**ما احلى الرجوع عليهم .... 25 عاما على رحيل ملك المونولوج
هؤلاء الذين عشنا حياتهم بالأبيض والأسود لونوا أيامنا بأطياف من المتعة والسعادة .. وهذه الصفحات التى تقدمها تحية لهم ليست نقلاَ حرفياَ عن الماضى وإنما هى إعادة قراءة له, وخلق علاقة جدليه معه.
محمود شكوكو هو النموذج الأمثل لنجم السينما الذى صنعه جمهور مابعد الحرب العالمية الثانية, كانت الطبقات الشعبية هى الفئة السائدة فى جمهور السينما بحكم تمركز القدرة الشرائية فى أيديهم بفعل التغيرات التى أحدثتها الحرب على المستويين الاجتماعى والاقتصادى قبل السياسى, وكان طبيعياَ أن يبحث جمهور الطبقة الشعبية عمن يمثلهم تمثيلاَ حقيقياَ على شاشة السينما, كانوا يريدون بطلاَ شعبياَ حقيقياَ ليس فى طيبة وسلبية اسماعيل يس, او سذاجة حسن فايق وسعيد أبو بكر, كما أنه ليس بالضرورة أن يكون معلماَ كعبد الفتاح القصرى أو حتى زكى رستم, كانوا يريدون بطلا بسيطاَ مثلهم يتسم بالرجولة والشهامة والجدعنة والفهلوة إذا لزم الأمر, كانوا يريدون بطلاَ من الممكن أن يكون "مكوجياَ" أو أسطى نجار مثلاَ, فهل هناك من هو أنسب من محمود شكوكو لهذه المهمة بكل ما تسبقه من خبرة حياتية وشهرة فائقة حققها فى عالم المونولوج .
بالفعل قد وجد صناع الأفلام ضالتهم فى هذا الشاب الذى كان حتى ذلك الوقت يمارس حرفة النجارة – رغم شهرته- وذلك قبل أن يترك ورشته الخاصة لأخيه الأصغر, وعلى عكس كل ممثلى الكوميديا الذين جاءوا قبله وبعده أيضاَ لم يكن شكوكو بحاجة إلى من يرسم له شخصيته الفنية, لم يكن بحاجه إلى عبقرية مثل الريحانى أو بديع خيرى كى يرسم لاستيفان روستى دور الشرير خفيف الظل, أو تمنح مارى منيب ثوب الحماه, أو تلبس زينات صدقى شخصية الخادمة أو العانس, أو تبتكر لحسن فايق نمط الرجل الساذج الضعيف, وهكذا كان السينمائيون يريدون شكوكو على الصورة التى هو عليها فى الحقيقة والتى لولاها ماكانوا التفتوا إليه من الاساس, ومن هنا لم يستلزم شكوكو أى مجهود لتجهيزه قبل الدفع به إلى شاشة السينما, أو حتى التأكيد على وجوده بعد تجاوزه مرحلة البدايات الأولى التى تواكبت تماماَمع البداية الزمنية للعصر الذهبى للكوميديا السينمائية فى مصر.
كانت بدايات شكوكو فى السينما على يد المخرج نيازى مصطفى فى فيلمين متتاليين ظهرا فى نوفمبر وديسمبر 1944, حينما كان العالم كله يوشك أن يودع شبح الحرب العالمية الثانية, والفيلمان هما: "حسن وحسن" و "شارع محمد على" فى توليفة تكاد تكون واحدة فى الفيلمين حيث المطرب "محمد الكحلاوى فى الأول وعبد الغنى السيد فى الثانى" بينما الراقصة بالفيلمين واحدة هى حورية محمد, وهو ماتكرر بشئ من التعديل فى الفيلم الثالث لشكوكو, وهو "أحب بلدى" من إخراج حسين فوزى حيث أستبدل المطرب بالشاب النبيل "أنور وجدى" بينما تم الإبقاء على الراقصة فى شخص تحية كاريوكا وهو على أية حال نموذج آخر للتوليفات التجارية الناجحة, أو الوجبات السينمائية سابقة التجهيز التى كانت سائدة فى تلك الفترة.
