يعقوب بن صنوع ابن الشارع المصري الذي يتندر حتى على نفسه . ولهذا تراه يؤلف مسرحية ساخرة ينقد في أكثرها ممثلي فرقته وموظفي مسرحه ، لما عاناه من متاعب ،وصادفه من طرائف في أثناء عمله المسرحي.وهى – كما يقول- جديرة بكتاب.
ويقول الدكتور إبراهيم عبده في كتابه : در الصحفي الثائر(كتاب روز اليوسف،1955) إنها تكون فكهة لقارئها . إلا إنها عند المؤرخ شيء جدير بالتسجيل ويروي سيرة المسرح المصري، حتى يلاحظ المختصون على ضوئها التطورات التي حدثت لهذا الفن في بلادنا ،ويزنوا المجهودات الضخمة التي انتهت بمسرحنا إلى شيء قريب من النضج والاستواء.
كان يختفى وراء الكواليس ليلقن الممثلين إجابتهم المناسبة!!
وحدث أن تغيب ملقن الفرقة –كما يقول في مذكراته- بسبب وعكة أصابته. فجاء بشاب حدد له مكانه بين الكواليس ليلقن الممثلين . وطلب منه أن يقرأ الحوار بصوت منخفض ويترك الممثل يتبعه، غير أنه لم ينفذ التعليمات، حتى اضطرب الأمر على الممثلين، وكادوا يعجزون عن أداء أدوارهم ..بل إنه أطل برأسه على المسرح وقال لأحد الممثلين :
لا تسرع هكذا ..العجلة من الشيطان ..اتركني ألقنك، وكرر الكلام من بعدى.
فانفجر الجمهور ضاحكا. فما كان من يعقوب إلا أن شد على أذنه الملقن الذي ضايقه ذلك، فانطلق مغتاظا إلى المسرح. وقذف وجه الممثل بمخطوط التمثيلية. ونشب عراك بين الرجلين. واضطر أبو نظارة إلى الظهور على المسرح ليفض المعركة بين ضحكات الجمهور وتهليله. ولقي الحادث نجاحا كبيرا وفى الليلة التالية أعلن الجمهور عن رغبته في مشاهدته مرة أخرى.
كان النظارة يتدخلون فى التأليف والتمثيل ويفرضون آرائهم!!
وكان النظارة يتدخلون في التأليف والتمثيل.ويفرضون آراءهم. وما كان أمام يعقوب إلا القبول حتى لا ينصرفوا عن المسرح. ويذكر على سبيل المثال أنه كتب عددا كبيرا من التمثيليات المضحكة، وكان معظمها يتألف من فصل واحد. ثم رأى أن يضمها نصائح أخلاقية،فألف تمثيلية من فصلين، بطلتها فتاة لعوب، بكثير من الرجال، حتى ساءت سمعتها فهجروها. وأصبحت وحيدة لا معين لها.
ولم يرض الجمهور عن هذه النهاية – وكانت فتاة قادرة حقا- بما أوتيت من جمال- على انتزاع إعجاب الجمهور- فاستقبلت التمثيلية بالصفير في اليوم التالي- ولما خرج يعقوب مستوضحا الأسباب، أجاب الشاب:
أنت تعلم يا موليير أن صفصف فتاة شريفة.. وينبغي إذن أن تجد زوجا جديرا بظروفها وجمالها ..عليك أن تخصص الفصل الأخير لزواجها إن أردت أن نصفق لك وإلا فإننا لن نختلف إلى مسرحك أبدا.
واضطر يعقوب إلى النزول على رغبة الجمهور فزوج الفتاة اللعوب، وإن خالف ذلك منطق الرواية والعبرة فيها.
ويؤكد أبو نظارة أن مستوى الجمهور ارتفع ارتفاعا ملحوظا فى السنة الثانية لإنشاء مسرحه، وأصبح يميل إلى الروايات الجدية، فقدم لها تمثيليات مترجمة عن الفرنسية والإيطالية والإنجليزية-غير أن ذلك لم يمنعه من التقاط الهفوات،وقلب المسرح من الجد إلى الهزل. ومثال ذلك أنه كلف إحدى الممثلات لتقوم بدور الحبيبة الولهانة أمام ممثل كانت – على غير علم من يعقوب –لا تطيقه. وكان الممثل متيما بها حتى إنه طلب يدها فردته ساخطة. واضطرت الممثلة الحسناء أن تقول له أمام النظارة :
-اسأل نجوم السما، التي تحاكى جمالك عن سهادي . إني أقضى الليالي لا أذوق طعم الراحة فأناجيها وأنا أفكر فيك.
