إن مصر تمتلك تراثاً ضخماً لعروض المسرح الغنائي أبدعه كبار الموسيقيين المصريين عبر أجيالهم المختلفة (سلامة حجازي- سيد درويش- كامل الخلعي- داود حسني- إبراهيم فوزي- محمد القصبجي- زكريا أحمد رياض السنباطي- أحمد صدقي- بليغ حمدي- محمد الموجي), ومع ذلك فإن هذا التراث يتعرض لأهمال وتجاهل غير مقبول. وفيما يلي نقدم عرضاً موجزاً لتاريخ المسرح الغنائي المصري وتراثه الثري المتنوع, وكيفية إحيائه ليقدم للجماهير المعاصرة.

  شهدت مصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر نهضة فنية واضحة, فقد أنشئ المسرح الهزلي الفرنسي (الكوميدي فرانسيز), وافتتح في (4 من يناير عام 1868) بحديقة الأزبكية بالقاهرة. وكذلك أنشئت دار أوبرا القاهرة (القديمة) بمناسبة افتتاح قناة السويس, وكلف مؤلف الموسيقى إيطالي جوزيبي فيردي بتأليف أوبرا (عايدة) لتعرض في حفل الافتتاح, وتقاضي عن ذلك (مائة وخمسين ألف فرنك ذهبي). وافتتحت دار أوبرا القاهرة (القديمة) في حفل فخم حضره ملوك أوروبا وملكاتها وأمراؤها في (17 من نوفمبر عام 1869), ولكن الظروف حالت دون عرض أوبرا (عايدة) في الحفل وعُرض بدلاً عنها أوبرا (ريجوليتو) لفيردي أيضاً. وقبيل ذلك الوقت بدأ أيضاً إنشاء المسرح الغنائي في مصر, ففي عام 1870 اتخذ يعقوب صنوع (1839- 1912) من مقهى كبير في حديقة الأزبكية مسرحاً لفرقته, وقدم الروايات الهزلية والتراجيدية, منها ما كان من تأليفه, ومنها ما هو مقتبس من المسرحيات العالمية, وبذلك كان يعقوب صنوع أول مصري يخوض هذا المجال. وقد كان يعقوب صنوع متعدد المواهب, فقد كان شاعراً وأديباً وموسيقياً ومخرجاً, وكان يقوم بتلحين وإخراج المسرحيات التي تقدمها فرقته.

  اتجه يعقوب صنوع في سنواته الأخيرة اتجاهاً وطنياً فيما كان يقدمه من مسرحيات, فأمر الخديو إسماعيل بنفيه من مصر, بعد أن كان قد أطلق عليه لقب (موليير مصر), فرحل إلى باريس عام 1878 وعاش بها حتى وفاته عام 1912.

  وفي نهاية عام 1876 وفد إلى الإسكندرية سليم نقاش مع فرقته التي كانت تضم ممثلين ومغنيين وموسيقيين. وفي عام 1877 كون يوسف خياط فرقة مستقلة تضم السوريين والمصريين, وقدمت الفرقة بعض عروضها بالقاهرة والإسكندرية والأقاليم, ثم نجح يوسف الخياط في إقناع الشيخ سلامة حجازي بأن يُغني بعض قصائده الغنائية الشهيرة في فترات الاستراحة التي تتخلل فصول روايات فرقته. كما كانت فرقة الخياط أول فرقة عربية يسمح لها الخديو بتقديم عروضها على مسرح دار أوبرا القاهرة.

  وفي عام 1882 تكونت فرقة سليمان القرداحي وأطلق عليها (الجوق التمثيلي العربي).

  ويعتبر مولد المسرح الغنائي العربي الحقيقي في مصر, على يد الشيخ احمد أبو خليل القباني الدمشقي (1842- 1903), الذي رحل مع إسكندر فرح من دمشق إلى إسكندر حيث وصلاً إليها في (23/6/1884). وبدأت المسرحية على يد القباني تأخذ شكلاً جديداً, فقد كان الشيخ أبو خليل القباني شاعراً وموسيقياً وأديباً وممثلاً, وقدم رواياته على مسرح زيزينيا وقهوة الدانوب. وكانت رواياته مستوحاة من التاريخ العربي الإسلامي, وقصص ألف ليلة وليلة. وكانت تتميز بالرقص الإيقاعي, وكان يتناوب الغناء بين فصول الروايات التي تقدمها الفرقة المطرب الكبير (عبده الحامولي) والمطربة الشهيرة (ألمظ).

