وضعية ملازمة للعرض المسرحى، اى أن (الحضورية أو المثولية): حضور (الذات المشاهدة) أمام (العرض)، صارت هى الشرط المؤسس للعرض المسرحى، فالمسرح وفقاً لهذا المفهوم صار (فى اللحظة الزائلة) – هكذا، بحكم شفاهيته وإذا كان المفهوم ينبنى على الرغم بأن (معنى – النص) يستحيل الإمساك به خارج السياق التاريخى الذى أنتجه.
فلحظة العرض هنا لا تتجاوز كونها لحظة (تذكر اللحظة الأولى) التى ولد فيها (المعنى)، أما سياق العرض ذاته – أى صياغة العرض على مقتضى الحال أو على قدر المقام – فيعنى تحديد الإطار الزمكانى لميلاد ذلك المعنى ...
مما يثار معه السؤال عن كيفية إستيعاب المتفرج للعرض؟ وبتعبير آخر كيف يتطابق مرجع العرض مع مرجع المتفرج ليتسنى لهذا الأخير تمثل المعنى – وهو ما يعرف بـ (الإيهام المسرحى)؟....
ولإيضاح الأمر أكثر أقول إن الزعم بانطواء النص على (معنى أصلى)، تم إنتاجه فى سياق تاريخى محدد هو (لحظة الكتابة) – مع التشديد على إستحالة إدراك ذلك المعنى خارج سياقه، يحتم على المخرج استعادة ذلك السياق، ليتمكن المتفرج من إدراك المعنى مما يعنى أن المخرج سيتخذ من (زمن الكتابة النصية) مرجعاً للعرض أى أن مرجعية العرض ستكون هى نفسها مرجعية النص..
والملاحظ عامة هو أن (العرض المسرحى – ما قبل الحديث) عادة ما كان يختزل مرجعه هو نفسه، ومرجع الكتابة ومرجع الحدث، فى مرجع واحد وحيد كونى هو (اللغة) وكما أشرت فى دراسة سابقة فقد كان أرسطو معنيا فقط بــ (الدراما المكتوبة) أى بالنص اللغوى هذا لأنه لم يكن منشغلاً بـ(الموجود نفسه) وإنما بـ (الوجود) أى بالماهية المجردة – هذا و(الماهية – بما هى موضوع الميتافيزيقا) وغايتها): مجرد لغة ، ولا وجود لها خارج الاستعارة اللغوية..
وكما نعرف فقد ظل المنظرون (شراح البويطيقا – لأرسطو) يدورون فى فلك تلك (الماهية – اللغة) قروناً طويلة، اهملوا معها العرض المسرحى ذاته، إذ لم يلتفت إليه (كإشكالية) سوى ببطء شديد وعى مضض بدءا من عنصر النهضة (مقدمة العصر الحديث) حين شرع (سيريليو وغيره) فى تغيير المناظر المسرحية..
وما يعنيه هذا هو أن الجمهور القديم لم يكن (متفرجاً أو مشاهداً) بقدر ماكان (مستمعاً) فعبر إطلاق العنان للمخيلة، فى المدى المتسع بلا نهاية للإستعارة اللغوية كان يتطابق مع (الماهية)...
والمسرح اليونانى عامة – بحكم نشأته ومرجعيته – كان يتعامل مع شخصيات أسطورية (أى لغوية)، وحين انتقالها إلى المسرح ظلت محتفظة بطبيعتها تلك، لذا فتناول (التاريخ) فى (الفرس –لأيسخيلوس) جاء لغويا أيضا أى محولاً إلى أسطورة (دون أن يعنى هذا عدم الإحالة إلى الواقع – فالواقع نفسه كان مختلطاً بالأسطورة) – أعنى أن الشخصيات التاريخية لديه كانت مصاغة بلغة أساطيرية أى أنها شخصيات نموذجية، بلا مثيل واقعى أو أكبر من الإنسان الواقعى (لأنه لم يكن لديهم معيار يقيسون عليه الواقع سوى النماذج الأسطورية)..
وكان على (الممثل – فى المسرح اليونانى) أن يتشبه فى أدائه بالنصوص – كان عليه أن يشبه اللغة اللانهائية، ومن ثم كان أداؤه المرئى مرمزا (وكان إخفاؤه لنفسه وراء قناع هو إخفاء للواقع النهائى والملابس والأحذية العالية – كانت تبتلع المشار إليه تماماً)...
وفى مسرح (شكسبير) وعلى الرغم من عدم إخفائه للممثلين أنفسهم، إلا أنهم – على خشبة المسرح الفلرغة كانوا غارقين فى عالم اللغة الشعرية، أى كانوا جزءاً من العالم اللغوى كأنما هم بشر من لغة، أونحت لغوى بارز.. فالعالم فى ذلك المسرح – لم يكن يحظى بوجود مستقل عن الوعى كان هو نفسه ما يتمثله الوعى ولا وجود للوعى خارج اللغة، أى أن اللغة كانت هى العالم نفسه..
