ربط في أعماله بين الإبداع الإنساني والأخلاق .. والحضارات الكبرى منحت الفنان مكانة سامية عبر التاريخ

  يتميز نتاج المفكر والناقد الفني الراحل الدكتور ثروت عكاشة بالنظرة الإبداعية العميقة لتاريخ الفن، ومن ثم نبعت أفكاره من داخل طبيعة العمل الفني نفسه، وما تحمله من آثار روحية، وإمكانات تأويلية كامنة ومتجددة.

إنه يتناول العمل الفني انطلاقا من الكشف عن أصوله الروحية الغامضة، والتي تقع بين الذات المبدعة، والعناصر الكونية، ثم إدراك التجلي البنائي الفريد للأثر، وتداخله مع الأزمنة، والثقافات المختلفة، ثم بعثه المستمر، وتجدده الروحي العابر للأزمنة داخل الناقد، أو المتلقي، وكأننا أمام سيمفونية تسهم في تشكيلها عوامل عديدة، مثل الذات، والحضارة، والمتلقي، والزمن، والإحالات الثقافية، والبنية الجمالية للعمل نفسه، ومن ثم فهو يحاول القبض على أصالة الفن، وما فيه من جمال تكويني، وروائح، وأصوات فريدة من جهة، وإبراز تلك السمات التداخلية التي تفجر زمن العمل الفني، وتعيد تشكيله في وعي المتلقي بصورة مستمرة، ولا نهائية في نقاط زمنية نسبية، ومغايرة من جهة أخرى.   

لقد صارت البنية الجمالية للأثر منفتحة، أي أنها قيد التشكل دائما، دون أن يفقد الأصل تفرده، وروحه التاريخية، أو الثقافية.

  وأرى أن هذه النظرية التعددية لتاريخ الفن،والتي تجلت في أعمال الدكتور ثروت عكاشة، وسيرته الذاتية قد أسهمت في التقريب بين الثقافات، ونشر قيمة التسامح من خلال الكشف عن الجذور الإنسانية المشتركة بين العصور الفنية، وإمكانية تجددها في أماكن، وأزمنة مختلفة، واندماجها بوعي المتلقي، ولا وعيه.

  إننا نعاين آثار العالم هنا من خلال انبعاثات التجارب الفنية داخل سياقها، وخارجه أيضا، في لحظة نادرة من التجاور الثقافي بين نتاج كل من بيتهوفن، وبيكاسو، وسوفوكليس، والمعرى، وغيرهم.

  ويمكننا تتبع نظرة الدكتور ثروت عكاشة التعددية لتاريخ الفن من خلال كتابه (الفن والحياة)، وقد صدر عن دار الشروق بالقاهرة 2002، وكذلك من خلال سيرته الذاتية، إذ رصد الاتصال الزمني الخفي بين الأعمال الفنية المتباينة التي تلتقي جميعها في لحن إنساني منسجم، ومتكامل، وقابل لإعادة التشكيل كلما جددت الحضارة من أدواتها التكنولوجية، وأفكارها الثقافية.

  ويمكننا ملاحظة أربع استراتيجيات نقدية جزئية، وكشفية تعبر عن نظرة د.عكاشة للآثار الفنية العالمية، وهي:

  أولا: الجذور الروحية، والإنسانية العميقة للفن.

  ثانيا: الفن بين السياق الثقافي، والبناء الجمالي الداخلي للأثر.

  ثالثا: البعث المستمر، أو التجدد الدائري للأعمال الفنية.

 رابعا: التجلي الإبداعي للمكان.

الجذور الروحية والإنسانية

  يحاول د.عكاشة أن يقبض على اللحظات الأولى لنشوء الفن في ذلك العالم المعنوي، أو الروحي/ الأصلي، وهو يتجسد في مادة صوتية، أو تشكيلية، أو نصية لها حضور نسبى ممتد في المتلقي، وسياقه الثقافي الآني الذي يضيف إلى تلك الأصالة، ولا يناقضها، فالفن يجدد جذوره الروحية في الوعي، واللاوعي، ويضيف الناقد إليها دلالات تأويلية جديدة تقوم على إعادة تشكيل الطاقة الروحية المنتجة، والعابرة للزمان، والمكان.