  استمر نشاط القباني وفرقته في مصر سبعة عشر عاماً, وبعدها قام بعض الحاقدين والمشاغبين بحرق مسرحه الذي أقامه في العتبة الخضراء وذلك عام 1901, وبعدها بعامين توفى الشيخ أحمد أبو خليل القباني في دمشق.

  وفي عام 1885 انضم الشيخ سلامة حجازي إلى فرقة الحداد والقرداحي, استجابة لنصيحة زميله المطرب الكبير عبده الحامولي, وظهر الشيخ سلامة حجازي لأول مرة على مسرح دار أوبرا القاهرة ممثلاً ومغنياً.

  وفي منتصف عام 1888 انفصل إسكندر فرح عن فرقة الشيخ أحمد أبو خليل القباني وكون فرقة خاصة به, وفي العام التالي انضم الشيخ سلامة حجازي إلى فرقته.

يُعد الشيخ سلامة حجازي (1852- 1917) المنشئ الحقيقي للمسرح الغنائي العربي في مصر, فقد كان يتربع على عرش الغناء, بعد أن توفى عبده الحامولي عام 1901, وذلك لما كان يتمتع به من صفاء الصوت وقوته وعذوبته مع المساحة الصوتية الواسعة.

  كان الشيخ سلامة حجازي يتفنن في أداء قصائده الغنائية بأسلوبه الفريد. وبعد أن مثَل وغنى في عدة فرق مسرحية, وفي عام 1905 انفصل الشيخ سلامة حجازي عن فرقة إسكندر فرح لخلاف نشب بينهما, واستقل بنفسه وكون فرقة خاصة به, قدمت عروضها في صالة سانتي بحديقة الأزبكية . وفي عام 1906 انتقل الشيخ سلامة حجازي بفرقته إلى صالة (فيري) بشارع الباب البحري, وأطلق عليها (دار التمثيل العربي) وانضم إلى فرقته أولاد عكاشة.

  ومن المسرحيات الغنائية التي قدمها الشيخ سلامة حجازي نذكر (هناء المحبين- بائعة الخبز- مطامع النساء- حُسن العواقب- الجرم الخفي- اللص الشريف- سارقة الأطفال- صدق الإخاء- عواطف البنين- صاحبة الشرف- القضية المشهورة- اليتيمين- شهداء الغرام- أجا الممنوع).

  وفي عام 1914 اشترك الشيخ سلامة حجازي مع المسرحي الكبير جورج أبيض وتكوين فرقة أبيض وحجازي وقدما روايات (ـوديت الملك- لويس الرابع عشر – عطيل- عايدة –صلاح الدين الأيوبي- الحاكم بأمر الله –أخناتون- قلب امرأة- في سبيل الوطن- ابنة الحارس).

  وفي عام 1916 انفصل الشيخ سلامة حجازي عن جورج أبيض, وكون لنفسه فرقة خاصة قدمت روايات (غرائب الأسرار- قسوة الشرائع- العفو القاتل- شقاوة العلائلات).

  وظل سلامة حجازي يمتع الجماهير بفنه حتى آخر يوم في حياته, حتى توفى يوم (4/10/1917).

  جاء الشيخ سيد درويش خليفة للشيخ سلامة حجازي.وكان الشيخ سلامة قد أستمع لسيد درويش بالإسكندرية وأعجب بأعماله وشجعه على السفر إلى القاهرة, وعندما سافر الشيخ سيد درويش إلى القاهرة عام 1917, شجعه الشيخ سلامة وتنبأ له بمستقبل كبير.

  قدم سيد درويش مسرحياته الغنائية من خلال عدة فرق مسرحية هي فرق (جورج أبيض- نجيب الريحاني- علي الكسار- أولاد عكاشة- منيرة المهدية) ثم كون فرقته الخاصة. واستطاع سيد درويش أن يقدم (31) مسرحية غنائية- وفقاً لأحدث إحصاء –خلال السنوات السبع التي عاشها في القاهرة (1917-1923). وفيما يلي نماذج من تلك المسرحيات الغنائية ( فيروز ساه- الهواري – كله من ده- ولو- إش- ولسه- عقبال عندكم- قولوا له- أحلاهم- قلنا له- رن –مرحب- كلها يومين- العشرة الطيبة- راحت عليك- فشر- هدى- عبد الرحمن الناصر- اللي فيهم- أم أربعة وأربعين- شهرزاد- البروكة- البربري في الجيش- الهلال- الدره اليتيمة- الانتخابات- كليوباترا ومارك أنطوان).