فى (المسرح الحديث) – ومع ظهور المخرج (ساكس مايننجن) أصبح مرجع العرض منبنيا على مرجع الحدث نفسه (تاريخى ، أسطورى) وصار على المتفرج أن ينتقل إلى زمن آخر هو زمن الحدث كأنما هو فى (متحف) ونلاحظ أن هذا المنحى يمثل إستمرارية لمبدأ استحالة الامساك بالمعنى خارج السياق مع إستبدال (زمن الحدث) بـ (زمن الكتابة) طالما أن (المعنى اللانهائى) عام ومطلق ينطبق على الوجود بأكمله..
أما (أنطوان – فى المسرح الطبيعى) فقد عمد إلى المطابقة بين المراجع (الحدث، الكتابة،العرض) فثلاثتهم – لديه – يندرجون فى إطار زمنى واحد، وقد كان هذا – فى حينه – حلا جديداً لإشكالية المعنى.. ذلك أن مثول المتفرج أمام العرض المسرحى (الشفاهى)، يختلف عن مثول المتكلم العادى امام المستمع العادى فباستطاعته هذا الأخير مراجعة المتكلم فيما يقول كما أن بإمكان المتكلم مراجعة كلماته وفضلا عن هذا فهما معا – المتكلم والمستمع – ينتميان إلى المقام نفسه أى إلى النظام الرمزى الذى يتيح لهما معا حل شفرات المقال أما العرض فليس بإمكانه ذلك لذا فحل إشكالية العرض لا تكمن فقط فى قدرته على إستعادة السياق (أو المقام) القديم – ليتسنى له إعادة إنتاج المعنى، وإنما فى إعادة إنتاج المستمع القديم نفسه أعنى أن الاشكالية المحايثة لمبدأ (لكل مقام مقال) بدات تطفو على السطح سواء من ناحية (المعنى اللانهائى)- الذى ظل معتقلا فى سياج من المطلقية والشمول والاكتمال، بل والقداسة ايضا.
مما أحاله الى مجرد فقاعة خاوية عائمة سطح الوجود، او من ناحية (أثر المعنى) الذى لا تمثل استعادة المقام ضامنه لحضوره..
من هنا مصدر الاهمية الجزئية – على الاقل – لما اتى به انطوان لقد فتح الباب امام المسرح للتفاعل مع المتغيرات الجذرية التى شهدها العالم – لاسيما على مستوى (المعنى النسبى، المتغير، المتعدد، المختلف ... إلخ) إذ صار ينبثق عن العالم نفسه ولم يعد ينتسب لحيز مفارق له..
(3)
الظهور التاريخى للمخرج، ونظرية العرض المسرحى الحديث التى تمخضت عنه تلك التى تتأسس على تحويل الطبيعة (اللغوية) للنص إلى طبيعة أخرى (تجسيدية) تثير إشكالية أخرى لا تقل فى اهميتها عن الاشكاليات السابقة..
فعلى مرجعية مبدأ (العالم كتمثل) تلك التى ترتكز على قدرة الوعى على تمثل العالم عبر اللغة، دونما فاصل بينهما (أعنى المطابقة بين اللغة والعالم)، دونما فاصل بينهما:
(اعنى المطابقة بين اللغة والعالم) جعل المسرحيين جميعا يعتقدون بان تجسيد النص بما هو عودة الى الاشياء نفسها جدير بوضع حد للتفاعل (التخييلى) الذى يقوم به المتفرج مع اللغة...
وبتعبير آخر نظرية العرض المسرحى الحديث، تتأسس على تحويل النص بما هو لغة كلامية إلى عرض (مرئى ، مسموع) مما يؤدى إلى إحلال الاشياء محل كلمات النص التى تمثلها وتنوب عنها فى الحضور، مما يسمح بانتقال الايهام من النص الى العرض ..
وبتفصيل اكثر ينبنى الايهام الادبى على إندماج (معايشة) تقمص، توحد، تماهى) القارىء بالشخصية والأحداث ومجمل العالم السردى (اللغوى مما يمنح القارىء فرصة المشاركة الابداعية عبر (التخييل : حضور صورة الشىء فى الذهن مع غياب الاصل الواقعى) إذ يعمد الى استيفاء شروط الوجود لذلك العالم، خيالياً..
بقلم/ محمد حامد السلامونى
المصدر/ جريدة مسرحنا
العدد 189 – بتاريخ 28 فبراير 2011
ساحة النقاش