الجوهري، وانتهى الرمالي من تأليف موسيقاها عام (1954).

·        الأوبرا الثالثة: بعنوان (أنس الوجود) وكتب موسيقاها مؤلف الموسيقى المصري الراحل عزيز الشوان(1916-1993)، شعر: سلامة العباسي. وقد كتبها المؤلف ما بين(1960-1966).

·        الأوبرا الرابعة: بعنوان (مصرع كليوباترا) وكتب موسيقاها دكتور سيد عوض(1926)، شعر أحمد شوقي.عام(1994).

  وبعد أن قدمنا التسلسل التاريخي الموضوعي لكتابة الأوبرات المصرية، نقول أن العبرة في النهاية بالأعمال الجيدة من الناحية الفنية والتي ستبقى في تراث الموسيقى المصرية، ولا تطوي في زوايا النسيان.

  وفيما يتعلق بأوبرا(أنس الوجود) لعزيز الشوان والتي نحن بصدد الحديث عنها اليوم، فقد دخلت تاريخ الموسيقى المصرية الحديثة من أوسع الأبواب، باعتبارها أول أوبرا مصرية يقدم بصورتها المسرحية. وقد جاءت الأوبرا في ثلاثة فصول. ويقول العالم والناقد الموسيقى الكبير الأستاذ أحمد المصري في تعليقه على حفل العرض الأول لأوبرا( أنس الوجود) في صورتها المسرحية يوم (23/6/1996) ما يلي:

 "وهو( أي عزيز الشوان) في (أنس الوجود) يتعمد البساطة في استخدام اللغة الهارمونية والأساليب البوليفونية على السواء وبشكل يجعلها سهلة التناول في الأداء، لإبراز الكلمات العربية والتأكد من أنها ستصل للمشاهد في وضوح وجلاء، كما راعى في الكتابة الأوركسترالية أن تكون المصاحبة الموسيقية مناسبة للأحداث التي تدور على خشبة المسرح وأن لا تطغي هذه الموسيقى المصاحبة على الأصوات البشرية للمغنين والمغنيات، وفي الواقع فإن عزيز الشوان راعي إلى حد كبير أن تكون ألحان(أنس الوجود) سلسة وصادقة التعبير ولم يقصد إطلاقا مجرد الإبهار الفني.

  وقد صاغ عزيز الشوان أوبرا(أنس الوجود) في ثلاثة فصول وثمانية مشاهد، ويتخلل الفصل الأول والذي يتكون من مشهدين وإنترمتذو أوركسترالي بين المشهد الأول والثاني من هذا الفصل. أما الفصل الثاني فيتكون من ثلاثة مشاهد ويتضمن المشهد الثاني من هذا الفصل بعض رقصات الباليه، وكذلك الفصل الثالث والذي يتكون هو الآخر من ثلاثة مشاهد، يتضمن المشهدان الأول والثاني بعض رقصات البالية، التي تعبر عن محاولات (أنس الوجود) للعبور خلال مياه النهر حيث تتصدى له التماسيح ويستمر صراع(أنس الوجود) مع التماسيح حتى حلول المساء ويخيم الظلام على المسرح دون أن يتمكن المشاهد من التعرف على مصيره وهل تمكن من عبور النهر أم مات خلال صراعه مع التماسيح؟.

  (أنس الوجود) كما ذكر الأستاذ سلامة العباسي أسطورة حب من أساطير ألف ليلة وليلة، وهو جندي مصري من جنود السلطان يتميز بمواهبه الشعرية، أما البطلة فهي (ورد الأكمام) ابنة وزير الدولة.

  ويعجب السلطان بابنة الوزير ويطلب من والدها الاقتران بها. ويرحب الوزير بطلب السلطان وهو لا يدري أن ابنته تحب الجندي(أنس الوجود)، وينقل الوزير إلى ورد الأكمام رغبة السلطان في الاقتران بها، ولكنه يصدم برفضها لهذا الشرف، ويتقرر نفي ورد الأكمام مع وصيفاتها إلى إحدى الجزر لمدة عام، ويعرف (أنس الوجود) المنفى الذي تعيش فيه (ورد الأكمام)، ويلتقي بها بعد رحلة شاقة، ويتفق موعد وصول (أنس الوجود) إلى المكان الذي توجد به( ورد الأكمام) مع انتهاء فترة نفيها. ويصل السلطان والوزير إلى الجزيرة وعندما تتمسك (ورد الأكمام) بحبها لأنس الوجود يأمر السلطان بإعدامه، وهنا تقف (ورد الأكمام) أمام (أنس الوجود) عارضة حياتها فداءه، وبعد هذا المشهد الدرامي يتراجع السلطان ويعفو عن(أنس الوجود) ويبارك حبهما ويمنحهما القصر الذي كان مقراً لمنفى(ورد الأكمام)، ويطلق عليه اسم (أنس الوجود) حيث يغنى الحبيبان للأمل والحياة". 

  ولا يفوتني أن أنوه بانجاز يستحق التحية والتقدير، وأقصد به كتابة النص المغنى بالتصوير الضوئي على يمين المسرح، لمساعدة جمهور الحاضرين على متابعة الغناء في حينه، دون أية صعوبة، وهذه الكتابة إجراء احتياطي تحسبا من أن تكون الكلمات غير واضحة وهي مغناة، وإن كان الغناء قد جاء واضحا ومفهوما.

  ولقد سبق لكاتب هذه السطور أن تناقش مع المؤلف الراحل عزيز الشوان، في لقاء شخصي مسجل عام (1990) عن كتابته للأوبرا باللغة العربية، طرح من خلاله آنذاك أن اللغات الأجنبية تختلف في موسيقيتها وطريقة نطقها عن اللغة العربية وهل راعى موسيقية اللغة العربية وطريقة نطقها، وهو يكتب هذه الأوبرا؟ فأوضح أنه قد راعى هذه النقطة تماما.

  والحقيقة أن غناء الأوبرا جاء واضحا إلى حد كبير والكلمات كانت مفهومة، مما أدى إلى استمتاع جمهور الحاضرين بهذا العرض الذي تغلب عليه الصبغة التاريخية، والقيمة الفنية. ولعلى في الختام أجد من الواجب على أن أنوه بالجهد الكبير الذي قامت به السيدة ليلي الشوان، أرملة المؤلف، في سعيها وحرصها على تقديم هذا العمل الفني الضخم الذي كتبه زوجها الراحل.

 

المصدر/ مجلة المسرح

العدد/ 92،93 بتاريخ يوليو/ أغسطس 1996

بقلم/ د.زين نصار

 

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,820,360