بدأت في مصر مع بداية القرن العشرين نزعة قومية انبعثت لجهاد الزعيمين مصطفى كامل ومحمد فريد وأدت إلى قيام ثورة الشعب المصري عام 1919. وقد انعكست هذه الروح القومية على مختلف مجالات الفنون في مصر، وظهرت في شكلين: الأول الرجوع إلى تراث مصر الفرعونية وتمجيده، والثاني استلهام حياة القرية وحياة الفلاح المصري، فهما مصدران أصيلان وضاربان بجذورهما العميقة عبر آلاف السنين.
وكان فن الشعر أسرع الفنون إظهارا لتلك الروح، ونرى ذلك واضحا في شعر أمير الشعراء أحمد شوقي. ونقتطف منه هذه الأمثلة:
فقد قال مفاخرا بأبي الهول :
بسطت ذراعيك من آدم ووليت وجهك شطر الزمر
تـطل على عالــم يستهـ ـلّ وتوفى على عالم يحتضر
فعين إلى من بدا للـوجـو د وأخــرى مشيعة مـن غـبر
فحدّث فقد يهتدي بالحديـ ث وخبر فقـد يؤتسى بالخـبر
وقال بمجد "توت عنخ آمون وحضارة عصره" :
درجت على الكنز القرون وأتت على الدّن السنون
خير السيوف مضى الزمـا ن عليه في خير الجفون
في منزل كمحجّـــــب الـــ ـعيب استسر عن الظنون
حتى أتــــى العلـــم الجســو ر ففضّ خاتمة المصون
وفي ميدان الأدب وجدنا الدكتور محمد حسين هيكل يكتب قصة (زينب) مصورا حياة الريف المصري بصدق وواقعية، كما كتب الدكتور طه حسين قصته ( الأيام) وكتب الأستاذ توفيق الحكيم ( عودة الروح).
وفي ميدان الفنون التشكيلية رأينا مثّال مصر الكبير محمود مختار خير ممثل للروح القومية التي سادت مصر في تلك الفترة ومن تماثيله :
نهضة مصر- الفلاحة- العودة من السوق- بائعة الجبن .
كما رسم كل من محمود سعيد ومحمد ناجى لوحات تصور مشاهد من البيئة المصرية وتعبر عن نفس الروح .
وفي الموسيقى العربية التقليدية كان فنان الشعب سيد درويش ، يقدم ألحانا تعبر في بساطة وعمق عن الإنسان المصري في ذلك الوقت . كما كان خير من صور أحداث الثورة عام 1919 في الحانة ، وكان نشيد ( بلادي بلادي) الذي استوحاه من كلمات الزعيم مصطفى كامل (بلادي بلادي لك حبي وفؤادي) وكتب كلماته ولحنه هو أكثر الأناشيد الوطنية تأثيرا وانتشارا وهذا ما دعا لاختياره أخيرا السلام الوطني لجمهورية مصر العربية .
ثم بعد ذلك نأتي إلى ميدان مؤلفات الموسيقى الجادة والتي قام بكتابتها فتية من أبناء مصر الذين آمنوا أولا بالدراسة والعلم لكي يصقلوا مواهبهم، والتاريخ الموسيقى لهذه الفترة بكل أبعاده غير معروف إلا لقلة قليلة جدا، ولهذا يسعدني أن القي عليه بعض الأضواء في هذا المقال .
إن رائد التأليف الموسيقى في مصر هو الأستاذ يوسف جريس .. ولد في مدينة القاهرة في الثالث عشر من ديسمبر عام 1899 ، لعائلة محبة للفن والثقافة فكان والده محبا للأدب والموسيقى ، وكانت والدته تتقن عزف البيانو ، وقد لقيت مواهبه الموسيقية رعاية مبكرة ، فدرس الموسيقى جنبا إلى جنب مع علومه المدرسية . وفي عام 1915 بدأ دراسة الموسيقى العربية على أيدي أكبر الموسيقيين المعروفين في عصره وهما ( سامي الشوا) و( منصور عوض) ثم درس الفيولينة ( الكمان) على الأستاذين (هنشة) و(ساندي روز دول) كما درس علم الهارمونى على الأستاذ ( جينو تا كاش) والتأليف الموسيقى على الأستاذ (جوزيف هوتيل) .
