لعل أكثر ما يتندر به فتيان ( أبو السعود ) و رجاله هو رؤيتهم لأفواج النسوة الوافدات إلى الحي في كل يوم ثلاثاء من كل أسبوع و قد امتلأت بهن عربات " الكارو " و كأنهن كتل من اللحم المتراص بينما ارتدين جميعهن تلك الجلابيب السوداء اللامعة فيما عدا قلة من الفلاحات في ثيابهن الزرقاء الزاهية و قلة أخرى نادرة من الفتيات " الموضة " ترتدي كل منهم لباس العصر المودرن ... و الجميع قادمات بغير إبطاء نحو جامع أبى السعود و كأنهن ذاهبات إلى لقاء حبيب غائب لم يكد غيابه يتجاوز الأسبوع حتى ياتين فى اشتياق جارف و لهفة غامرة ... و لعل في مثل هذا التندر وحده بعض من الإشارة الرمزية إلى طبيعة الأسباب و الدوافع وراء هذا الزحف النسوى بالذات كل أسبوع نحو مقام أبى السعود .... و هل يحمل تندر الرجال و استخفافهم ذاك إلا نوعا من التقليل من شان المرأة المصرية و ما تعتقد فيه و من ثم ما تمارسه من سلوك اجتماعي معلن ؟ بل و قد يذهب المرء الى تحميل هؤلاء الرجال فى موقفهم هذا موقف المشاهدة و التندر بعضا من رواسب الكبت الاجتماعي و التحريم الديني خاصة في مثل هذه الظروف الحالية التي لا تسمح بالزواج المبكر أو الزواج إطلاقا .
و قد تم بالفعل ضبط عدة حالات في أكثر من مرة لغواية النساء داخل و خارج المقام بل إن ما يحدث في منازل الزار " المجاورة كل يوم ثلاثاء اشد خطورة تختفي وراء زحام الأجساد المتمايلة و الإيقاعات الصاخبة للزار ...!
** و الحديث عن المرأة المصرية حديث ذو شجون فهذه السيدة التي كانت تمتلك قدرا كبيرا من الاحترام في المجتمع المصري القديم حتى أنها كانت بين الإلهة و بين الكاهنات المرتلات في المعابد المصرية و كانت أيضا بين الملوك مثل ( حتشبسوت و نفرتارى و غيرهن ) فقد كانت هي الزوجة الشرعية و هي الزوجة المحبوبة و أطلق عليها " بنت ... بر " اى ( سيدة المنزل ) و كانت تختلط بالرجال دون حجاب و تساعد زوجها في تدبير شئون الحياة و كان لها حظا موفورا من الثقافة ، فلقد حوكم احد الأزواج لأنه سب زوجته فاصدر القاضي حكما بجلد الزوج مائة جلدة عقابا له على ذلك ..... هذه السيدة قد أل حالها في العصور التالية إلى ما نلمسه إلى كثير من الهوان و خاصة في الطبقات الفقيرة على الرغم من انتشار التعليم و الثقافة التليفزيونية المعاصرة في كل مكان بل ان تعاليم الدين الاسلامى نفسه تدعو إلى احترام المرأة و الحفاظ على حقوقها و مكانتها ، و لكن ذلك لم يمنع " الحريم " الكريهة و التي تحولت المرأة المصرية في ظلها إلى تابو مغلق يحرم عليه الاتصال بالآخرين و الحديث بصوت عالي وكشف الوجه و الجسد بل انه قد يصل الأمر إلى تحولها إلى تابو بالنسبة إلى نفسها و من ثم فقد ساءت مقاييس الجمال الانثوى و ساد بين نساء المجتمع المصري تلك العقدة النفسية الخاصة في معظمهم بأجسادهن و النظرة إليها و قد يقول قائل بان الحال قد تغيرت إلى حد كبير فى العصر الحالي و لكننا نؤكد على سيادة ظاهرة الحريم في الطبقات الشعبية الفقيرة و هي أغلبية فى مصر بل إن الرجل المصري مازال يحتفظ في أعماقه بذلك التمسك البدوي " النظرة التابويه " تجاه المرأة خاصة عندما تجمعه بها صلة قرابة
( زوجته – أخته- ابنته - ...... الخ و لم تفلح القيم الاجتماعية النظرية في محو أثار هذه النظرة .
أن زيادة إحساس المرأة المصرية بالخوف و الحرمان و القلق على المستقبل هو الأمر الذي يدفع بالطبقات الفقيرة منها إلى الالتجاء إلى وسائل التنفيس الحسي و النفسي الغير مباشر من ناحية و إلى طلب المعاونة من أسيادهم من الأولياء و المشايخ المشهورين بكراماتهم و بالطبع فليس هذا وحده سبب الالتجاء إلى زيارة مقام الشيخ أبو السعود الجارحى موضوع حديثنا و يلاحظ أن هناك أسباب أخرى ترتبط بهذا العامل ارتباط غير مباشر كتلك السيدة التي تخشى زواج زوجها بواحدة أخرى عليها الأمر الذي يعنى تطليقها و تلك التي لم تنجب و تخاف نفس السبب و الأخرى التي غاب عنها زوجها و راودتها الظنون في سر غيابه ....... و يلاحظ في كل الأحوال فقدان هؤلاء النسوة لثقتهن بأنفسهن و الأهم بأنوثتهن حيث ترتبط الأنوثة عندهن بالخصوبة المتكررة و ضرورة الزواج و فداحة الطلاق و أهمية الاستحواذ على الرجل باى وسيلة كحامي لها و معين و اكثر من هذا كساتر لها عن عيون المجتمع " ضل راجل و لا ضل حيطة " و هو ما سيؤدى فى النهاية إلى حدوث نوع من العلاقات المفككة المتهرئة .