يا نور عيني الذي يعشقك قلبي وتعبدك روحي :آه لو تعلم كم أنت عزيز على!
لن تسحر فتيات أخر بنظراتك الإلهية وابتساماتك الملائكية الرحمة الرحمة بعصفورتك ودعها تؤمل في أن تكون عبده حبك !
آه لو هجرتني ..لسوف أموت.
ولكن لو أنى كنت واثقة من زيارتك لقبري، لرجوت الله أن يسترد إليه روحي.
وراق الممثل التمثيل، وأعجبته المعاني فهمس قائلا : ليبارك الله المسرح الذي يجعلك تتنازلين عن كبريائك، فتبوحين بحبك أما ألاف الناس.
نسيت الممثلة أنها على المسرح، ودفعها غضبها إلى صفع الممثل صفعة قوية. ثم التفتت إلى الجمهور وقالت في غضب:
إن كلمات الحب الذي وجهتها لهذا المغرور الغبي لا تعبر عن إحساسي الحقيقي نحوه، فإني أوثر العمى على حبه.
إن موليير مصر هو الذي وضع تلك الكلمات على لساني.
وراق الجمهور حوار الممثلين وما تضمنه من مفارقات. ولما استؤنف تمثيل الرواية طالبوا بإعادة الفصل المضحك. وأعيدت التمثيلية نحو شهر. ولم تخل ليلة من صفعة يتلقاها الممثل من زميلته.ويضحك لها الجمهور من أعماقه. وقرب المشهد بين الزميلين، وبلغ سرور الجمهور مداه حين علم أن تمثيل هذا المنظر الدخيل قرب بين الخصمين حتى تلاقيا بعد شهر زوجين حبيبين.
ويختتم حديثة بقصة طريفة. فعندما عرضت رواية:
"ليلي" لأول مرة على مسرحه "التياتر والوطني" وهى مأساة كتبها صديقه الشيخ محمد عبد الفتاح، وحضرها الوزراء وكثير من العلماء والشعراء. كان في التمثيلية منظر لطاغية يقتل أولاد سيد القبيلة الأربعة. وكان في القاعة شرطيان لحراستها، حديثا العهد بالخدمة. فانتهز أحد الخبثاء من المتفرجين الفرصة، وقال لهما بصوت خفيض:
أيرضيكما أن تقترف هذه الجرائم أمامكما؟..
فقفزا إلى خشبة المسرح وقبضا على الطاغية.ودوت القاعة بقهقهة المتفرجين وتصفيقهم وكانت تلك الحادثة مثار التعليقات في جميع الأوساط.
ولا يكاد يخلو فصل من تعليقات بعض النظارة العلنية . وكانوا يوجهون كثيرا من الأسئلة والتعليقات إلى الممثلين والممثلات، كأن يقولوا لأحدهم:
سوف نرى إن كنت ستتركه يخطف منك محبوبتك. ثم يقولون لإحدى الممثلات:
كيف تفضلين هذا الأهبل المتعجرف على الشاب الفتى الوقور الذي يموت في حبك؟
وكأن أبو نظارة يختفى وراء الكواليس ليلقن الممثلين إجاباتهم المناسبة. وكان الحديث بين ممثلي فرقته وبين النظارة يطول أحيانا. بل قلما كانت تنتهي تمثيلية من غير أن يلبى طلب الجمهور، ويظهر بنفسه على خشبة المسرح ويقول شيئا مضحكا وجديدا.
ونشأة المسرح المصري- كما يقول الدكتور إبراهيم عبده- فيها شيء من البساطة والسذاجة الملحوظة. ومع ذلك فهي تؤكد أنه استطاع أن يباشر مهمة تعليمية. وأن صاحبه كان ممثلا بطبعه. ورفع المسرح عن قلبه غصة كانت حبيسة فيه، بما مثل من أدوار تعلن بؤس البائسين، وتروى حكاية الأحرار المتطلعين ، وتنقد مساخر العصر وتقاليده البالية، وتفتح عين الشعب وتبصره بما ينبغي عليه من واجبات إزاء الطغاة الظالمين.
المصدر/ جريدة مسرحنا
العدد/ 95- بتاريخ من من مايو2009
بقلم/ محمد محمود عبد الرازق
ساحة النقاش