  إن الفن يلتحم بالنماذج المعنوية القوية للحق، والخير، والجمال، والعدالة، والحدس، أو نور المعرفة المباشرة، ومن ثم يربط د. عكاشة بين الإجادة الفنية، والأخلاق، ويدلل على ذلك ببناء الإغريق لأخلاقياتهم على أسس جمالية، ومنح الفنون مكانة سامية، وامتداد ربط الفن بالأخلاق إلى الفنانين في العصر الحديث.

  واتفق مع تلك الرؤية التي تربط الإتقان الجمالي للعمل بالأصالة الأخلاقية، إذ ينبع كل منهما من مصدر روحي قديم، ومتجدد في النفوس المتعالية في الأزمنة المختلفة، وربما يكون ذلك النموذج الذي يجمع بين الوعي الإبداعي ، وقيم الجمال، والعدالة هو سر التكرار الفريد للفن في تاريخ الإنسانية.

  ويلتقي الفنان عند د. عكاشة بحدس دائري يعكس الفكر، والانفعالات بصورة عابرة للسياق الزمني بين المبدع والمتلقي، ويدلل على ذلك باتحاد المتلقي اليوم بنشيد الفرحة في نهاية السيمفونية التاسعة لبيتهوفن، وكذلك ينفعل بمعاني التراجيديات اليونانية القديمة.   

  إن العمل يحمل في ذاته دلالات المعاناة، أوالبهجة الأولى نفسها، فيتسع، ويمتد من خلال بعث النماذج من طبقات الوعي واللاوعي لدى المتلقي، ويجدد الاتحاد بها من خلال حدسه، ومعرفته المباشرة بدلالات العمل التي يكشف عنها من خلال النسيج الجمالي.

  وتبلغ حركة الأتصال العميق بين الأثر، والإنسان الحديث ذروتها حين تستعاد آثار الماضي، وأساطيره في عمل فني تأويلي جديد، ويكشف د. عكاشة عن هذه الظاهرة من خلال إعادة صياغة سترافنسكى لمسرحية أوديب ملكا لسوفوكليس بعد مرور خمسة وعشرين قرنا، وبناء بيتهوفن لموسيقي، وباليه بروميثيوس بعد مسرحية بروميثيوس لإسخيلوس، وكان قد أبدعها في القرن الخامس قبل الميلاد.

   إن الفنان هنا يعيد تمثيل اللحظات الأولى التي سبقت نشوء العمل الفني، ويؤوله من خلال بنية فريدة، ليؤكد أصالة النموذج الروحي الملهم، وفاعليته الخفية من جهة، ويراكم الملامح الشكلية النسبية المعبرة عن وجوده الذاتي من جهة أخرى.

  ويعزز من التوجه الإنساني العام للفن مناقشة الأعمال الفنية المتكررة للقضايا الفكرية الكبيرة، وما يرتبط بها من أسئلة، يذكر منها د.عكاشة علاقة الإنسان بالقدر، وكفاحه من أجل حياة كريمة وسط عالم مشحون بالعداء، والغواية، ثم نهاية حياته، وعلاقته بالعالم الآخر، ثم يرصد تكرارها منذ أبى العلاء المعرى حتى جون ملتون، ومنذ يوريبيدس حتى يوجين أونيل.

  إننا أمام تيمات فكرية كبرى تتعلق بوجود الإنسان ومصيره، ولكل فنان موقف نسبي منها، ولهذا تجلت في أشكال فنية مختلفة تجمع بين الجمال، والصيرورة الإبداعية للفرد في سياقه الواقعي والثقافي في الوقت نفسه، وهو ما يمنح العمل مصداقية متجددة، ومضافة لأصالته الإنسانية.

  وينهي د. عكاشة رصده لعلاقة الفن بالقضايا الإنسانية العميقة بالتسامي فوق الغرائز، والشرور، ويستشهد بكلمة قالتها أنتيجونى في مسرحية أوديب ملكا، وهي:

  " لم أخرج إلى هذا الوجود لأشاركه حقدا وضغينة، بل لأشاركه ودا ومحبة".

