هذا التصور، تمتد جذوره الأولى إلى أرسطو الذى اعتقد أن المحاكاة هى أساس كل عمل فنى، فقد طرح مفهوم مشابهة الحقيقة على مقتضى الاحتمال والضرورة (الذى يؤدى إلى الايهام) من خلال ترتيب الحكاية وبنيتها وليس من خلال شكل العرض، وفى المسرح اليونانى المؤسلب لم يكن الايهام فيه يقوم على مبدأ التصوير الأيقونى (على مستوى الشكل) والتطهير فيه كان نتيجة للتفاعل مع الحكاية ومضمونها، والتمثل (تمثل المعنى) يتم مع فعل الشخصية ومصيرها ضمن الظرف الذى تعيشه..
ويبدو واضحاً أن هذا التصور الخاص بعلاقة القارىء بالنص اللغوى انتقل كما هو إلى العرض المسرحى، وبدلا من أن يقوم (القارىء) بنفسه بتحويل الشخصية اللغوية إلى شخصية تخييلية، سيندمج مسرحياً – بما هو (متفرج) بالممثل (المجسد للشخصية) مما ينحصر معه الفعل التخييلى ذلك أن الشخصية ستحضر مسرحياً، فى الممثل الذى سيستكمل لها شروط الوجود.
فإذا كانت اللغة عبر التخييل تستدعى الأشياء لتحضر ذهنياً – فى حال غيابها الواقعى – فها هو العرض يحضر الأشياء ذاتها، وبالطبع من غير المتصور أن تحضر الأشياء والصور الذهنية الممثلة لها فى وقت واحد!...
إذن، وجود أحد الحضورين – الواقعى والتخييلى – يعنى إلغاء وجود الاخر، مما يعنى أن الإيهام المسرحى يلغى الإيام اللغوى، والمتفرج يلغى القارىء وبذا يصير (الإخراج) الإيهامى (وغير الإيهامى أيضاً) – وبما هو النظام التقنى الحاكم للعرض – هو العنصر الإستراتيجى الموجه لإستجابات المتفرج ولكن، هل هذا هو ما يحدث بالفعل؟..
يبدو واضحاً أن تفكيك نظرية العرض المسرحى الحديث، لابد أن ينصب على التأسيس الفلسفى نفسه المتعلق بعلاقة الكلمات بالأشياء مما يحعلنا نتساءل: العرض المسرحى، وبما هو تحويل للنص اللغوى، من طبيعة إلى طبيعة أخرى، هل يستنفذ اللغة؟ هل يحيلها إلى رماد؟ هل تحتجب اللغة خلفه بما هو (عرض للأشياء)؟ هل تمر اللغة صامته أمام الأشياء؟ هل يعيد العرض اللغة إلى أشياء؟ هل يستعيد العرض الأشياء، بما هى (الأصل) الذى تخبئه اللغة؟ هل العرض هو الهروب العنيف للغة – هل هو تبخر اللغة؟ هل العرض هو إعادة (الثقافة) إلى أصلها؛ إلى (الطبيعة)؟ واخيراً هل تتمثل اللغة (المهشمة) على صخرة العرض، هكذا فى بهجة؟...
بادىء ذى بدء العرض نفسه، وعلى الرغم من كونه عودة إلى الأشياء الواقعية، إلا أن (الواقع) الذى نحيا فى إطاره، أو ما يسمى بمبدأ الواقع، يعد مفهوما حديثا، فهو أحد النواتج المترتبة على ظهور (مبدأ الذات) فى القرن السابع عشر، أما (الطبيعة) فمفهوم موغل فى القدم، يصعب تعيين بداية ظهوره، ويبدو أن تراجع استخدام مفهوم (الطبيعة) فى الفلسفة الحديثة، وإحلال مفهوم (الواقع) محله يرتد فى الأساس إلى سيادة النظام الرمزى (أو المجازى) الذى هو (الثقافة نفسها) – بالمعنى الواسع للكلمة – وأعنى بهذا أن تحول الوعى الفلسفى إبتداءا من (كانط)، من التمحور حول سؤال (الوجود والماهية) الذى هو مشكل الميتافيزيقا – إلى البحث عن شروط إمكان المعرفة (اى العلم) لم يكن سوى إستجابة من الوعى نفسه للمتغيرات الى احدثها الانسان بالطبيعة، اى أن الوعى أدرك وجود الحد الفاصل بين (الطبيعة الأولى- الثابتة) كمعطى اولى، خام ومطلق و(الواقع- المتغير بما هو الطبيعة الثانية، كما يقال) الذى صنعه الانسان ويحياه بالفعل..