  ولحن كامل الخلعى (1870-1938) مسرحيات غنائية لفرقة عكاشة نذكرها فيما يلي (لص بغداد- قلاوون- محمد على باشا- طاقية الإخفاء- طيف الخيال- خاتم سليمان- فتح السودان- المرأة الكاذبة- آه يا حرامي- التوبة).

  وكذلك لحن داود حسني (1870-1937) عدداً من المسرحيات الغنائية نذكر منها ( معروف الإسكافي- ناهد شاه- الغندورة- الليالي الملاح- أميرة الأندلس- فاتنة بغداد- أيام العز- الشاطر حسن- قنصل الوز- لو كنت ملكاً- الفلوس- مجلس الأنس- قمر الزمان- زباين جهنم- سفينة نوح –بواب العمارة- صاحبة الملايين- الأميرة الفلاحة- شمشون ودليلة – سميراميس-ليلية كليوباترا).

  وشارك محمد القصبجي (1892- 1966) في التلحين للمسرح الغنائي, فقد شارك في تلحين رواية (المظلومة) مع كل من كامل الخلعي ومحمد عبد الوهاب لفرقة منيرة المهدية عام 1924, ثم لحن لفرقة منيرة المهدية روايات (حرم المفتش- حياة النفوس- كيد النسا), واشترك مع الملحن إبراهيم فوزي في تلحين رواية (نجمة الصبح) لفرقة نجيب الريحاني.

  وجاء الشيخ زكريا أحمد (1896- 1961) وقدم للمسرح الغنائي المصري (53) مسرحية غنائية –وفقاً لأحدث إحصاء- نذكر منها (دولة الحظ- الغول- عثمان حيخش دنيا- الطنبورة- الخالة الأمريكانية- آخر مودة- الوارث- حكم الزمان- السفور- البرنس الصغير- ملكة الجمال –قفشتك- ابن فرعون- الكنوز- مين فيهم- ابن الأومباشى- طاحونة الهوا- ملكة الغابة- سلامبو- بدر البدور- الساحر أبو فصادة- ياسمينة- الدنيا جرى فيها إيه- يوم القيامة- عزيزة ويونس).

  وقد عُرضت المسرحية الغنائية (يوم القيامة) عام 1940, كما عُرضت المسرحية الغنائية (عزيزة ويونس) عام 1945, وعرضتهما الفرقة القومية.

 ثم جاء الملحن إبراهيم فوزي (1897- 1952) وقدم للمسرح الغنائي عدة أعمال نذكر منها: ( قيس وليلي- إمبراطور زفتى- زباين جهنم- الكونت زقزوق- علمي علمك –القضية- عقبال عندكم).

  ولحن رياض السنباطي (1906-1981) في مطلع الثلاثينيات في القرن العشرين ثلاث روايات للمسرح الغنائي قدمتها فرقة منيرة المهدية وهي )  عروس الشرق- آدم وحواء- سهرة بريئة). كما شارك في تلحين المسرحية الغنائية (سميراميس) مع كل من كامل الخلعي وداود حسني.

  ولحن أحمد صدقي للمسرح الغنائي (البيرق النبوي- ليلة من ألف ليلة).

    وفي مطلع الستينيات من القرن العشرين قدم بليغ حمدي للمسرح الغنائي (مهر العروسة) , وأتبعها بعرض (تمر حنة- يس ولدي).

  وقدم محمد الموجي للمسرح الغنائي (هدية العمر- حمدان وبهانة- وداد الغازية- الشاطر حسن- طبيخ الملايكة- دنيا البيانولا- شهرزاد- ملك الغجر- على فين يا دوسة).

  ولحن للأطفال مسرحية (ممنوع يا كروان) , ولحن لمسرح العرائس (توت توت).

