حينما كنا صغاراَ، لم نكن نعرف هذا الجهاز الرهيب المسمي بالتليفزيون، أو التلفاز كما ينعته بعض الأشقاء العرب، أو المرناة أو الراني، وفقاَ لمحاولات التعريب البعيدة عن الحياة اليومية، والذي كان الأسبان يصفونه بـ (الصندوق الغبي) نظراَ لتوجيهه لرسائله من طرف واحد، لا يكل ولا يمل، ولايهتم بوجود المتلقي أمام الشاشة، أو هروبه منها أثناء فترة الاعلانات الطويلة المملة، أو انفلاته من أحاديث أكثر إملالا من الاعلانات، وذلك قبل أن يشتد عود هذا الجهاز، ويبتكر برامج (التوك شو) المعتمدة علي تلقي ردود فعل الجمهور للمواد المقدمة في هذه البرامج.

صحيح أننا لم نلحق بزمن (الروقان) والهدوء الرومانسي الرقيق، كي نقرأ (الأيام) في حضن شجر الكافور، ونحب "ماجدولين" تحت ظلال الزيزفون، ألا أننا أمسكنا بالكتاب في حصص المطالعة والمكانة بمدارس الخمسينيات، وحصلنا علي كتب الستينيات التي كانت تخرج إلى الأسواق بمعدل كتاب كل ست ساعات، وتباع بما بين قرشين خمسة قروش، وذلك في أجواء دعمت دور الكتاب في حياتنا، وفصلت بين كتب الدراسة التي نتعلم مادتها داخل المدرسة صباحاَ، وكتب الثقافة التي كنا ننهل من رحيقها مساء وفي الاجازات، حيث لم نكن نعرف شيئاَ اسمه الدروس الخصوصية، ومن كان منا يتردد علي مدرس خارج المدرسة، فهو "البليد" الذي يعجز عن التحصيل في مدارس كان مدرسوها معلمون بحق، وأباء بجد، وعشاق علم ومعرفة بكل معني الكلمة.

علقة رد قلبي

كان الكتاب وسيلتنا لمعرفة عظماء التاريخ والعلم والفكر فاصبحوا قدوتنا في التقدم، وكان طريقنا نحو فنون السرد عبر مغامرات "ارسين لوبين" و "شارلوك هولمز" مع ميلودرامات" عزيز أرماني و "خليل حنا تادرس"، حتي وصلنا لمدهشات "يوسف إدريس" ومثيرات المتعة الذهنية والوجدانية في روايات " المازني" و "نجيب محفوظ" و "إحسان عبد القدوس" و "يوسف السباعي" وكتب "العقاد" و "طه حسين" وأشعار "علي محمود طه" و"ابراهيم ناجي" مع تجديدات "عبد الصبور" و" عبد المعطي حجازي"، كما نجحت السينما في أن تدفعنا أكثر نحو قراءة الروايات الواقعية والتاريخية والرومانسية، مقارنا فيلم (ظهور الاسلام) للمخرج "ابراهيم عز الدين" إلى كتاب (الوعد الحق) للدكتور "طه حسين" المعتمد علي مادته، ودفعنا فيلم (رد قلبي) للمخرج عز الدين ذو الفقار إلى البحث عن رواية "يوسف السباعي" المأخوذ عنها الفيلم، وأتذكر أننى من أجل عيون هذه الرواية، حصلت علي علقة ساخنة من أخي الاكبر، والذي كانت بحوزته ويخفيها عني، بحجة أنها أكبر من عمري، فقد كنت وقتها في الصف الرابع الابتدائي، وذلك حينما حصلت عليها وانهمكت في قراءتها أثناء غيابه، ولما عاد أنهال علي بالضرب.

ظهر التليفزيون، فخطف العيون والأفئدة والعقول، ومع ذلك لم يتخلف قادته في البداية عن النهل من عالم الكتب، فقدموا أعمال كبار الكتاب وحاوروهم، ونقلوا رواياتهم إلى الشاشة، فقدموا لنا (هارب من الايام) لـ "ثروت أباظة" و (لاتطفئ الشمس) لـ "احسان عبد القدوس" وكلاهما للمخرج "نور الدمرداش" و "الأيام" لـ "طه حسين" من اخراج "يحيي العلمي" وغيرها من الاعمال المرئية المتميزة، والتي وعت أن للدراما التليفزيونية الجادة حقا َ في الاعتماد علي الفن الروائي، حتي مع ظهور كتاب سيناريو كبار، امتلكوا أدواتهم الكاملة، وتجاوزا مرحلة صياغة قصص الغير في سيناريوهات تليفزيونية، إلى الاعتماد علي قصص خالصة لهم، تكتب مباشرة للتليفزيون، وأن أدركوا فيما بعد أن عدم نشر إبداعهم في كتب، أو عبر روايات خالصة قد أبعدهم عن حقل التجدد بتعدد رؤي كتاب سيناريو آخرين لابداعهم، مثلما يحدث مع النصوص المسرحية، فراحوا يعملون علي نشرهذه الأعمال في مجلدات مقروءة، بل والعمل علي نشر روايات خالصة لهم، يحرصون علي عدم تحويلها بأنفسهم إلى سيناريوهات للتليفزيون، مثلما فعل الراحل الكبير "اسامة أنور عكاشة" حينما نشر روايته (وهج الصيف) وترك للسيناريست "عاطف بشاي" فرصة تحويلها لمسلسل تليفزيوني أخرجه ابنه "هشام عكاشة".