** و السؤال الذي يطرح نفسه حاليا .... هو ما علاقة الشيخ " أبو السعود الجارحى " بهولاء النسوة و هو الزاهد الورع ؟
1- الطبيب الجراح :-
اتجهت العقائد المصرية القديمة إلى ربط كل جزء من أجزاء الجسم بالإله الذي يؤثر على هذا العضو ... لذا أصبح لكل عضو ألها يعتني به و يتولى إصابته أو سلامته فاالقلب و اللسان لهما الإله " بتاح " فهو قلب الالهه و لسانهم و العين بها " حور " صاحب العين المقدسة التي قدمها هدية لأبيه أوزوريس الذي كان المصريون يخرجون في احتفالاته يحملون نماذج كبيرة لعضو الذكورة " دلالة على قوته العظمى " و كان النساء يحملن مثل هذه الصور الذكورية و يحركنها تحريكا أليا بالخيوط و لا يخفى ما لعضو الذكورة من دلالة واضحة على الإخصاب و التناسل بل و الحياة نفسها أحيانا ....
و من أشهر القصص الشعبية التي يرويها محبي " سيدي أبو السعود " أو المتبركين به من الرجال و النساء تلك الحكاية التي تروى عن رجل و زوجته عاشا أجمل عيشة بينما كانت المرأة لا تنجب " عاقرا " حتى أتى يوم تزايدت فيه مخاوفها من إن يهجرها زوجها من اجل أخرى " ولود " و لم تنفع تأكيدات الزوج لها بالوفاء و الحب فما كان منه إلا إن قام
" باخصاء " نفسه حتى يؤكد لها حسن نيته و صادق محبته و لكن الزوجة تشفى أخيرا و تكاشف الزوج برغبتها في الإنجاب فهام الرجل على وجهه حتى التمس موضعا بجوار كوخ الشيخ الذي سأله عن قصته فقصها عليه .... فطلب منه النزول معه إلى سردابه و مكثا بداخله ثلاثة أيام و في رواية أخرى ثلاثة أسابيع قام فيها الشيخ بصناعة عضو ذكورة من الطين الذي يصنع منه القلل و مسح عليه فأصبح كسابق رجولته و عاد إلى زوجته بفضل بركة الشيخ و سره .... فهذا الشيخ المبارك قد انتقلت إليه عبر الوجدان الشعبي المتصل فكرة الخلق من الطين منذ عهود مصر القديمة و مرورا بمعجزات المسيح حتى انتهت إلى يديه بالشكل الذي رأيناه هنا ، على إن لهذه القصة دلالات متعددة نورد أهمها للتأكيد على بعض فرضيات البحث و لإفساح المجال لعرض الخلفية الاجتماعية و التاريخية للمعتقد الديني الشعبي المتضمن فيها :
· إن المحور الاساسى في هذه القصة هو " العقم " أو عدم القدرة على التناسل و هو مفهوم لم يستطع المجتمع المصري الزراعي و الأسرى على إن يقبله دون حلول جذرية ، فايزيس لم تحمل من زوجها في حياته لذا حرص الخيال المصري على إن يضيف جزء تمت فيه المعاشرة بين الزوجين عندما ردت ايزيس إلى زوجها جسده و صنعت له رقية مقدسة فنفخ فيه من مائه الدافق قطرات مباركة ، فحملت بابنها حورس .....
و من ثم فقد توارثت المرأة المصرية هذا الحرص الشديد على الإنجاب حتى اصيحت خصوبتها قيمه اجتماعية لها مكانتها ففي الوقت الذي يقبل فيه المجتمع عقم الزوج أحيانا فان المرأة العاقر لا مكانه اجتماعيه مرموقة لها في هذا المجتمع .أبضا فان للأطفال في هذا المجتمع قيمة كبرى نذكر منها على سبيل المثال بعض مما جاء في دراسة د/ سيد عويس و هي :-
1- إن إنجاب الأطفال يدل على رجولة الزوج و أنوثة الزوجة .
2- إن الأطفال و خاصة في الريف هم أدوات إنتاج و من فان كثرتهم مطلوبة .
3- إن كثرة الأطفال ضمان لاستقرار إلام في أسرتها التناسلية .
4- أنهم استثمارات المستقبل عندما يبلغ الأبوين الكبر .
5- خوف المصريين من شبح الموت الذي يختطف أبنائهم ...... الخ .