  وكأنه يستحضر طيف شخصية أنتيجونى الفنية، ويعيد تشكيله في التأريخ لإنسانية الفن، وامتدادها الإبداعي خارج سياقها الأصلي.

  لقد تحولت شفقة أنتيجونى ومأساتها المبنية على دفن أخيها إلى ذوبان في القضايا الكبرى للفن، والتحامه الأصلي بالجمال الكوني والأخلاقي الداخلي، إذ عبرت سياقها الأول باتجاه نموذج التسامي على الحقد، والعقاب في تاريخ الفن في عصوره المختلفة.

بين السياق والبناء الجمالي للأثر

 يشكل الناقد رؤيته انطلاقا من امتزاج السياق الثقافي الذي ولد فيه العمل بروح العصر، أو اللحظة الراهنة التي يتخذ فيها الوعي النقدي موقفا تأويليا نسبيا، وقد تعددت الدراسات الثقافية، والاجتماعية حول الفن، وأثرت دلالاته من خلال الكشف عن النماذج المؤثرة من الفكر الثقافي، وكذلك التفاعل بين الطبقات، والقيم الثقافية، والصور الفنية، والشخصيات.

  وتميل كتابة د. عكاشة إلى تأكيد فكرة التفاعل الإبداعي المستمر بين العصور، والثقافات المختلفة في سياق تأويلي نسبي متجدد يجمع بين الأصالة الثقافية، والتفرد الجمالي التكويني للعمل الفني في آن واحد.

  ويتناول د.عكاشة استعادة الكتاب والفنانين للتراث اليوناني بشكل مختلف في عصر النهضة، إذ ارتكزوا على انتخاب العناصر الإنسانية مع نزع القداسة القديمة، فنتج فن جديد يحمل روح النهضة، والتأثر بالثقافة اليونانية.

  وتمثل تلك اللحظة التي اختارها الناقد ثلاثة مستويات من التفاعل الثقافي الفني بين العصور المختلفة، وهي لحظة ولادة الأثر اليوناني بما فيه من نماذج وقيم عقائدية وقضايا إنسانية وفنية، ثم اصطفاء العنصر الإنساني، وتطويره بشكل نسبي في النهضة، ثم أسعادة د. عكاشة لذلك التغير في سياق انفتاح الرؤى، والأفكار النسبية بدرجة كبيرة في لحظته التاريخية التي تجمع بين التأويلات الثقافية، والكشف عن الجمال التكويني المتجدد للأثر.

  وقد رصد د. عكاشة تأثير الروح الدينية في العمل حينما تحدث عن الفن الإسلامي، فقد قامت تشكيلاته على دائرية الصور، وتمثيل الرغبة في الخلود، أو التكرار، وقد تجلت تلك الملامح في فن الأرابيسك.

  وأرى أن الدائرية تنبع من الميل إلى الاطمئنان، ومحاولة القبض على الروح المتعالية التي تستشرف التجاوز، أو الخلود، وقد عبر الفنان عنها من خلال تكرار الزخارف، وما يقع وراء تكويناتها من مواطن للصعود المجرد.

  ولا يمكن قراءة الأعمال الفنية انطلاقا من السياق الثقافي وحده، إذ يرى كم الفن من صوره، وأفكاره، وأدواته المضافة من خلال عنصر الاختلاف، والقدرة على تشكيل أبنية فريدة تنبع من الوعي النقدي بتاريخ الفن، وما يحتمله من زيادة، أو إضافات تجريبية تؤكد الخصوصية، دون انعزال عن الماضي.

  ويدلل د.عكاشة على ذلك التجريب المستمر في الشكل، والفكر بتغير الألوان الأصلية للسماء، والأعشاب في لوحات كل من بول كيلي ومارك شاجال، وخوان ميرو، وغيرهم.

  يتجذر الحس التجريبي- إذاً- من داخل الروح الفردية الجديدة للعصر من جهة، ومن الرغبة الأصلية في صياغة نماذج الروح بصورة بنائية مختلفة من جهة أخرى.