حارقو الكتب

مازال للكتاب المطبوع رونقة، مع طغيان وسائل الميديا الحديثة، وهيمنة الصورة علي الأفئدة والعقول، والرعب القديم لمخرج الموجة الفرنسية الجديدة "فرانسوا تريفو" في فيلمه الانجليزي (451 فهرهايت) عام 1966، والمعد عن الرواية المضادة لليوتوبيا والتي تحمل نفس الاسم لكاتب الخيال العلمي الامريكي "براد بوري" عام 1953، رعبه من أن يصل مجتمع المستقبل، مستقبله، والذي تشير له الرواية بأنه سيكون عام 1990، لمرحلة إلغاء الكتاب المطبوع، داخل أنظمة تعتمد فيها السلطات الحاكمة علي الصور المستحدثة، وتحول رجال المطافئ إلى مشعلو الحرائق في الكتب المطبوعة، مما يلغي التاريخ الذي تحتفظ به هذه الكتب وتنقله من جيل لآخر، وتعطل فيه العقول لانغماسها في عالم الصور المنقولة عن الواقع دون نقد له، ويعيش الانسان لحظته الخاطفة فقط.

هذا ما أرعب "تريفو" وجيله، ومع ذلك جاء عام 1990 ومرت سنوات بعده لعقدين كاملين، وظهر علي شاشة المرناة الكاتب صاحب العقل المتفتح والثقافة العميقة والحس الساخر "بلال فضل" ليقدم علي قناة "دريم" منذ الأسبوع الاخير من شهر فبراير الماضي برنامجاَ متميزاَ باسم (عصير الكتب) تصور في تقديم أولي حلقاته أنه لن يكون له غير مشاهد واحد، وربما يكون هو نفسه فقط، واعتقد أنه اكتشف فيما بعد أن هناك العديد من المتابعين الجادين لبرنامجه، والقائم علي فقرات متعددة، ما بين تقديم لكتاب، ولقاء مع ناقد حول كتاب، وترشيح لكتاب من أجل قراءته، وحوار مع أحد المبدعين، مثل حواره مع الراحل الكبير "اسامة أنور عكاشة"، والذي أعاد جزءاَ منه في الحلقة قبل الأخيرة، وتلقفت الصحف هذا الجزء باعتباره وصية الكاتب الحكيم لصناع ابداع اليوم والمستقبل.

وضع "بلال فضل" في مقدمته الحلقة الأولي تصوره لبرنامجه، مؤكداَ علي أن طموحه الكبير مرتبط بأرض الواقع، وأن أقصي ما يتمناه، ليس تغيير الواقع، بل دفع المشاهد لعدم تغيير القناة أثناء بث البرنامج، ومن ثم تلقي ما بيئه من معرفة، مؤكداَ من خلال (مانيفستو) البرنامج المعلن أن هدفه هو امتاع المشاهد، بأفضل متعة عقلية وأرخصها من ناحية القيمة التجارية، ووضع يده علي أن الكتاب هو خير وسيلة لمعرفة الذات والمجتمع، وأنجح طريق للتقدم.

وخلال نحو خمس عشرة حلقة من برنامج (عصير الكتب) تم تأكيد نجاحه، بفضل جهد صاحبه وفريق العمل معه، والمكون من مجموعة متميزة من الكتاب والنقاد، وأن مالوا لحقول الكتب الفكرية وفنون السرد الروائي، بعيداَ عن حقول المسرح والسينما، والتي عادة ما تغيب عن البرامج التليفزيونية وصفحات الجرائد والمجلات (الأدبية)، باعتبارها (فنوناَ) يبرز فيها النجوم من الممثلين والمخرجين، ويعد كتابها مجرد ( ورشجية) عند هؤلاء النجوم.

أما أهم ما حققه هذا البرنامج بالنسبة لى كناقد متابع لما يعرض علي المرناة، هو أنني أحرص أسبوعياَ علي مشاهدته، ولم أضبط نفسي مرة مستخدماَ (الحاكوم)، أى الريموت كونترول بترجمته العربية، في تغيير القناة. هذا الحاكوم اللعين الذي عادة مايختفي مني تحت المقعد أثناء بث البرنامج.

 

بقلم / د. حسن عطية

المصدر / عن باب دراما مرئية مجلة أخبار النجوم العدد 924

17 يونيو 2010

 

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,255,461