أمـل الجمل

  ربما يُضيء عنوان الشريط الفيلمي عمو نشأت احتمالات للقراءة قبل المشاهدة، بأنه سيكون فيلم بورتريه لشخصية نشأت منصور، وتاريخه واستيعاب تراكماته. لكنه إلى جانب هذا يرسم المحيط والمكان الذي يُؤطره، ويُؤطر علاقته بالآخرين وحتى علاقات بعض الدول ببعضها البعض في ذلك الحين، كما أنه يجعلنا نقرأ شخصيات آخرى في ضوء ذلك البورتريه، ويكشف لنا كيف عانت أسرة أخيه خيري من الهجرات المتواصلة من بلد إلى بلد، وأن كثيراً من الأشياء ضاعت أثناء تلك التغريبة. ليست أشياءاً مادية فقط ولكن كان هناك أمور آخرى أشد خطورة.
  منذ الوهلة الأولى يلج بنا المخرج من الحلم إلى عالم الفيلم، إذ يبدأ أصيل ابن الأخ من سرد تفاصيل حلم ملتبس، به رموز غير واضحة، خلاصته أنهم ذهبوا إلى لبنان وعثروا على عمه نشأت الذي رفض إخبارهم أين كان طوال كل تلك الفترة، وانتشر الخبر بين اليهود فقبضوا عليه وأعدموه، لكن ما كان لافتاً وغريباً لابن الأخ أن نشأت لم يكن متأثراً أو خائفاً، بل كان سعيداً. إن هذا الحلم بقدر ما يشي بالرغبة الدفينة المستقرة في أعماق المخرج في إعادة إحياء ذكرى عمه، والبحث في ماضيه، بقدر ما يكشف عن توتره وعدم فهمه لكثير من الأمور الغامضة.
  عقب المقدمة الحلمية المتشظية بين أسماء التتر نرى أصيل على متن الطائرة ثم نجد أنفسنا معه وهو يبحث بين شواهد القبور بينما يأتي صوته من خارج الكادر قائلاً: "عمي نشأت آخر مرة شوفتني كان عمري خمس سنين وكان عمرك 27، الآن صار عمري 34 وأنت لازلت 27.." ثم يعترف الشاب أنه لايعرف لماذا يكتب إلى عمه هذا الخطاب.

بين عالمين ورحلتين
  رحلة البحث التي بدأها أصيل – ربما بإيعاز من ذلك الحلم - من شواهد القبور ظلت توازيها رحلة أخرى تعددت دروبها ما بين الأردن، وفلسطين، نبشاً في كل المعلومات والأخبار، والوثائق والمؤسسات، وتنقيباً عن الشخصيات التي تُمكنه من استكمال بورتريه نشأت الذي قيل أنه استشهد في لبنان على أيدي القوات الإسرائيلية، فنجح أصيل في إجراء سلسلة من المقابلات مع مقاتلين كانوا أصدقاء عمه، إلى جانب زيارة للمستشفيات ومراجعة للوثائق المختلفة، لكن اللافت في هذا الأمر أن الحكي عن نشأت كان يُجاوره حكي عن والد أصيل، وكأن الحكي عن نشأت لا يستقيم دون الحكي عن خيري، أو العكس. فهل سعى المخرج لعمل فيلمه بحثاً عن حقيقة استشهاد عمه أم سعياً وتنقيباً وراء شخصية والده ومعرفتها وقراءتها من خلال شخصية نشأت؟ أليس من المحتمل أن تلك الإشكالية في العلاقة المتصدعة بين أصيل ووالده في مرحلتي الطفولة والمراهقة وغياب الأب كانت سبباً جوهرياً في محاولة الابن استعادة أبيه بهذا الفيلم، وتعويضه أيضاً عما عاناه وكابده؟ ألم يعترف أصيل – قرب نهاية شريطه - بوجود شرخ قديم في فترة ما في العلاقة بينه وبين أبيه، وأنه ترك أثراً نفسياً سيئاً لديه خصوصاً عندما كان ينعقد مجلس أولياء الأمور بالمدرسة وكانت والدة أصيل تضطر لمرافقته بينما يحضر آباء الآخرين، مما أكد الغياب الدائم للأب. ثم يكشف لنا أمام والده متى بدأ ذلك الشرخ في الإلتئام، تحديداً عندما أُصيب أصيل في حادث ودخل عليه الأب وفي يده نوع من الحلويات كان الابن يحبها في طفولته. وعندما سأله ما هذا؟ أجابه الأب: "أتذكر أنك كنت تحبها." تلك اللفتة الإنسانية نبهت الابن إلى شيء كان غائباً عنه، وجعلته يعمل على استعادة والده الذي يعقب على كلامه قائلاً: لما نجوت من الحادث شعرت أنك ولدت من جديد، وكان لابد لك من أب جديد، وكنت أنا هذا الأب الجديد."
