لا تكتسب الآت الموسيقى الشعبية المصرية أهميتها من الموسيقى التى تصدر عنها وحسب ، ولكن تتعاظم هذه الأهمية حين  تمثل هذه الآلات جانبا مهما من جوانب الحرف التقليدية المصرية أيضا ، وإذا كانت صناعة الآلات  الموسيقية الشعبية المصرية لم تشكل مجالا خصبا أو سوقا رائجا  حتى الآن ، بل ظل العازف غالبا هو الصانع ، وهو - ربما - ما حال دون تطور هذه الآلات بشكل مضطرد ، وحال دون وجود سوق تنافسى يتيح لها نصيبا من  التحسين والتطوير .

   وهكذا ، وعلى حين نجد تراجعا أو انتكاسا فى صناعة ألآت الموسيقى الشعبية المصرية ، نلاحظ أن كثيرا من الأمم والثقافات أولت ألآتها الموسيقية الشعبية اهتماما كبيرا ، سواء فى جانب الصناعة أو فى جانب الرواج الفنى والحضور ضمن الفاعاليات الفنية لهذه الدول ، وهو ما نلمسه فى ألآت الموسيقى الشعبية التركية والصينية ، وثقافات  أخرى كثيرة .

  وتستلزم صناعة هذه الآلات وجود عناصر عديدة أهمها الحرفيون والصناع المهرة الذين يتمتعون بخبرات مهنية ، ودراية بالقياسات الدقيقة اللازمة لإنتاج الآلة الموسيقية ، وتمتد تلك العناصر لتشمل المواد التى تصنع منها تلك الآلات ، سواء كانت مواد بيئية أو مستوردة ، طبيعية أو صناعية ، وتتنوع الخامات بين الفخار والخشب والجلود والمعادن بأنواعها ، والبوص أو الغاب ، حيث يفرض تعدد  فصائل هذه الآلات تنوعا فى الخامات المكونة لها ، إضافة لآلية التصنيع وما تتضمنه من إعداد وتجهيز لهذه الخامات ، ومراحل الصناعة ، وما تحتاجه من أدوات وعدد تتنوع بين ما هو يدوى وما هو تكنولوجى ، كذلك ما يحرص عليه صناع وعازفى هذه الآلات من إضافات زخرفية تعطى أبعادا جمالية تشكيلية لهذه الآلات ، بل وتؤشر لأبعاد إعتقادية شعبية على قدر كبير من الأهمية .

  وعلى حين نلحظ ثراء فى الآلات الإيقاعية وآلات النفخ ، نجد تقلصا فى الآلات الوترية ، حيث نلاحظ حضور ألآت السمسمسية والطنبورة والربابة ، فى حين انحسرت  الربابة القدح  ،  بل واندثرت آلة الجمبره التى كانت موجودة فى واحة سيوة.

آلات الموسيقى الشعبية وتأكيد الهوية الثقافية :

  إن حضور وانتشار هذه الآلات يؤكد على الهوية الثقافية لهذه الأمة ويتجلى ذلك فى تميز الطابع الصوتى الناتج من هذه الآلات مقارنة بآلات تمثل ثقافات أخرى ، كما أن استخدام المواد والخامات البيئية فى إنتاج هذه الآلات يكرس لأصالة هذا المنتج وارتباطه بالبيئة الثقافية الناتج عنها ، كما يؤكد على العمق التاريخى لهذه الآلات وهو ما تكشف عنها الشواهد التاريخية والأثرية ، إضافة إلى تفاعل وحضور هذه الآلات فى جل الممارسات الشعبية التقليدية المصرية بما يؤكد أهميتها وضرورة الحفاظ عليها واستمرارها.

 وإذا كنا نعيش مرحلة هامة من مراحل التطور البشرى تلعب التكنولوجيا فيها دورا بارزا فى تقدم ورقى المجتمعات الإنسانية ، فما زالت لدينا إشكالية كبيرة فى صناعة الآلات الموسيقية الشعبية حيث أنها لازالت حالات فردية و لم تصبح ذات طابع مؤسساتى له معايير وقوانين ثابتة تعين على رقى صناعة هذه الآلات ، وهو ما حال دون حضور هذه الآلات ضمن الفرق الموسيقية ، وأتاح المجال لآلات أخرى تقليدية - بل وغربية - أن تزيح الآلة الشعبية وتحتل مكانها ، فرغم حضور آلات الموسيقى الشعبية المصرية ضمن التكوينات الآلية التى تصاحب كافة المناشط الموسيقية الشعبية -بل وغير الشعبية أحيانا -إلا أنه من الأهمية بمكان ملاحظة دخول كثير من الآلات التقليدية غير الشعبية مثل العود والقانون إلى الفرق المصاحبة لأنشطة موسيقية شعبية ، بل ودخول آلات موسيقية غربية مثل الفيولين (الكمان)والأكورديون، بل وآلة الأورج الكهربائى ضمن الفرق المصاحبة للأداء الشعبى ، بل وللإنشاد الدينى الصوفى .

