ما يحدث في المسرح المصري الآن يستحق التأمل .. يدعو إلى السعادة أو الخوف، وأضع تحت الخوف خطوطاَ عديدة، فعشرات العروض المسرحية يتم إنتاجها وعرضها من خلال المهرجانات سواء في مسارح الدولة أو المسارح الخاصة التي تنتج الدولة عروضها أيضاَ.

هذا الحراك المسرحي يستحق التأمل، ليس فقط لأن المسارح أضيئت، وأتيحت الفرصة لعدد كبير من الشباب لتقديم مواهبه في شتي عناصر العمل المسرحي، لكن ظاهرياَ أصبحت هناك حركة مسرحية جديدة تلوح في الأفق وهذا هو الأهم، لكن هل هذه الحركة حقيقية أم مجرد خداع بصري وضوضاء سوف تزول سريعاَ ؟! وبالطبع أتمني أن تكون حركة حقيقية، تنتج علي المدي البعيد اتجاهاَ مسرحياَ لهذا الجيل الجديد.

ففكرة اكتشاف مواهب جديدة وتقديمها للجمهور وإتاحة الفرصة لها في شتي مفردات العرض المسرحي فكرة طيبة وجديرة بالاحترام..

لكن علينا أن نتساءل: كيف يتم تقديم هؤلاء، وما هو السياق الذي يعملون خلاله، بل وما هو السياق الذي تعمل من خلاله الإدارة المسرحية لتقديم هؤلاء؟!

ربما يري البعض أن جيل الشباب يعاني من البطالة الفنية وأنه في حاجه ملحة إلى تفريغ طاقته الفنية، وبعضهم عاني من سيطرة الكبار، وإن كنت أري أن هذا غير صحيح، وسأتغاضي عن هذه النقطة، رغم أنني أنحاز إلى هذا الجيل وأتمني أن يحقق تواجده فنياَ، وأكرر السؤال مرة أخري: كيف؟

هل من خلال مهرجان مسرحي .. فهل يحتاج هؤلاء إلى مهرجان تحت عنوان لقاء الشباب الذي أقامه د. أشرف زكي في الفترة من 1 حتي 11 يونيو وقدم خلاله عشرة عروض مسرحية للشباب؟

لنقرأ الأمر جيداَ ونتأمله من كل جوانبه، وفي البداية لا ننكر ونتجاهل أن هناك نية حسنة، فمن المفترض أن يقدم المهرجان ليس فقط عشرة عروض جديدة لكنه سوف يكتشف عشرات المسرحيين الشباب في كل مفردات العرض المسرحي، وهذه خطوة جيدة، بالإضافة إلى أن المهرجان قام بإنتاج هذه العروض تحن عنوان "نحو مسرح فقير"، والمقصود هنا الإمكانيات المادية. وكانت إدارة المهرجان قد تسلمت 68 مشروعاَ مسرحياَ قبلت منها عشرة وتم إنتاجها وشاركت في المهرجان .

وبالطبع تم هذا في فترة قصيرة جداَ .. ويبدو هذا واضحاَ من خلال العروض، وهذا أمر سوف أناقشه لاحقاَ وهنا أتساءل لماذا لم يتم إنتاج هذه العروض بشكل طبيعي بعيداَ عن صيغة المهرجان والطابع الاحتفالي وبدلاَ من أن تعرض المسرحية لمدة يومين، تعرض لمدة أسبوعين؟!.. ناهيك عن الدقة في الاختيار، والوقت الذي سوف يكون في صالح فريق العمل لتقديم منتج جيد، وأيضاَ يكون لدي البيت الفني للمسرح الوقت الكافي لاختيار العروض.. وما دفعني للتساؤل وطرح هذا الاقتراح هو المستوي المتواضع للعروض، فهل كان لابد من تقديم هؤلاء الشباب من خلال مهرجان؟! وبالطبع سوف يرد أصحاب الفكرة بأن المهرجان فرصة لوضع هؤلاء تحت مجهر الآلة الإعلامية! وأري أن هذا غير مفيد بالمرة لهؤلاء الشباب، وربما يفيد أصحاب الفكرة.

وبعد أن شاهدت ستة عروض في المهرجان أستطيع عن قناعة أن أقول ما يلي:

أولاَ: إن ما كان يحتاجه هؤلاء الشباب هو ورش عمل في الإخراج والتمثيل ومفردات العملية المسرحية بكاملها، فضعف مستوي العروض يطرح هذا المطلب، فماذا لو تم جمع الفرق العشر في ورش عمل لمدة شهر مع أصحاب الخبرة من المسرحيين، ثم قدم هؤلاء أعمالهم دون احتفال أو ضوضاء إعلامية، وجودة المنتج وحدها ستكون قادرة علي تسليط الضوء عليه؟! .. لكن ثمة سعياَ إلى مكاسب مؤقتة فالعرض الذي يتم تقديمه في مهرجان تعقبه ندوة نقدية، ونشرة خاصة بالمهرجان تمدح العروض وتعلي من شأن الفكرة، ولجنة تحكيم بعضها لا يشاهد المسرح والبعض الآخر توقف عن المشاهدة منذ سنوات، وسوف تمنح هذه اللجنة الجوائز في نهاية المهرجان، ثم يقام مهرجان آخر حتي تستمر الماكينة الإعلامية في بث الضوضاء.