وأياَ كانت تلك التوليفة أو الوجبة فإن شكوكو كان طبقا شهيا ومطلوبا على مائدة مشاهدى سينما تلك الفترة, وقد أخلص شكوكو لشخصية ابن البلد الجدع فلم يمثل غيرها تقريباَ سواء كان بطلا او ممثلا مساعدا, وسواء كان أبن الحارة الشعبية فى "شباك حبيبى" لعباس كامل 1951, أو خادماَ فى منزل عماد حمدى فى "ست البيت" لأحمد كامل مرسى 1949, أو صديقاَ مخلصاَ لفريد شوقى فى "الأسطى حسن" لصلاح أبو سيف 1952, أو مساعد فى عيادة الطبيب البيطرى عبد العزيز محمود فى "خد الجميل" لعباس كامل 1951, أو عاملا فى مخبز بلدى فى "بائعة الخبز" لحسن الأمام 1953, أو حتى ثنائياَ ناجحاَ مع إسماعيل ياسين كما فى أفلام "قلبى دليلى, عنبر, وليلة العيد" على سبيل المثال.
وعلى مستوى أدوار البطولة فإن هذه الادوار لم تتأخر كثيراَ عن شكوكو خاصة أنه جاء إلى السينما تسبقه شهرته فى عالم المونولوج, فمن البطولة المشتركة مع إسماعيل ياسين فى "البنى آدم" لنيازى مصطفى 1945 إلى أول بطولة مطلقة له عام 1946 فى فيلم "عودة طاقية الإخفاء" حينما أرادت عزيزة أمير منتجة فيلم "طاقية الإخفاء" استغلال النجاح الكاسح الذى حققه الفيلم عام 1944 على يد مخرجه نيازى مصطفى وبطله محمد الكحلاوى لكن خلافات المنتجة مع كلاَ من المخرج والبطل حالت دون تنفيذ الفيلم الجديد بنفس فريق عمل الفيلم الأول, فاستعانت بالمخرج محمد عبد الجواد وبنجم هذه الفترة محمود شكوكو, ثم قام فى العام التالى -1947- ببطولة فيلمين آخرين "البريمو" مع بشارة واكيم وسهام رفقى وإخراج كامل التلمسانى, ثم "بنت المعلم" مع سعاد مكاوى وإخراج عباس كامل الذى عاد عام 1949 وأمام نفس البطلة ليمنح شكوكو بطولة فيلم آخر هو"حدوة الحصان" أما آخر بطولاته فهى أهمها على الاطلاق, وجاءت على يد المخرج سيف الدين شوكت سنه 1952 فى فيلم "شمشون ولبلب"
أمام سراج منير وحورية حسن والملاحظ هنا فى بطولات شكوكو ومهما اختلف أسم المخرج أنه كان دون ان يدرى يهدم ماظنه الآخرون من المسلمات: فيفاجئ جمهوره بما يخالف قناعتهم الخاطئة, فى فيلم البريمو مثلاَ يكون الخادم أكثر كرما من سيده, وهو الذى ينقذه من ضائقته المالية بعد فوزه بجائزة اليانصيب ليصبح الخادم بتضحيته ونبل أخلاقه وثروته المفاجئة أقوى من مخدومه, وفى "بنت المعلم" يكشف عن أن صبى المقهى الشعبى بكل فقره وبساطته وإخلاصه هو درع الأمان للمعلم وأبنته من أصحاب الثروة والنفوذ المزيفين, ثم هو فى "حدوة الحصان" يؤكد أن الثروة فى رضا النفس وقرب الحبيب فى وقت أنتشرت فيه بعد الحرب نغمة مشابهة لما هو حادث الآن والتى تلخصها المقولة الشعبية "اللى معاه قرش يساوى قرش, واللى معاهوش مايلزموش" كما أكد الفيلم على أن الكنز الحقيقى فى عقل الإنسان ويده لا فى ضربة حظ ينتظرها.
وتبلغ قمه تكسير القواعد الثابتة فى فيلم "شمشون ولبلب" الذى عرض فى أبريل 1952, وهو تاريخ له دلالته التى يكشف عنها الحوار الموحى لبديع خيرى, فالفيلم الذى جاء فى ذروة الكفاح المسلح للمصريين ضد الإنجليز فى منطقة القناة,وقبل اشهر من ثورة يوليو يؤكد على أن القوة والغطرسة من الممكن أن تنهزم أمام العقل والحيلة مادام الحق فى جانبه: مثلما نجح "لبلب" الذى لا يملك إلا ذكاء أبن البلد فى صفع شمشون الجبار بكل ثروته وجبروته وغطرسته سبع مرات متتالية.
بقلم/ اشرف غريب المصدر / مجلة الكواكب العدد 2065 بتاريح 22/2/2010
ساحة النقاش