**النص المسرحى يتعرض لمجموعة من التحولات على طاولة المخرج والقراءة
**التجريب فى النص يفرضه منطق الحياة على خشبة العرض
تقول قولتها وترحل ... هكذا هى التجربة المسرحية "العرض" كما الماء، ما إن يندلق من كفك حتى يهربه التراب، ويصبح حلم شد القبضة عليه ثانية ضرباً من المحا ل ... هى هكذا ذاك طابعها، تلك خاصيتها المتفردة منذ الأزل .. إنها تزول لحظة وجودها البهى، وكأن قيامة الاحتفال بحضورها المدوى، دلالة صادمة بزوالها المفاجىء .. لهذا فإن ما يترشح من أربجها فى ميزان طموح الذاكرة جد قليل، قياساً بما يتجمع خلال زمن تجوهرها الأخاذ .. فى السابق، وريقات قليلة يدبجها هذا ويحرص على تداولها عبر الزمن هاجس ذاك، تتضمن حوارات سريعة، أحاديث، هوامش، يوميات التجربة وعدد آخر من شواهد الذكرى تهب لنجدتها بعض الالتماعات الفوتوغرافية الخاطفة التى تصارع سطوة الزمن لاصطياد لحظاتها الهاربة خلال مخاضات التكون الساخنة. والآن، وبعد الثورة العارمة التى تحققت فى ظل تكنولوجيا التقدم الهائل لوسائل الاتصال فإن مساحة تدوين مفاصل التجربة المسرحية قد اتسعت حظوظها إلى حد كبير، ولكن حتى هذا التدوين وأيا كانت نسبته المتحققة، هو فى الواقع لا يشبهها، بل هو ليس نبضها المتفجر وروحها الضاجة، إنما هو حقيقة أخرى استطاعت فضيلة هذا التكوين أن توقفها فى برج الزمن، بحيث صار حاصل المنتوج الجديد وفى معنى من معانيه، كأنه وليد صورة من صور الاغتيال لكنه، اغتيال أنيق ومهذب، نجح أن يكسب ود واتفاق الجميع ... على هذه الشاكلة نرى النتائج وبما تختزنه من مديات الحدة والقسوة.
لهذا يتفق الأغلبية على أن تصوير العرض المسرحى وضغطه فوق شريط سينمى أو تلفازى بقصد حفظه من عوادى الزمن، لا يبقيه كما هو فى دهشة الأصل، نعم هو نفسه، ولكنه شىء آخر تماماً .. هكذا بالضبط، وكما يجسد المعنى المراد رصف هذه العبارة "نفسه ولكنه شىء آخر"، لأن العرض المسرحى الذى كان وجوداً يحتفل بالحياة، ذاك الذى كان يعيش تغيرات قد تختلف فى أهميتها بين فترة وأخرى، وينعم بحرية دائرية، ذاك الذى كان يعاند الزمن والشيخوخة، أن يشترط الحيوية والتحديث، جاذباً، مغرياً ومتمرداً، قد غادر ليحل محله عمل يسكن العلب، صفته الجديدة المميزة أنه معلب، توقفت حركته، مخاطرته، حلمه، كهربته الآنية والمباشرة، قد أسدل الستار على حياته وكأنه سطر فى مؤلف يدمغ بالنقطة، تدل على قناعته وكفايته، لأن التدوين فى هذه الحالة وبرغم أهميته التاريخية والمرجعية، يصبح فقط غاية متحفية وضرورة من ضرورات التذكير، جثة للتشريح والدرس بغاية التعلم والمنفعة ونجده المثال ... هكذا نرى التجربة المسرحية وهى تستجيب لقدرها، تشد رحالها طائعة لتفارق حرية العرض، لذلك وعندما تغادر التجربة المسرحية فضاءات الحياة إلى حيف رفوف راحة التقاعد والسكينة، منطقة التوقف ترحل معها الكثير من الحكايا والأسرار، من التعليقات، إضافة هنا ولمسة سحرية هناك، وعدد لا حصر له من التحولات التى فشل قلم الراصد، أو المتابع الحريص لدوائر التجربة فى التقاطها وتثبيتها.
بحيث عندما يعود صاحب التجربة نفسه، أو من يرغب أن يضعها فى ميزان التقييم والاعتبار، سوف يفاجأ حين يلمس أنه غير قادر على الإحاطة بها إحاطة كاملة ... لماذا؟! والإجابة الشافية تقول إن التجربة المسرحية تبدأ عند ضفة مستوى معيناً من القناعات القلقة التى ما إن تلبث حتى تخطف القرار وتمتطى ظهر المخاطرة، فتجنى قناعات أخرى.
وهكذا تمر جميع العناصر المحركة والمشغلة لموتور التجربة المسرحية بعدد كبير من التبدلات السريعة، لا تبقيها هى نفسها ... لنأخذ على سبيل المثال نص الكاتب المسرحى، على اعتبار أنه يمثل الخطوة الأولى فى سلم التجربة المسرحية، التى تغرى وتدفع باتجاه تغذية خطوات آخرى، ورطة أخرى .. هو يورطنا، ونحن بدورنا نورط آخرين، ويالها من ورطة جميلة لنرى عدد التحولات التى يتعرض لها نص الكاتب وهو يقفز الحواجز بدء من طاولة الكاتب نفسه مروراً بطاولة المخرج وحتى طاولة القراءة – القراءات – التى تنهض بعدد مهم من الواجبات التى تقتضى صبرا وساعات من التجارب اليومية عبوراً صوب لحظة المجابهة، لحظة الاشتباك التى تحصل بين العرض والمتلقى الذى بدوره: يخضعه هو الآخر إلى تحويل آخر وقراءة أخرى، بما يتناسب وغرضه، منفعته الشخصية.