ثانياَ: إذا حاولنا أن نجد سياقاَ لهذه العروض أو نضع لها ملامح من خلال ما تطرحه، فهي عروض تخلو من الدراما، وتفتقد الرؤية .. فقط ثرثرة كلامية ومجموعة صور هلامية أقرب إلى مسلسلات "السيت كوم" لا تضر ولا تنفع، تملأ أوقات الفراغ وأحياناَ تشبه برامج "التوك شو" أو الصحف، فليس هناك مسرح أو دراما، هناك من يثرثر وينتج مجموعة من الصور .. فهل هذا هو المطلوب؟

فإذا تأملنا مجموعة من العروض علي سبيل المثال سنعرف حجم الكارثة .. ولنبدأ بعرض اسمه "هذه ليلتي" تأليف وإخراج مصطفي مراد الذي تخيل مجموعة من الشخصيات في جراج راحت تثرثر علي مدي ساعة حول الفقر والقهر والغني والفقير، تتحرك هنا وهناك دون مبرر ولا نسمع سوي الثرثرة التي تبثها الصحف ليل نهار.. فمن منا لا يعرف أن هناك فقراء بؤساء وأغنياء أشراراَ، أو أن هناك قاهراَ ومقهوراَ أو ظالماَ ومظلوماَ ؟.. فقط أفكار ساذجة تفتقد الرؤية وتخلو تماماَ من الدراما، وكان من الممكن ألا ينتهي العرض، فهو ليست له بداية أو نهاية.

عرض آخر هو "الحيلة" لمؤلف أوغندي متواضع فنياَ، إخراج أحمد عبد المنعم، ولا أعرف لماذا أختار المخرج هذا النص أو ربما تم تكليفه بإخراجه، يحكي العرض عن رجل احتال علي زوجته بأنه مات، فالزوج عجوز ثري والزوجة فتاة صغيرة، حتي يثبت أنها طامعة في ثروته.. وفجأة يستيقظ الميت ويطردها من البيت، وبعيداَ عن اختيار النص غير المبرر، قدم المخرج منظراَ مسرحياَ غريباَ عبارة عن بيت واقعي علي خشبة المسرح يبدو أفريقياَ وملابس الشخصيات مصرية، والحوار يحاول أن يكون كوميدياَ!!.. خليط غريب يدل علي تواضع إمكانيات المخرج، ألم يكن أحمد عبد المنعم يحتاج إلى المشاركة في ورشة عن الإخراج ليستفيد ويتعلم؟

أما عرض "العروسة" إخراج محمد عبد الفتاح وتأليف جماعي فيقدم أربع فتيات علي خشبة المسرح بملابس الزفاف البيضاء يحكين عن أسباب العنوسة، ويسردن ذكرياتهن العاطفية والجنسية مع مراعاة أسباب قهر المرأة وتخلف المجتمع!

وعلي الرغم من أنه مضحك ويحوي عناصر للتسلية أحياناَ، إلا أنه مجموعة اسكتشات تنتمي إلى برنامج ساعة لقلبك وتبتعد عن المسرح فهو أيضاَ مجرد ثرثرة ولكن في هذا العرض الثرثرة مسلية، لا تبعث علي الملل .. ولكن هل هذا هو المسرح؟

أليس ما يحدث يدعو إلى الخوف حين يعتقد هذا الجيل بأن ما يقدمه من ثرثرة برامج "التوك شو" منذ زمن بعيد، ويعتبره مسرحاَ.

لا أنكر أننا في هذا العرض أو ذلك سوف نكتشف ممثلاَ جيداَ أو ممثلة أو بعض المواهب في شتي مفردات العرض المسرحي .. لكن هل هذا يحتاج إلى كل هذا الصخب؟

وإذا تأملنا عرضاَ آخر هو "الكهف" تأليف وليم ساوريان وإخراج السعيد منسي فإن العرض كما يقدمه المخرج، هو محاولة للبحث عن الذات الغائبة وتحقيق الأحلام من خلال ممثل وممثلة وملاكم وفتاة يلتقون في مسرح مهجور يتخذونه عالماَ لتحقيق ذواتهم وأحلامهم المجهضة.

وبالطبع هذا الكلام مجاني لا يطرح أسئلة ويمكن أن يصلح لتقديم عشرات العروض، فلا خصوصية أو رؤية!..

وعلي الرغم من أن المخرج حاول تقديم صورة شاعرية علي خشبة المسرح إلا أنها كانت مجانية من خلال حوار ممل يشعر مشاهده بأنه يستمع إلى مسرحية في البرنامج الثقافي من خلال مشهد مسرحي شبه ثابت، وخرجت أسأل نفسي: ماذا يريد المخرج، وهل هو يعرف لماذا قدم هذا النص؟.

