رغم الإشارات التى امتلأ بها مسلسل (شيخ العرب همام) بداية من عنوانه لشخصيات تاريخية مثل "على بك الكبير" حاكم مصر .. ومحمد بك أبو الدهب، ذراعه الأيمن وصهره الغادر به فيما بعد، بل والإشارات الواضحة لشيخ العرب "همام" وشجرة عائلته حتى الجد الأول "سيبك" ورغم جريان وقائع المسلسل فى أجواء مملوكية أواسط القرن الثامن عشر، تشير بدورها إلى الايام الأخيرة لحكم المماليك قبل غزو الفرنسيين للبلاد، مؤكدة على تفكك الدولة كبناء متماسك يحقق الاستقرار والامن لمواطنيه، مما أدى لظهور الحركات الانفصالية عنها من جهة، وصراعات حكام الداخل المماليك وفساد ذمم المسئولين وظهور النعرات القبائلية التى أدت من جهة أخرى لتجرؤ البعض على الاستقلال والانفصال عن الدولة المصرية باسم الجمهوريات المستقلة مثل (جمهورية همام) بالصعيد وقتذاك، و(جمهورية زفتى) بوسط الدلتا فى بدايات القرن الماضى.

غير أن كل هذه الإشارات لا تصنع مسلسلاً تاريخياً، يوثق الماضى ويفسر وقائعه، وليس له علاقة بمسلسلات السير الحياتية، بل هو أقرب لمسلسل اجتماعى زى رؤية سياسية يقدم نفسه فى مفتتح تتراته على انه قصة تستلهم التاريخ بخيال جامح ولا تلتزم به، ويكشف بناؤه المنتمى للواقعية السحرية عن أنه ينظر للحاضر الراهن أكثر من نظره للماضي والبعيد أن ارتدى أرديته، وأنه يقدم الأجواء الاجتماعية والسياسية التى مهدت طوال قرون لظهور نمط (المستبد العادل) في حياتنا المجتمعية والفكرية، والذى يعمل كحاكم يصل لكرسى الحكم بجميع الوسائل المشروعة وغير المشروعة، على تحقيق العدل بين مواطنيه بامتلاك كل أدوات الحكم واستخدام كل وسائل البطش بمعارضيه بما فيها قطع الأصابع والأرجل والحرق والإطاحة بحرية التعبير، وهو ما ظهر واضحاً فى صعود نجم "همام" واجباره لزعماء بطون قبيلته على مبايعته زعيماً واحداً، والتهديد بالحرق والقتل، وعلى تمسكه بعقلية القبيلة التى ترفض أن ينتسب إليها من هو خارجها، وعلى اقامته لمجالس شعبيه يكون هو صاحب الراى الأوحد فيها.

 

روح الأسطورة!!