تـابو/ وإنكسار
  لسنين طويلة تكاد تتجاوز الثلاثين كان موضوع نشأت "تابو" من المحرمات الممنوع فتحها في الأسرة. هكذا تعترف الأم. لكن لماذا؟ هل بسبب الأب خيري منصور الشاعر المرهف الإحساس الذي كاد أن يفقد توزانه بسبب استشهاد أخيه الأصغر الذي كان يحبه جداً وكتب من أجله عدة قصائد منها واحدة يستهل بها أصيل فيلمه مصحوبة بصورة فيديو للعم وهو ينصت إليها بينما تقول كلماتها:
  أخي نشأت حذار حذار أن ترحل/ توسد صخرة فالصخر في وطني حنون دون مخمل/ وكن في الأرض سنبلة وعانق قبضة المنجل ولا ترحل/ رحلت وكان موتي بينهم أجمل.
  ومع ذلك رحل نشأت، فماذا كان مصير الأخ المكلوم؟ تعترف أمل – الزوجة- أن علاقة خيري بأبنائه تغيرت تماماً بعد استشهاد نشأت، بل إنها تُجزم أن هذه التجربة كسرته وحولته إلى إنسان آخر غائب ومنغلق على ذاته. خيري بدوره يُؤكد أنه رفض فكرة الموت منذ بدايتها، وظل ينفيها لنفسه. ربما لذلك رفض وضع صور أخيه على الجدران. إنه يتذكر عندما وصلته برقية بالخبر وكان جالساً مع الشاعر المصري محمد عفيفي مطر فطلب منه أن يخرج ويتركه مع نفسه. ساعة ونصف الساعة لا يذكر كيف قضاها ولا ماذا فعل أثناءها؟ وفي الطريق إلى البيت - وكان وقتها يعمل في بغداد – توقف التاكسي في إحدى الإشارات المرورية فشاهد جنازة فيها تابوت وبجوار الجنازة عرس فهذا المشهد عمل لوالد أصيل شيء من التوازن. ومع ذلك بقي ثلاثة أيام يحيا على المهديء العصبي "فاليوم" ثم اكتشف أنه بعد تلك الأيام الثلاثة أنجز ديواناً كاملاً وهو في حالة غياب.
  مع توالي اللقطات والمشاهد المتنوعة واللقاءات بدءاً من الأم، مروراً بأصدقاء العم، ورفاقه، وشخصيات مسئولة نتعرف على روايات مختلفة بعضها غير مؤكد. كل يحكي من زاويته الخاصة قصة لاستشهاد نشأت منصور واسمه الحركي بشار، من دير الغصون طولكرم. تتكرر حكاية استشهاده على أرض لبنان متصدياً للقوات الصهيوينة الغازية إثر معركة بطولية خلف خطوط العدو. شهود العيان الذين رأوا الجثة قالوا بوجود رصاصة في الرأس، دون أن يتمكن أغلبهن من تحديد أين استشهد؟ بالبقاع أم بالجبل؟ في غارة أم قتال؟
إغتيال؟
  يتوقف أصيل أمام أربع روايات؛ الأولى مصدرها الأم تقول أنه كان في حرب مع اليهود وأصابته رصاصة بعد أن قتل تسع يهود. والثانية ترجح استشهاده أثناء تفقد سلاح، حيث انطلقت قذيفة وأصابته. والرواية الثالثة تُرجعه إلى حادث غامض، ثم تأتي الرواية الأخيرة لتسرد وقائع إغتيال. إغتيال؟ هكذا يتساءل أصيل.