وقد أتم يوسف جريس دراسته الثانوية بمدرسة التوفيقية الثانوية الشهيرة بحي شبرا بالقاهرة ، ثم التحق بكلية الطب غير أنه عندما دخل المشرحة مع زملائه لبدء دروسهم في الطب ، أصيب بصدمة نفسية ترك على أثرها كلية الطب والتحق بكلية الحقوق وتخرج فيها عام 1926 وقد اشتغل بالمحاماة لبضعة أشهر ترافع خلالها في قضية واحدة وكسبها ، ثم أهدى شهادته الجامعية وفوزه في القضية التي ترافع فيها إلى أسرته .... ذلك لان حبه الشديد لفن الموسيقى جعله يقرر ترك العمل بالمحاماة والتفرغ نهائيا لتأليف الموسيقى .
وفي عام 1930 قُبِل عضوا في جمعية المؤلفين والناشرين الدولية في باريس بعد أن اجتاز اختباراتها بنجاح . وفي عام 1942 اشترك هو وشقيقه الأستاذ لويس جريس مع العالم المصري الكبير د. على مصطفى مشرفة والأستاذ كامل الكيلاني والأستاذ حسن رشيد وزوجته السيدة بهيجة رشيد وآخرين من محبي الموسيقى .. اشتركوا جميعا في تأسيس الجمعية المصرية لهواة الموسيقى .
وقد قامت هذه الجمعية ببذل جهودها لنشر الوعي الموسيقى لدى شباب مصر ، وقدمت حفلها الأول في كلية العلوم بجامعة القاهرة في التاسع عشر من مارس عام 1942 ، واشترك بالعزف مع ذلك الحفل كل من المؤلفين الراحلين يوسف جريس وأبو بكر خيرت ، بينما قام زميلهما المؤلف الراحل حسن رشيد بالغناء ( إذ كان يتمتع بصوت رخيم من نوع الباريتون) .
وكانت تعقد في بيت يوسف جريس أمسيات للأدب والفن يلتقي فيها الفنانون والأدباء يتبادلون الرأي ويستمعون لأحدث المؤلفات . كما كان يوسف جريس يستضيف كبار الفنانين الذين يزورون مصر ، فعندما انعقد المؤتمر الدولي للموسيقى العربية في القاهرة عام 1932 ، ودعي إليه كبار مؤلفي الموسيقى في العالم آنذاك .... استضاف جريس في بيته مؤلف الموسيقى المجري (بيلا بارتوك) ومؤلف الموسيقى الالمانى (بول هيندميت) والعالم الموسيقى الكبير ( كورت زاكس ) ، (وقائد الأوركسترا العالمي ( فورتفينجلر) ، هذا بالإضافة إلى أن يوسف جريس قد تعود أن يستضيف بشكل منتظم القادة والعازفين والمغنين الذين كانوا يحضروا إلى القاهرة لأحياء مواسم الأوبرا بها .
ويعتبر يوسف جريس أول مؤلف موسيقى مصري وعربي للموسيقى السيمفونية فقد تم أول أعماله الكبيرة وهو القصيد السيمفوني ( مصر) عام 1932 ، وعُزف لأول مرة في مدينة الإسكندرية في السادس عشر من أغسطس عام 1933 ، وكان الاوركسترا بقيادة : جوزيف هوتيل . وتقديم هذا العمل كان إعلانا عن ميلاد أول المؤلفات الموسيقية المصرية والعربية . ويعكس هذا القصيد السيمفوني مشاعر المؤلف الوطنية وإعجابه واعتزازه ببلاده وبتاريخها العظيم ، وكانت مشاركته المباشرة في أحداث ثورة عام 1919 من الأسباب القوية التي دفعته لكتابة هذا العمل، بل إنه حرص في نهايته على كتابه مارش أهداه إلى شهداء هذه الثورة، وقد قال عن هذا المارش عندما حاول أحد قادة الأوركسترا الأجانب حذفه اختصاراً للوقت:
وعندما سئل يوسف جريس ذات مرة عن آماله في الحياة قال :
"حياتي هي الموسيقى ... والوصول في تأليفها إلى القمة هو هدفي الأول في الحياة ... فأنا أريد أن أصل إلى الإمكانيات المثلى التي أتمكن بها من التعبير بسهولة عن شتى الأحداث وكافة المشاعر الإنسانية ، فإذا سمعت موسيقى مصر فيجب أن تجدها أصيلة ووطنية وقومية في نفس الوقت أريدها علمية وعالمية".