لهذا ليس للدراما ولا للمتلقى المحايد أن يحمل شيخ العرب اسم همام أو عباس أو أى اسم آخر، ومن ثم فنحن لا نرى مبرراً لهذا اللغط القائم عند مشاهدى هذا المسلسل غيرالحصرى، والموجه بالمتابعات الصحفية شبه القومية، والدائرة حول علاقة شخصيات ووقائع المسلسل بالتاريخ المصرى، وثورة أهالى الهوارة ضده لتحريف ما يحكى عن جدهم الأكبر، وهى حكايات تخلط بطبيعة رواتها بين التاريخ والأسطورة، وتعظم كالعادة من الشخصية المروى عنها، بعد تجريدها من واقعيتها وإلباسها رداء أسطوريا فاخرا، وهو الخلط الذى تعمد كاتب المسلسل "عبد الرحيم كمال" ان يرتكز عليه وهو يبنى عمله الدرامى الدائر فى أجواء الصعيد المشبعة بسحر الأساطير والحكايات الخرافية، فيما يبدو بسبب تغلغل الروح الفرعونية السحرية فى الحياة اليومية الجنوبية، وقدرة هذه الحياة على الانغلاق على الذات الجماعية، حتى أن الغزوات الأوربية للبلاد كانت تتوقف دوماً عند جنوب العاصمة بقليل، بل أن القبائل العربية التى وفدت على جنوب الوطن من شرقه حتى صحراء نجد وغربه حتى تونس، ذابت كلها فى الروح ارتكازاً على هذه الروح السحرية، أقام الكاتب بناء مسلسله، صانعاً شخصية درامية متباينة الأفكار والمشاعر ومنطلقاً من اول مشهد يقدم فيه الأب الكبير "يوسف" فى حلم الموت بكفن قصير لا يغطى كل جسده، رعباً من موت قادم دون حفيد يمكن له ان يورث من ابنه "همام" حكم هذه الأسرة لكل فروع قبيلة الهوارة، فابنه الكبير هذا متزوج من ابنة عمه "صالحه" دون انجاب، وابنه الآخر "سلام" غير متزوج ويعيش حياة روحانية لا تتيح له فرصة الحكم، لهذا يعبر حلم الجد بصورة مقنعة عن رغبة الامتداد الدفينة بأعماقه، وعليه يسير المسلسل فى خطين متوازيين لتحقيقهما، الاول يسعى "همام" المحموم لتجميع بطون القبيلة واجبارهم على مبايعته وفرض هيمنته فى مملكته بدهائه فى التعامل مع انباء عمومته بالقبيلة والمماليك فى القاهرة، بل والخليفة فى تركيا، والثانى بزواجه من فتاة أخرى غير زوجته تأتى له بوريث المستقبل، والذى يتحقق فى أجواء سحرية، يستجيب فيها "همام" لدعوة عبر أخيه الطيب "سلام" لزيارة ضريح الشيخ عبد الرحيم القنانى، بمسجده بقنا، وهناك يلتقى بدرويش يدفعه قبل أن يتلاشى فى الهواء للتخلى عن كل ما يجيبه من نقود حتى يمكن أن يتجلى له طيف رجل يمنحه فى غفوته ثلاث بلحات دلالة على إنجابه لثلاث أولاد، يأتونه بالفعل خلال عشر سنوات، بالإضافة إلى بنت يبدو أن الطيف لم يكن يحسب حسابها!! ثم يلتقى بسقاء يدخله فى تجربه التجرد من التميز، ويدفعه لنقل الماء للبيوت بعد أن منحه الماء الذى روى ظمأه، وأخبره أن من يشرب من قريته يتحقق له ما يريد، وفور عودة "همام" لبيته يعرف أن زوجته الأولى قد حلمت بولده، وبعدها زوجته الثانية.

 

دلالات متعددة!!

ينسج المؤلف عبد الرحيم كمال نسيج مسلسله بوعى وقدرة حرفية، تجعل التاريخ مجرد اشارات توحى بواقعية الأحداث، بينما هى مغروسة فى تربة درامية راقية الصناعة، متجاوزة الواقع الزائل، ويحقق عبرها "حسنى صالح" تقدماً فى تجربته الاخراجيه الثانية، تؤكد على امتلاكه لأدوات المخرج الاحترافية، وقدرته على إدارة ممثليه، لخلق صورة ذات دلالات متعددة، لا تقتصر فقط على نقل المعنى المباشر الذي قد تشير به كلمات الشخصيات، بل توحي بدلالات أخرى تعمق الشخصيات وكلماتها، وتثرى العمل بأكمله،

دراما رائقة تضاف لرصيد الدراما المصرية المتميزة، بأداء يحيى الفخرانى الواعى بشخصية المستبد العادل "همام" الباطش فى تنفيذ آرائه الحنون فى تعامله مع أخيه، واهل بيته وابن عمه، وبقدرة "صابرين" الأدائية الفذة، التى تعود بها لعالم التمثيل بحيوية وخفة ظل، تقدم بها شخصية "صالحة" الزوجة الغيور بصورة تجعلها تجلس على عرش "سناء جميل" ودورها الخالد فى فيلم "الزوجة الثانية" وتمهد لمرحلة جديدة فى مسيرتها الفنية، وبفاعلي آداء المتألق محمود عبد المغنى فى دور اللص الشريف الساقط من أعلى الجبل لأقدام "همام" عشقاً للجميلة "ليلى" وبأداء منضبط لكل من "عبد العزيز مخيون" وسامح الصريطى و"ريهام عبد الغفور" و "سماح السعيد" و "سلمى غريب" و "شيرى عادل" والمتميز عمر الحريرى واللافت للنظر "مدحت اسماعيل" الذى لا أحب له أن "يتقولب" في صورة الفتى السمين الملقب على التترات بــ (مدحت تيخة) والتى قد تجذب إليه الأدوار المشابهة فى المستقبل القريب، ولكنها سوف تبعد عنه كل الأدوار المغايرة.

 

بقلم / د. حسن عطية

المصدر/ مجلة أخبار النجوم

العدد/ 935- بتاريخ 2 سبتمبر 2010

 

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,256,061