أما سعيد قابيل فقد قدم عرضاَ مأخوذاَ عن مسرحية "بيترهاندكه" كاسبار تحت عنوان العودة، ليأخذ من النص شخصية كاسبار ويضعها في سياق آخر، وجاء هذا العرض نموذجاَ فريداَ للثرثرة، فالنص الذي يطرح فلسفة الكلام وعلاقة الكلمات بالأشياء ويطلق عليه مؤلفه "قطعة تعذيب كلامية" وكاسبار تحوي شخصيته كل مأساة الإنسانية، حوله سعيد قابيل إلى أحد الظرفاء، علي الرغم من أن المؤلف حذر من هذا، وتحول العرض إلى حفلة للكلام كيفما أتفق، حيث تحولت صالة العرض إلى صالة سينما، والممثلون يحملون الكشافات ويتجولون في الصالة، بينما نستمع إلى عشرات الأغنيات من تراث الغناء المصري ونشاهد ونستمع إلى لقطات من أفلام سينمائية .. ويقدم لنا المخرج ما يشبه كاسبار بعد تهذيبه وقص أظافره وتجريده من كل الأفكار الفلسفية العميقة التي كتبها المؤلف لنشاهد شخصية باهتة بلا معني.

وأخيراَ عرض "الوضع صامتاَ" تأليف وإخراج محمد فؤاد، وهو ينتمي للمسرح الراقص، وربما يكون من أفضل العروض التي شاهدتها في المهرجان، والعرض أداء محمد فؤاد، ميريت ميشيل، ورأفت بيومي، وفكرة العرض إذا كانت مستهلكة علي مستوي الفكرة خاصة في عروض المسرح الراقص حيث علاقة الرجل والمرأة والمجتمع والقهر الذي ينتج العنف، إلا أن محمد فؤاد حاول أن يقدم معالجة جديدة، جوهرها العنف في الأداء علي خشبة المسرح، من خلال الثرثرة والألم، حيث يبدأ العرض من خارج صالة المسرح حيث ترتدي البطلة "ميريت" رداءَ أحمر في أسود وتتأمل الحضور، ثم يأتي البطل محمد فؤاد في رداء أحمر هو رداء المحكوم عليهم بالإعدام، ويرقصان علي أنغام أغنية لأديث بياف، ثم تأتي الشخصية التي هي رمز الشر أو القهر "رأفت بيومي " ويأمرهما بفتح أبواب المسرح وبدء إقناع الجماهير.. وندخل إلى خشبة المسرح، التي وضع المخرج في خلفيتها لوحة معدنية كبيرة، لم يستغلها بالشكل المطلوب، وسلماَ معدنياَ وفي المقدمة رأس خروف تحيطة الميكروفونات، وسوف يستخدم المخرج فيما بعد كمية كبيرة من التفاح والريش الأحمر، كل هذه المفردات علي خشبة المسرح أصبحت علامات أو قل كل مفردة حاملة علامة سوف يقرأها المشاهد وفقاَ لثقافته وخبرته، وفي إطار هذه العلاقات سوف يبدأ العنف بين الرجل والمرأة والثالث سوف يدير عملية القهر .. ثم ينتهي العرض والبطل والبطلة يضعان شريطاَ لاصقاَ علي الفم ويواجهان الميكروفون بينما مدير القهر يأكل اللحم والدم.

وتتخلل العرض حوارات عن الحب والجسد، وأيضاَ يعرض البطل جسده للبيع قطعة قطعة .. وبعد أن انتهي العرض تساءلت: هل احتاج تجسيد العنف إلى ساعة كاملة، فجاء التكرار عنواناَ للعرض؟! .. ناهيك عن ضعف السينوغرافيا ورغم هذا يمكن القول بأنه أفضل العروض.

ثالثاَ: إن كانت ثمة مزايا في هذا اللقاء إلا أن التصميم علي صيغة المهرجان، عصف بها، فلا ننكر أن اللقاء ميزانيته قليلة وربما لا توازي ميزانية عرض مسرحي كبير، لكن شعار نحو مسرح فقير في الإمكانيات المادية تحول إلى مسرح فقير جداَ فنياَ !!.. ربما لضيق الوقت، ربما لم تكن هناك لجنة مسرحية ذات خبرة لتختار هذه العروض، وليس فقط الاختيار ولكن متابعة العمل وتوجيه هؤلاء، ويقودنا هذا إلى فكرة الشباب فقط، وإزاحة الأجيال الأخري، وأري أنه فكر متطرف، فالمسألة ليست حرباَ بقدر ما هي تواصل أجيال.

وثمة شئ آخر وهو ميزة أيضاَ يتمثل في التنوع الجغرافي في اختيار العروض من الإسكندرية والمنصورة والمنوفية والقاهرة، ناهيك عن أن هؤلاء ينتمون إلى المسرح المستقل، والهيئة العامة لقصور الثقافة.

وللحديث بقية لنعرف ما إذا كان المهرجان هو الحل!!

 

 

بقلم / جرجس شكري.

المصدر / مجلة الإذاعة والتليفزيون العدد 3926

12 يونيو 2010.

 

 

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,892,960