وانطلاقاً من اعتبارنا بأهمية عملنا المسرحى وخصوصية طلباته، فنحن نقول بنزع الغلاف المقدس عن النص الذى وضعه فيه مبدعه ورآثيه الأول، كاتبه، من أجل أن نمنح هذا الوسيط الجمالى فرصة التحاور والتفاعل بشكل يومى مع عناصر جديدة ومنتقاة تلهب طاقته الإبداعية نضعه فى منطقة الحياة بكل ما تخبئه له هذه الحياة من مفاجآت تاركين له الحرية فى الرفض والاقتناع من خلال درجة استجابته لعدد من الملاحظات والتصويبات التى يثبتها المخرج فى هذا المفصل من النص أو ذاك، إضافة لما يطرحه أعضاء التجربة من مقترحات جمالية.
إننا نصغى لدمدمات رغبات النص وحاجاته، لترجيعاته الداخلية، نسمعه ونراقب ردود فعله وهو يخط طريق بذآره اليومى فى روح المخرج، وفى أرواح الممثلين والمهندسين وكل الجماليين الفاعلين الذين يربح النص معهم وفى كل جولة من جولات االتجربة اليومية حياة جديدة تدفع به نحو دائرة التشكل والتكون الجديد من أجل إيضاح منمنمات الصورة المثلى الكامنة فى نسيجه الفنى.
لذلك ومن أجل إنجاح حلقة هذه الإجراءات الآنفة الذكر، فإن النص يقبل على محاورات عديدة، ولقاءات ساخنة، وأحياناً متفجرة تحتم عليه فى كثير من الأحيان أن يصغى إليها بإحترام، وباحترام عليه أن يقبل بعضها، أو يرفض البعض الآخر .. أو أن يقبلها كلها، أو حتى يرفضها كلا وجمعاً ... فهذه أمور لا يمكن حسمها أو البت النهائى بصلاحيتها، أو حتى مجرد التكهن بسلامة نتائجها، إنما هى أحكام لقناعات يقررها حصاد الظرف اليومى ومزاج الكفاءات المشاكسة لأحلام وعطاءات التجربة اليومية.
والنص بمعناه الجديد، صحيح أنه يرتكز على عمارة النص الأصلى، نص الكاتب إلا أنه توفر له ما يجعله يختط مجالاً أكثر حيوية وثقة فى أن يعتلى خشبة المسرح، ويتجول فاعلاً فى فضاءاتها، إذن بالتالى هو نص آخر.
ويمكن أن نخلع عليه أسماء جديدة، كأن نسميه "النص المجاور، أو نص العرض، أو النص الرديف، أو النص الآخر أو نص الخلاصات".كونه يعلن عن اكتماله بتكامل العناصر الكلية للعرض المسرحى، بعد أن غذته شحنات من الملاحظات والأفكار التى سطرها المخرج وفريق العرض ... فعملية الحذف والإضافة وعملية الترحيل او التقديم والتأخير التى يتطلبها النص – نص العرض هى إجراءات على درجة كبيرة من الأهمية، ويزداد حجم هذه الأهمية وضرورتها فى حالة فوز هذه الإجراءات بأصوات جميع المشاركين فى التجربة .. وقضية اللجوء إلى قرار كهذا لا يعنى بأى حال من الأحوال إشهار خلاف بوجه الكاتب، أو شكا فى إمكانيته وقدراته وملكته الإبداعية أو تنكراً وتلاعباً بخصوصية النص، على العكس تماماً إنما هى فرصة جديدة لحياة النص تحقق له العديد من طلباته فى طريق تكامله الإبداعى، تتفتح تويجات شهيته فى الإفاقة والإصغاء والمشاركة والطلب والرغبة فى التزود بمحمولات مبتكرة من المعانى والمضامين تعينه وتجعله أكثر تماسكاً وجرأة، أكثر إقناعاً وتأثيراً ... ثم إن النص نص الكاتب، وبمجرد أن يغادر طاولة الكتابة عليه أن يحسم ترددات مخاوفه، وينفتح على أفق رحب من التوقعات التى تدفع بعملية تطوره باتجاه الأجود، وبما تمليه فرضية وواجبات التجربة المسرحية اليومية "التدريب" لذلك فعندما نجرب فى النص، فإن محاولتنا هذه لا تنطلق من رغبة محضة أو عبث فارغ، إنما هى إجابات لما يفرضه علينا منطق الضرورة، منطق الحياة على الخشبة، فضاء العرض ...
ولا تترجم مشاكستنا هذه كما يعتقد بعض الكتاب على أنها خرق للمتعارف، وتجاوزاً على حقوق الكاتب الفنية والإنسانية بل إننا نرى خلاف ذلك تماماً، نرى أن ما نجترحه ونجتهد به هو بمثابة التمسك بالنص وتفعيل خصوصيته، لأن الكاتب المسرحى وحال تسطيره العبارات الأخيرة من عمر النص، وتذييله بضربة "النهاية" يكون قد شهد له بالنضج، قد أكمل مهمته الفنية، قد منحه الحرية، وضمن هذا الوضع تصبح طاولة الكتابة سجناً يضيق بأجنحة النص، ويتبدى توقه واضحاً إلى فضاءات أخرى تؤمن له الحركة والحيوية، عند ذلك يحط رحاله بين يدى الرائى الثانى .. المخرج .. أو يطرق بوابة تلك الجماعة المسرحية، ليبدأ مشواراً فاصلاً آخر من رحلة مخاطرته فى التشكل والتكوين.
بقلم / عزيز خيون – العراق /بغداد
المصدر/ جريدة مسرحنا العدد/ 178
بتاريخ 6 ديسمبر 2010
ساحة النقاش