هذا وليس ما قال به (كانط) من أن الثقافة هى غاية الطبيعة) سوى إستمرار (للأشكال الساعية نحو الاكتمال) عند أرسطو – و(الروح أو المطلق الساعية نحو حدث بعد ذلك فى علاقة الثقافة بالطبيعة أعنى الذى تحولت بموجبه الثقافة إلى (الضد) من الطبيعة هو المؤسس للحداثة فى مجملها – ويعود إلى تصور فرانسيس بيكون الخاص بضرورة الهيمنة على الطبيعة بالمعرفة .. مما يعنى أن (كانط) لم يدرك التناقض الذى وقع فيه هو نفسه..
إذن (الواقع) هو نتاج تفاعل الإنسان مع الطبيعة وبقدر ما يبدو مناظرا للطبيعة فإنما يصير جزءاً لا يتجزء من الثقافة أى من المعرفة هذا إن لم يكن هو الثقافة نفسها لذا ليس بالإمكان القول أنه كلما ازداد النشاط الرمزى تراجع الواقع، فالأدق – تبعا لما سبق- هو القول بأنه كلما ازداد النشاط الرمزى، ازدادت كمية الواقع وتراجعت الطبيعة..
الإيهام المسرحى ... يلغى الإيهام اللغوى
وليس أدل على ذلك من ان العلامات اللغوية – وهى نظام رمزى، ثقافى، نحيا به وفيه – وتشكل ما يسمى بــ(الواقع الحرف) – إن هى إلا (إحالة) إلى الأشياء، أى رموز وإستعارات وليس القفز فوقها لخلق ترابطات جديدة فيما بينها سوى خلقا لاستعارات جديدة، سرعان ما تندرج فى الواقع الحرفى ذاته وتصير جزءاً منه...
نخلص من ذلك إلى أننا نحيا – واقعياً وفقط- فى إطار (علامى أو استعارى كبير) لا يكف عن التوالد والاتساع وما اعنيه بهذا هو ان العرض المسرحى إن هو إلا تحويل للواقع (الذى هو سلاسل من العلامات الثقافية المندرجة فى إطار نظام رمزى شديد التعقيد) إلى علامات أخرى (مسرحية)..
غير أن الأهم من ذلك هو أن هناك (فجوة أو مسافة فاصلة) بين الكلمات والأشياء كما تنص على ذلك النظرية اللغوية الحديثة عند (دى سوسير) إذ تنبنى على إعتباطية العلامة اللغوية فى علاقتها بالشىء الذى تسميه، اعنى أن النظرية الأرسطية القديمة، التى تنص على أن (لكل شىء كلمة جعلت له) كانت تنبنى على الزعم بوجود علاقة عضوية بين الكلمة والشىء أما عند دى سوسير، فالكلمة ترتكز فى وجودها – فقط- على إختلافها عن الكلمات الأخرى، ولا علاقة لها بالشىء نفسه ويبدو واضحاً أن نظرية العرض المسرحى إنما تعثر على جذورها البعيدة فى النظرية اللغوية الارسطية، التى اعاد الكوجيتو الديكارتى إنتاجها بعد ذلك.
إذن نظرية العرض المسرحى التى تتاسس على التماهى بين الكلمات والاشياتء، لم يعد لها ما تستند إليه مما يعنى أن تحويل النص المسرحى (اللغوى) إلى عرض (مجسد) لا يستنفد اللغة و لا يبخرها، أى أن النص – فى لحظة العرض لا ينقطع عن ممارسة لغويته، و لا يكف عن التدفق من فوق خشبة المسرح...
لذا فمتلقى العرض ينقسم إلى (متفرج وقارىء) فبينما يشاهد العرض، يستمع الى النص ايضا كأنما يقرأه مما يحوله إلى (قارىء) الى جانب كونه (مشاهدا) اى انه يشارك ابداعيا (عبر التخييل) فى استيفاء شروط الوجود للعالم الدرامى (اللغوى) إذ يمد مسرحا فى مخيلته ويقدم عليه عرضه الخاص، الموازى للعرض المسرحى المجسد الذى يراه الجميع..
لذا فإندماج أو إنفصال (المتفرج) فى العرض المجسد يحدده (القارىء) وليس المخرج – ويمكن قياسهما (أى الاندماج والانفصال) وفقا لمقدار المسافة بين العرضين (المجسد والتخييلى) إذ كلما ضاقت المسافة بينهما حدث الاندماج وكلما اتسعت المسافة حدث الانفصال الذى ستخذ هنا إعجابنا أو عدم إعجابنا بالعرض، أما مغادرة المتلقى للعرض فهو أحد أشكال إنفصاله عنه...
المصدر/ جريدة مسرحنا
العدد 190- بتاريخ 7 مارس 2011
بقلم / محمد حامد السلامونى
ساحة النقاش