· المحور الثاني هو إن الأداة التي استخدمها الشيخ في إعادة صنع قضيب الرجل هي الطين و الجدير بالذكر إن الطين له قصة معروفه لدى المصريين و فى الأديان جميعها كمنشأ الخلق ، غير إن الخيال الشعبي تميز هنا بحبك خيوط القصة فالشيخ هنا كان له خبرة بصناعه الطين و القلل و كان يتسلى بها و يرتزق و هو ما يناقض الرواية الرسمية عنه و لكنه مقبول لتجاور مكانه مع حي القللية الشهير ...... أيضا فان الطين يوحى بمعنى البناء أو التقوية و ليونة الطين في تشكيله توحي بأنه جسم حي و في الوقت نفسه يوحى بفكرة انه جزء من اله الخصوبة " أوزوريس " الذي يعيش في رطوبة دائمة في جوف الأرض أو في قاع النهر و هكذا تكتسب طينه الفخار أهمية خارقه ...... و كانت هناك عقيدة بان الطين و في إثناء تشكيله على هيئة انيه يمكن أن تكتب عليه عبارات سحرية ضد بعض الأشخاص و متى جف هذا الإناء و احرق ثبت العمل السحري و استمر أثره و لعل هذا الاستخدام السحري مازالت هناك بعض من أثاره في المعتقد الشعبي عندما يقال لشخص غير مرغوب فيه
" اكسروا وراه قلة " و إلى اليوم مازال باعة القلل " المكسورة أو المشطوفة " يجتمعون إمام الباب الجانبي لمسجد أبو السعود كل يوم ثلاثاء من كل أسبوع .....
2- كاشف اللوح المرصود :-
يروى عن الشيخ أن احد أتباعه جاءه فقال له : يا سيدي لقد رأيت صبيه من البرابرة فراحت نفسي لها .... فقال له الشيخ " صم تنفك عنك الشهوة فم يصم و ذهب إلى الصبية فأدخلته خصها و لما اخذ رجليها على وسطه و هم بها ، تأمل وجهها فوجدها في صورة الشيخ فبهت و خجل خجلا شديدا و تركها فلما رجع يدق باب الشيخ ناداه و ذكر له القصة من قبل إن يدخل إليه كي ينكرها له .....
و لعلنا نرى في ذلك سببا وجيها يدعو النساء إلى التعلق يمثل هذا الشيخ الذي تظهره هذه القصة في صورة حامى الإعراض و العفة في مجتمع لا تكون فيه المرأة لها قيمة إلا أذا حافظت على هذه العفة و التي تظهر أو تتضح من خلال غشاء بكارتها فالمجتمع المصري يحتفل بليلة زفاف الفتاه خصيصا من اجب تدشين شرفها و عفتها و على الرغم من الدور السلبي للمرأة في هذه القصة و هي غلطه لا يقع فيها الخيال الشعبي الذكي لذا جعلها من البرابرة .
3- من ملك و زهد :-
و من بين الروايات الشهيرة عن الشيخ ، رواية زواجه من السيدة حبيبه ابنه السلطان سليم الأول الذي سقطت على يديه أخر حكومات المماليك العظام و هي قصة يبدو كثيرا أنها ملفقة حيث انه يروى عنه في كتاب الطبقات قصه أخرى يتناقض مضمونها تماما مع الأولى ، فهو في القصة الأولى ...... قد نادي على السلطان سليم الأول إثناء معركته مع " قنصوه الغوري " في مرج دابق و ازرة و طالبه بقتل الغوري و إغاثة امة السلام في مصر و بالفعل قتل الغوري و دخل سليم الأول القاهرة منتصرا و سئل عن الشيخ فلم حضر أهداه ابنته زوجة له على الرغم من فقرة الشديد و قنعت هي بالعيش حتى كان يوم زواج أختها فأرسلها و معها جمال محملة بأكوام الفخار المكسورة " الشقافه " التي ما لبثت إن تحولت إلى جواهر و أحجار كريمة إما هي فقد ارتدت خرقته المرقعة فلما ذهبت إلى القصر تحولت الخرقة في عيون الناظرين إلى عباءة تشع نورا كالماس في موضع الرقع ....! و يقال إن " رايعه العدوية " قبل تصوفها و بعد زواجه كانت تمر عليها كاشفه وجهها متعللة لا خوف منه ، فهو من ملك و زهد......
** و بعد ..... فمن الملاحظ لدينا إن غالبية القصص الشعبية المروية عن الشيخ " أبو السعود الجارحى " لابد و ان يكون للنساء دور فيها حتى يقوم هو بإنصافها او مساعدتها أو إكرامها كما رأينا من خلال الأمثلة السابقة .
المراجع :
1- وليم نظير ..... المراه فى تاريخ مصر القديمة .
2- د/ سيد عويس ..... حديث عن المراه المصرية المعاصرة .
3- سعد الخادم ..... الفن الشعبى و النعتقدات السحرية .
4-ول ديورانت ..... قصة الحضارة – جـــ2 المجلد الاول
دراسة ميدانية حول " الاعتقاد المصرى الشعبى فى الاولياء " اجراها الباحث / صالح سعداعدها للنشر / وسام سعد
ساحة النقاش