  كان نشأت يعمل في الأردن. كان شجاعاً، كريماً، مكرس حياته للتنظيم الفدائي، وكان لديه القدرة على إقامة تنظيم من الألف إلى الياء، وكان بيته من البيوت التي تستقبل الدوريات الفلسطينية فتم اعتقاله حتى عام 1982 عندما قامت الحرب في لبنان إذ قام مع زملائه في السجن بالإضراب حتى وافق الأردنيون عن الإفراج عنهم فقرروا عمل دوريات مقاتلة والذهاب إلى لبنان، وكان الحزب القومي السوري يساعدهم بأن يمنحهم هويات على أنهم لبنانين ويُعطيهم دورات في اللهجة. وهو بصحبة صديقه عمرو أبو يوسف في الطريق إلى لبنان هجمت عليهما سيارة بي إم قادمة بسرعة جنونية وضربتهما ليستشهد نشأت ويُجرح صديقه. المفاجأة في الرواية تنبع من الخاتمة، ليس عندما يكتشف ابن الأخ أن عمه كان على قوائم الإغتيال منذ عام 77 عندما أرسلت إسرائيل 20 شخصاً جاسوساً مهمتهم الإغتيالات، وكانت صورة نشأت بين الضحايا. ولكن عندما يكتشف أن إغتيال نشأت تم بأيادي فلسطينية، إذ حدث ذلك على يد أحد رجال فتح بتدبير إسرائيلي. وهنا لكي يُصبر خيري نفسه ويُعزيها يقول: شهيد مزدوج... فيه كتير شهداء قتلوا بواسطة الفلسطينيين." وهنا يجيبه الابن: "السخرية أنه استشهد من أجل أرضه التي سرقها إخوته." الأب: شهيد ثلاثي
  أحد أقارب أصيل حذره من إخبار والده بتلك الحقيقة التي توصل إليها بشأن إغتيال عمه؟ لكن أصيل يكاشف أباه بإصرار قبل نهاية الفيلم. تُرى لماذا أصر على ذلك؟ إن الابن هنا وكأنه يرغب لأبيه أن يتطهر من تلك المأساة، كأنه يرغب في أن يستعيده كاملاً. وهو ما يُؤكد أن الفيلم ظاهرياً وفي المستوى الأول من القراءة يبدو محاولة لمعرفة شخصية العم، لكنه في جوهره، وفي المستوى الأعمق منه يسعى إلى استعادة الأب المفقود، وإلى تحقيق السلام النفسي له. رغم ما سبق فإن الشريط السينمائي بقدر ما يحكي عن الإنساني والعائلي والاجتماعي، بقدر ما يُحيل إلى السياسة والنضال العسكري والثقافي، مما يُكسب العمل مستويات متعددة من القراءة يبدو في أحد مستوياتها المتوارية وكأنه مفتاح يمنحنا القدرة على قراءة الواقع والتاريخ الفلسطيني.
ثنائية جدلية
  تشتبك بالفيلم ثنائية جدلية جزء منها يطرح نموذج للعلاقة الوثيقة بين نشأت وخيري، في مقابل عبثية العلاقات الإنسانية والآلام الداخلية النابعة من تحول منظومة القيم باتجاه النفعية المطلقة مثلما تكشف الإضطرابات والتناحرات بين إخوة نشأت على الأرض حتى أنهم استولوا على نصيب الشقيقين نشأت وخيري. طرح آخر للثنائية الجدلية يتشكل من المعالجة إذ ينطلق من الحلم إلى أرض الواقع، ومن المقابر إلى عالم الأحياء، ثم ينتهي بين القبور وقد عثر الشاب على شاهد عمه بمساعدة أبيه، وذلك قبل أن يختتم فيلمه بلقطة أرشيفية للعم نشأت وهو يرقص ببراءة العصفور المبتهج.
