هل كان السامري مرغماً على ذلك، أم هل رأى أن ذلك هو الافضل له ، وللبشر الذى يعيشون داخل هذا المكان، لقد ترك بمحض إرادته كل الأفكار التي تعلمها عن وحول المسرح العالمي وبلور صيغة جديدة استمدها من وجوه الناس داخل حي الحسين، والذى أصبح جزءاً مهماً في تكوينه – تعرف إلى الناس داخل – وتعرفوا عليه وأدرك أن وسيلة الوصول الوحيدة إليهم هو ذلك الفن النابع منهم، وليس ذلك الفن الرسمي المخيف بالنسبة الى طائفة كبيرة منهم، إنه لا يريد لهم الوقوف في طوابير حتى يحصلوا على تذكرة العرض المسرحي، ولا يريد لهم تحديد مكان لجلوسهم ولا وضع فرجة تقليدي يتواجه فيه الناس مع العرض المسرحي، لذا فقد اختار فناً شعبياً رأى أنه الامتداد الطبيعي لهؤلاء، وله ايضاً من قبلهم، تناسى كلية الحقوق التي تخرج فيها، وما تعلمه، وخلع شكله الخارجي ليعود الى طبيعته، وجد راحته في الجلباب أكثر مما وجدها داخل القميص والبنطلون...

الوقت كان عام 1968م، والعام عام هزيمة، والناس تغلى في الشوارع، ووقت الأزمات يعود بنا سؤال الهوية الى البحث عن صيغ وأشكال فنية أصيله التراث التاريخ هما الملجأ لذا فقد اختار السامري ان يذهب الى الناس بعرض "ادهم الشرقاوي" ليبدأ به اولى حلقات ممارسته للمسرح الشعبي، والذى لم يكن يعرف له آنذاك أي تفسير علمي، ولم يع ما يمكن أن تكون عليه شروطه، لقد اتجه اليه بفطرته، قفز فوق سنواته الخمس عشرة الاخيرة وعاد مرة آخري الى مشاهدات القرية بطقوسها الشعبية المختلفة..

آنذاك كانت هناك دعاوى تنادى بإغلاق وزارة الثقافة وتحويل مخصصاتها المادية الى الجيش المصري، وقتها وقف حمدي غيث وقال جندي بلا وعى وبلا ثقافة، وبلا توجه حقيقي حتماً سيتسبب في الهزائم الثقافية ضرورية قبل حمل السلاح، وهى الدعوة التي لاقت صدى من غيرها بعد ذلك لدى السلطات المسئولة عندما سرحوا بعض الجنود غير المؤهلين ثقافياً وحافظوا على حملة المؤهلات العليا، لقد كانت البلد كلها تعيد صياغة نفسها معنوياً، ثقافياً، عسكرياً .. لذا فقد وضع السامري سؤاله الأساسي في عرض "آدهم الشرقاوي" متسقاً مع هذا التوجه، وهو هل الخلاص يتمثل في المخلص الفرد/ ناصر أم في المخلص الجمعي/ الناس ...

الصنايعية والباعة قاموا بتجسيد "أدهم الشرقاوي" دون ىجر!!

وكان عرض "آدهم الشرقاوي" الذى قام ببطولته مجموعة من الهواة، الصنايعية الباعة على مختلف أنواعهم العواطلية.. وذابوا جميعا في حب اللعبة ومن دون آجر، فقط الرغبة في الانخراط داخل عمل فنى، هذا الانخراط يقوم بعدة أدوار فى وقت واحد، نقل الوعى للعاملين بالعرض والذين لا يستندون على خلفية ثقافية أو علمية وبالتالي نقله للجمهور، بالإضافة الى شغل وقت الفراغ فيما يفيد كتب النص وقتها نبيل فاضل ولحنه محمود إسماعيل، وصاغ ديكوراته محمد عبد الفتاح...

من اهم تجاربه السامرية .. يسن وبهية وآه يا ليل يا قمر وشفيقة ومتولى!!