البعث المستمر أو التجدد الدائري

تتميز أعمال د. عكاشة بتأكيد إستراتيجية الجمع بين الآثار الفنية المتباينة، وما تحويه من دلالات ذاتية، وجمالية وثقافية وحضارية في سياق تأويلي تكاملي واحد، وفي حالة من التفاعلية المتجددة، ومن ثم إنتاج مجموعة من الاسبصارات التأويلية  غير المعروفة سلفا، وإنما تبرزها التجربة الآنية المحركة لذاكرة الفن الجمعية.

  وتذكرنا تلك الرؤى بالنتاج الفكري التأويلي لأندريه مالرو، فقد جمع بين ذكرياته، ورحلاته، والمتحف الخيالي الذي يمثله تاريخ الفن، والاتصال الخفي بين مكوناته الجزئية، وكأنه تاريخ ديناميكي منتج لمعارف وآثار ودلالات جديدة في المستقبل.

  وتبرز رؤية مالرو العالمية لتاريخ الفن في كتابه (المذكرات المضادة)، إذ يكشف فيه عن التفاعل الإبداعي الخفي بين الوجود الذاتي والأعمال الفنية والحياة الواقعية، فثمة متاحف خيالية وحقيقية تتجلي ككواكب تضيئها شمس خفية، فتبدو كأنها تعد لتكوين مجرة جديدة في وعيه(راجع/ أندريه مالرو/ المذكرات المضادة- مرآة اليمبس/ ترجمة هنري زغيب/ دار عويدات ببيروت مع جاليمار بباريس/ ط1 سنة 1983/ ص 21).

  إن التفاعل بين أعمال الفن المتجاورة في عبورها للزمان، والمكان ينبع هنا من اتصالية إبداعية عميقة تتجاوز العمل الفني، وصاحبه معا، وتملك القدرة على التشكل اللانهائي الفريد في الوقائع الجزئية، والسيرة الذاتية للمبدع، أو الناقد، وقد وضع د. عكاشة متحف مالرو الخيالي في بؤرة الضوء في سياق تنوع الأعمال الفنية، وتجاوزها لمركزيات التاريخ والحضارة، وعايش تلك الخبرة الإبداعية في مذكراته عن السياسة والثقافة، فقد مزج مدلول الحكمة بأشجار باريس، وشبه الفتيان الذين يطوفون ويعزفون بالجيتار في شوارعها بأهل الكدية في مقامات الحريري( راجع/ د.ثروت عكاشة /مذكراتي في السياسة والثقافة /دار الشروق / ج1/ ط1 سنة 2000/ص144).

  إننا أمام تجدد حي للطاقة الإبداعية الأولى، وانتشار مفرط للتأويلات في الأداء السردي، وبنية العلامات التي تقع بين متاحف الوعي والواقع معا.

التحلي الإبداعي للمكان

  ثمة علاقة وثيقة تجمع بين الذاكرة والوعي الإبداعي والصيرورة الجمالية الملازمة لروح المكان وخصوصيته التشكيلية، وقد تجلت صورة باريس في مذكرات د. عكاشة عبر سيمفونية ديناميكية منسجمة، وممتدة في  لحظات الحضور، والمستقبل، فهو يؤولها من خلال رائحة اللون الرمادي المميز للجسور والمنتزهات والكنائس والقصور وواجهات المباني، ويندمج اللون بهواء يكاد يكون ماء، ثم يسترجع ازدهار الفكر، والفن، والذوق الرفيع في ذلك المناخ الجمالي.

  لقد ولج الكاتب المكان ضمن سياقات متقاطعة، وعديدة تجمع بين الحلم، والذاكرة الجمعية، والآثار الجمالية التي كشفت للتو عن ولادة إبداعية جديدة للمشهد.

  إن رؤية د.عكاشة لتاريخ الفن تمثل منهاجا للرقي الروحي، ومنبعا لولوج ذاكرة الفن إلي الحياة اليومية.

 

 

المصدر / جريدة القاهرة

العدد/ 627- بتاريخ 12من يونيه 2012

بقلم / د.محمد سمير عبد السلام

 

 

 

 

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,204,998