هذه كانت نظرة رائد التأليف السيمفوني في مصر ... نظرة عميقة وواعية مدركة لأهمية ارتباط الفنان بأرض بلاده وبني قومه، ولهذا نجده قد درس الموسيقى العربية بجانب دراسته لأصول التأليف وفقا لقواعد الموسيقى العالمية، ثم قدم أعماله مكتوبة للاوركسترا السيمفوني، ولكنه في نفس الوقت حافظ على جوهرها العربي، فقد كان يتعامل مع العلوم الموسيقية بحذر حتى لا تطغى على الجانب القومي لموسيقاه وكان يقول:
" الأسلوب الهارموني الذي يجب أتباعه في الموسيقى هو مسألة يجب التدقيق في بحثها قبل الشروع في كتابة التالفات . فاللحن المصري يتطلب هارمونية خاصة تتناسب معه وتكسبه ثراء، بينما قد تؤدى بعض الهارمونيات إلى تدميره وإفقاده أصالته وتجرده من طابعه وملامحه القومية . وذلك كله حتى تؤدى الموسيقى رسالتها في إسعاد المستمعين."
ونلاحظ صديقي القارئ أن كل مؤلفات يوسف جريس تدور حول البيئة المصرية، فبعد أن قدم قصيده السيمفوني (مصر) عام 1933، أتم في العام التالي (1934) قصيده السيمفوني الثاني ( نحو دير في الصحراء) وكان يقصد به دير سانت كاترين في سيناء، وفي عام 1935 انتهى من سيمفونيته الأولى واسماها (مصر) أيضا، وقد عزفت لأول مرة في مدينة القاهرة في التاسع عشر من مارس عام 1937.
وفي عام 1942 أخرج يوسف جريس سيمفونيته الثانية، وفي عام (1943) قدم قصيده السيمفوني الثالث (النيل والوردة) وفي عام (1960) قدم قصيده السيمفوني ( أهرام الفراعنة).
وبالإضافة لهذه الأعمال الاوركسترالية الكبيرة كتب يوسف جريس عددا كبيرا من المقطوعات الصغيرة للآلات الموسيقية المختلفة، مصورا فيها البيئة المصرية، ومن هذه المقطوعات:
(حاملة الجرة) للفيولينة والبيانو، (الفلاحة) للتشيللو والبيانو، (البدوي) للتشيللو، وثلاث قطع للبيانو بعنوان ( على ضوء القمر) و(وردة اللوتس) و(مرثية) وثلاث مقطوعات للفلوت المنفرد بعنوان (أصداء).
وفي عام 1961 سافر يوسف جريس في رحلة للعلاج في أوروبا وبينما هو في طريق العودة إلى أرض الوطن، وأثناء أقامته في مدينة (البندقية) بايطاليا، توفى فجأة في السابع من أبريل، فحزن عليه كل محبي الموسيقى في مصر ومن عرفه خارجها، لما كان عليه الفنان الراحل من الحب والإخلاص لبلاده حتى آخر لحظة من حياته. وتشهد مؤلفاته بهذا الحب، بل العشق لبلاده العظيمة ذات الحضارة العريقة.
وبعد .. صديقي القارئ فقد كانت هذه دراسة لحياة رائد التأليف السيمفوني في مصر، تحية له ولما قام به من أجل مصر . وإنني انتهز هذه الفرصة لأتوجه برجاء إلى السيد وزير الثقافة ليرعى شخصيا تراث الموسيقى الجادة في مصر ويأمر بطبعها على اسطوانات حتى يمكن تداولها في الأسواق .. فأعمال ومؤلفي الموسيقى الجادين تمثل وجه مصر الحضاري، وكم من مرة حضر الزوار الأجانب إلى مصر وأول ما يسألون عنه هل عندكم مؤلفون موسيقيون؟ ومن هم؟ وأين يمكن أن نجد تسجيلات لأعمالهم؟ وقد قامت أدارة العلاقات الخارجية بوزارة الثقافة بطبع بعض الأعمال القليلة على اسطوانات لإرسالها لسفاراتنا في الخارج، ولكن أتمنى أن يعرف أبناء مصر أولا مؤلفينا وذلك من خلال الدراسات التي تنشر عنهم والبرامج الإذاعية والتليفزيونية التي تقدم أعمالهم ثم الاسطوانة المطروحة في السوق التي يمكن للمواطن والزائر الأجنبي الحصول عليها بأجر معقول.
كما يسعدني أن أقدم اقتراحا آخر بإقامة مهرجان موسيقى سنوي تقدم فيه أعمال مؤلفي الموسيقى المصريين، وليكن ذلك المهرجان ابتداء من السادس عشر من أغسطس من كل عام، وهو اليوم الذي قدم فيه القصيد السيمفوني (مصر) يوسف جريس.
صديقي القارئ لك تحياتي وإلى اللقاء إن شاء الله في مقال آخر.
المصدر/ مجلة الفنون
العدد/ الخامس بتاريخ فبراير1980
بقلم/ زين نصار
ساحة النقاش