وارتكزت التجربة وقتها على كسر الحواجز بين الناس والعرض المسرحي ، وتقديم عرض بسيط مفهوم خال من الالغاز استخدم شكل غنائي استعراضي وديكورات خارجة من البيئة بحيث يتم استيعابها بسهولة، وظل العرض يقدم لمدة 300 ليلة عرض، وحقق نجاحاً جماهيرياً كبيراً وقتها استمر من نهاية 1968م وحتى 1970م. وطاف العديد من قرى مصر من اسوان في الجنوب ومشاركته في عيد السد العالي 1970 الى ربوع دلتا مصر، حتى تم افتتاح فرقة السامر به عام 1971م.

لقد وجد الناس في "آدهم الشرقاوي" تعبيراً عن احتياجاتهم، لذا فقد توحدت شخصية أدهم مع شخصية جمال عبد الناصر عند وفاته، لقد شعر الناس أنهم واحد، الأحزان ، الفقد ، الهزيمة .. كل ذلك يجعلنا نرتمى في حضن البطولة المستمدة من السير والتواريخ والحكايات، والتجربة علمت السامري الكثير، علمته الفروق بين المسرح الرسمي/ العلبة الايطالية، والمسرح الشعبي/ المفتوح على الاماكن والبشر، فالمسرح الرسمي خاضع للنظام من يريد الدخول اليه لابد ان يقف في مكان محدد مخصص له، وبوضعيه فرجة سلبية أما المسرح الشعبي  فلا يوجد كل ذلك، المنطق الذى يحكمه هو منطق شعبي خارج من أدبيات التعامل التي تعارف عليها الناس، فوضعية جلوسهم للفرجة تكون على الارض، كلهم متجاورون لا تفصل بينهم، ولا بين العرض أية حواجز، واذا ما حدثت مشاجرة تحكمها في قيامها وانفضاضها ادبيات هذا التعامل الشعبي الموجودة اصلاً بين الناس، ايضاً تذكرة العرض والتي كانت تقدر وقتها بثلاثة قروش كانت تذكرة موحدة للجميع، فلا توجد بناوير ولا بلكونات وبالتالي لا توجد تفرقة في الثمن وغالباً ما يكمن احد أسرار المسرح الشعبي في ذلك...

نجاح تجربة "آدهم الشرقاوي" وتفاعل الناس معها وتحلقهم حولها هو ما رشحني لإدارة السامر، والذى كلفني سعد الدين وهبة بإدارته فلم أجد أنسب من "أدهم الشرقاوي" لكى نقدمها في افتتاحه.

قبل هذه الخطوات كانت هناك اعمال أخرى انتجتها فرقة الحى الشعبي  والتي تحولت بعد ذلك لفرقة السامر، كانت هناك اعمال "يسن وبهية" آه يا ليل يا قمر، سنبلة قمح على قبر جمال، وهى كما هو واضح من اسمها عبارة عن مرثية لجمال عبد الناصر.

وهذه الانتقالة، وهذا النجاح الذى أدى إليها فتحاً عين السامري على ولادة عالم جديد بدأ يتبلور رويداً .. رويداً داخله، ثمة نوع آخر من المسرح من الممكن أن يكون فاعلاً ومؤثراً لتستمر المحاولات فيه إذن لقد وفر التراث للسامري أرضية مسرحية خصبة يمكن زرعها في الواقع وإعادة إضاءته مرة أخرى، كما اتاحت للجمهور الهروب من أسر أية أنظمة تعسفية قد يضعه فيها المسرح التقليدي وكانت تجربة اخرى كشفيقة ومتولى، لكن النقلة النوعية الثانية كانت مع عرض "على الزيبق" ذلك العرض الموشوم فى ذاكرة السامري بوشم لا يمحى والذى طارده الأمن بسببه ونام فى العراء ودار معه في محافظات مصر، وحدثت به مفارقات لم يكن ينتظرها.

محافظ المنيا يرفضنا . .. ويعود ليبكي معنا..

 

المصدر  جريدة مسرحنا

العدد 104 – بتاريخ 6 من يوليه 2009

بقلم ابراهيم الحسيني

 

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,257,942