يبدأ الفيلم بالحكي عن الحلم والذي يُختتم بأن نشأت كان سعيداً جداً. وفي آخر لقطة في الفيلم نرى تجسيداً لتلك السعادة على وجه نشأت. وما بين البداية والنهاية يأخذنا المخرج في رحلة من البحث المضني والممتع لتوضيح وكشف غموض وأسرار ومفارقات استشهاد عمو نشأت، إنه ينطلق من الحكي عن الشهيد لينتهي بالحكي عن الأحياء، فيمنحه حضوراً دائرياً يتجاوز الموت ويجدد ذكراه، وكأنه يتحدث عن الحياة الكامنة في الموت. وهو ما يُؤكده خيري في نهاية الفيلم قائلاً: "نشأت الوحيد الذي لم يمت."
  الأمر اللافت في هذا الشريط الوثائقي الطويل أنه رغم اعتماده على الحوارات الطويلة لكنه أُنقذ من فخ الريبورتاج التليفزيوني، وجاء عملاً سينمائياً خالصاً وممتعاً وذلك لعدة أسباب أولها؛ أن شريط أصيل منصور يتميز بأن الإيماءات والإشارات الجسدية متضمنة ملامح الوجه ونظرات العيون الزائغة والمترددة، وحركات الأصابع، ونبرات الصوت المشحونة بالألم والمختنقة بالدموع، ولحظات الصمت الطويلة القلقة والمتوترة تكتسب حضوراً فنياً جديداً لافتاً، وتجعل من تجاورها في سرد الوقائع تنبض بدلالات عميقة تشي بوجود حقيقة ما مدفونة، وكأنها تُولد مستويات متجددة للوشاية بما هو مخبأ.
  وثانياً ذلك الإنتقال السلس بين اللقطات والمشاهد والذي ارتكز بشكل أساسي على عمليتين، على الإظلام في بعض اللقطات، وعلى القطع المباشر الواضح والصريح في معظم اللقطات ورغم ذلك جاء القطع سلساً منساباً كالنهر دون أن يُحدث أي إزعاج للعين.
  والأمر الثالث قدرة المخرج الإبداعية وحسه المرهف في عدم الإسراف في الموسيقى- من تأليف أيمن زرقان - رغم أنه استعان بها في أماكن غير قليلة لكنه وظفها على نحو لائق فصارت كأنها جزء عضوي من الموضوع، مستعيناً بآلة البيانو، أساساً، مع اللقطات الأرشيفية ومع حجرة المكتب الخاصة بوالده، بينما وظف العود على لقطات المقابر وللمدينة من علِ، وفي تلك اللقطة في الطائرة مما منح الإحساس بالحنين وبالشجن. بينما على الطريق إلى فلسطين استخدم آلتي وتريات ونفخ، الفيولينة والأوبوا. في حين اختفت الموسيقى تماماً من جميع الحوارات واكتفى المخرج بأصوات الطبيعة في الخلفية إن وُجدت، وحتى عندما قدم والده للمرة الأولى في الفيلم اكتفى بصوت بندول الساعة في إشارة رمزية لحالة الأب.
  بقي أن نشير أن الشريط الوثائقي الطويل عمو نشأت للمخرج أصيل منصور أحد المشروعات السينمائية التي حظيت بدعم ومساندة إنجاز سوق دبي السينمائي، وهو أحد أهم الخطوات التي قام بها مهرجان دبي السينمائي وعملت على تعزيز الصناعة السينمائية في العالم العربي بإضافة مبادرات تمويلية، أبرزها إنجاز. كذلك شارك في إنتاج الفيلم مؤسسة دبي للترفيه والإعلام. هذا إلى جانب جهات آخرى مثل شاشات، بالتعاون مع مؤسسة الشاشة ببيروت، وبدعم من الصندوق العربي للثقافة والفنون.

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,871,528