  وبعد ذلك تم تقديم بعض المسرحيات الغنائية لحنها كبار الملحنين وقام ببطولتها كبار المطربين, كما قدم العديد من العروض المسرحية الغنائية في المناسبات القومية الكبرى.

  ولكن السؤال المهم الذي يفرض نفسه ويجب طرحه هو :أين تراث المسرح الغنائي المصري الحاف  ولكن السؤال المهم الذي يفرض نفسه ويجب طرحه هو :أين تراث المسرح الغنائي المصري الحافل بالكثير من المسرحيات الغنائية التي أبدعها كبار الموسيقيين المصريين عبر أجيالهم المختلفة؟    

  إنني أرى أن إحياء ذلك التراث وتقديمه حياً للجمهور هو واجب وطني لأبد من القيام به, وعرض تلك المسرحيات الغنائية على  التوالي على مسارح دار الأوبرا المصرية أو على مسارح هيئة المسرح . فلابد من إحياء ذلك التراث وتقديمه للجمهور حتى تتعرفه الأجيال المعاصرة والقادمة. فهذا التارث يمثل عصارة فن هؤلاء الموسيقيين المصريين العظماء الذين أفنوا حياتهم في خدمة الموسيقى المصرية في كل مجالاتها.

  ويمكن البدء بإعادة تقديم المسرحيات الغنائية التي سبق عرضها مثل (العشرة الطيبة- وشهرزاد) لسيد درويش و(يوم القيامة- عزيزة ويونس) لزكريا أحمد, وفي نفس الوقت يتم الإعداد لتقديم مسرحيات غنائية أخرى لم تعرض من قبل. مع ملاحظة أن أغلب تلك المسرحيات الغنائية مسجلة في الإذاعة المصرية, ويمكن الرجوع إليها بكل بساطة إذا صدقت النوايا.

إن الأمم تفخر بتراثها وتتباهى به بين الأمم,ونحن لدينا هذا العدد الوفير من المسرحيات الغنائية ثم نتجاهل إحياءها وتقديمها حية للجماهير المعاصرة وتسجيلها بأحدث الوسائل لحفظها لكل الأجيال.

  والجدير بالذكر أن أكثر الحفلات التي تلقى إقبالاً جماهيرياً واسعاً هي تلك التي تقدم الموسيقى والغناء العربي..ولكن الساحة الأن تخلو من أي عروض من تراث المسرح الغنائي المصري.. فهل ننتظر حتى تضيع كل الوثائق التي يمكن الرجوع إليها سواء كانت تسجيلات أو مدونات موسيقية, ثم بعد ذلك نتذكر فجأة هذه الأعمال فلا نجد ما يمكن الرجوع إليه لتقديمها؟

  أرجو أن تجد هذه الدعوة صداها لدي المسئولين عن المسرح الغنائي المصري والذين بيدهم اتخاذ القرار.

 

المراجع:

<!--د. زين نصار: المؤثرات السورية واللبنانية على المسرح الغنائي المصري, القاهرة, مجلة فكر وإبداع, مكتبة الأنجلو المصرية, العدد (16) نوفمبر عام 2002.

<!--د. زين نصار: موسوعة الموسيقى والغناء في مصر في القرن العشرين, الجزءين (1و2), القاهرة, دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع عام 2003م.

<!--د. سيد علي إسماعيل: تاريخ المسرح في مصر في القرن التاسع عشر, القاهرة, الهيئة المصرية العامة للكتاب, عام 1998.

<!--د. محمود أحمد الحفني: الشيخ سلامة حجازي رائد المسرح العربي, القاهرة, دار الكاتب العربي للطباعة والنشر, عام 1968.

<!--محمود كامل: محمد القصبجي حياته وأعماله, القاهرة, الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر,عام 1971.

<!--محمود كامل: المسرح الغنائي العربي, القاهرة, دار المعارف, سلسلة كتابك رقم (69),1977.

<!--محمود كامل وآخرون: التاريخ الفني للموسيقار رياض السنباطي, القاهرة, وزارة الثقافة, الإدارة العامة المركزية للعلاقات الثقافية الخارجية, سلسلة (بريزم) رقم (1), 1993.

 

بقلم د. زين نصار

المصدر/ مجلة الهلال بتاريخ ديسمبر 2009

 

 

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,871,019