معايير ومحاذير :

ومما لاشك فيه أن عدم وجود أنظمة تحدو صناعة الآلة الموسيقية لدينا ألقى بظلال سلبية على تطور الموسيقى المصرية ذاتها ، فقد كان لتطور صناعة الآلات الموسيقية فى أوروبا نتيجة للثورة الصناعية الأثر الكبير فى تطور حركتها الموسيقية .وإذا كنا نطمح إلى رقى آلاتنا الموسيقية الشعبية وتطويرها فإن هذا التطوير يجب أن يعتمد على معرفة كيف تطور الفكر الانسانى بالآلة الموسيقية و ألوانها النغمية ( الصوتية ) ، بحيث يستطيع الملحن أو المؤلف الموسيقى أن يعبر عن ما يريد من خلال إبداعاته الموسيقية ، ولن يتأتى هذا التطوير إلا من خلال حوارات و نقاشات و تجارب بين المؤلف الموسيقى أو الملحن  وبين الصانع و العازف ، وهو ما يستلزم بالضرورة وجود أساليب للكتابة الموسيقية والعزف على هذه الآلات ، تراعى خصوصية الموسيقى الشعبية المصرية ، وتعمل على إبراز هويتها الثقافية الموسيقية ، وهو ما يدعونا إلى الدعوة إلى وجود مؤسسة بحثية ترعى صناعة ألآت الموسيقى الشعبية وفق رؤية علمية تعتمد قواعد علم الصوت ، بما يضمن جودة الصوت الموسيقى الناتج من هذه الآلات مع الحفاظ على الطابع الصوتى الثقافى لهذه الآلات بصفتها معبرة عن هوية ثقافية لها جذورها التاريخية.

مشكلة ألآت الموسيقى الشعبية  :

 إن من الأهمية بمكان الالتفات إلى التغيرات التى طرأت على شكل الآلات الموسيقية الشعبية المصرية ، وما ينتج عنه من تغير فى الموسيقى الناتجة عنها ، وكذلك فى تقاليد الأداء المرتبط بهذه الموسيقى ، ومما لا شك فيه أن ثمة مشكلات تنتاب ألآت الموسيقى الشعبية تجعلها مهددة  بالانزواء  والضياع ، بل إن منها ألآت باتت فى ذمة التاريخ أو تكاد (المقرونة – الأرغول –الجمبره)، ولعله من الضرورى محاولة معرفة الأسباب التى دفعت إلى استحداث هذه التغيرات ، وهل هى دوافع فنية أم اقتصادية أو اجتماعية ، ويمكن أن نحدد هذه المشكلات فى اتجاهين على النحو التالى :

أولا - من حيث الشكل ( الهيئة ):

   على الرغم من ضرورة أن تكون صناعة الآلة الموسيقية تعتمد على الدقة والتناسق فى الشكل، والتوازن بين أجزائها ، واستخدام خامات جيدة ، بما يخدم الهدف الأساسى من وجودها وهى القدرة على استخراج الصوت الموسيقى بما يخدم الأداء الموسيقى فى مجمله ، إلا أنه لوحظ تفاوت هذه الآلات من الوجهة الشكلية ، ويرجع ذلك إلى عدم وجود نمط واحد متكرر متفق عليه ، بل أنه من الصعب أن نورد وصفا لهذه الآلات بشكل عام ، بل يظل هذا الوصف مرتبط بآلة واحدة محددة هى التى نحن بصدد وصفها ، ويظل الشكل الخارجى للآلة رهن حرص صانعها وعازفها على جودة التشطيب النهائى للآلة ، وهو ما يترك  وفق المزاج الشخصى لمقتنى الآلة ،

وقد ترتب على ذلك الأمر مشكلة تمثلت فى عدم تجانس الطابع الصوتى الناتج من هذه الآلات حال أدائها بشكل جماعى، ناهيك عن عدم توافر الوحدة  الجمالية فى شكل هذه الآلات .

ثانيا : من ناحية الإمكانيات الصوتية : 

  وتتمثل هذه المشكلة فى أمرين ، الأول هو ضعف الصوت الصادر عن بعض الآلات .

 أما الأمر الثانى فيتمثل فى قلة المساحة الصوتية لها ، وهو ما يتضح فى الآلات الوترية         ( السمسمية ، الربابة )  .

  ويمثل ضعف الصوت الناتج عن الآلة مشكلة تدفع كلا من العازف والصانع إلى تفعيل حلول فردية أو متسرعة ، وهو ما قد يضر بالسمات المميزة لهذه الآلات سواء فى طابعها الصوتى  أو فى الجانب الوظيفى الذى تضطلع به هذه الآلات فى منظومة الأداء الموسيقى ، وهو ما يطرح أسئلة نراها مشروعة منها  :

لماذا لا يتم صناعة الآلات بشكل نمطى دقيق ، بحيث تكون الآلات متطابقة  فى طبيعة الصوت الناتج عنها ؟ 

و بذلك لا يحدث التباين فى طبيعة الصوت الناتج  من العزف على هذه الآلات ، وهو ما قد يساعد على تضاعف القوى الصوتية الناتجة من زيادة أعداد الآلات الشعبية الموجودة ضمن التكوينات الآلية (الفرق الموسيقية )، بل ويضمن لها بالأساس حضورا ضمن هذه الفرق .

محاولات الحل .. ملاحظات واقعية :

مثلت المشكلات السالف ذكرها واقعا ملحا ، دفع مستخدمى تلك الآلات إلى محاولة تجريب حلول من شأنها تفادى ما وجوده من مشكلات تؤثر سلبا على طلاقة التعبير والأداء الموسيقى .

وسوف نورد بعض الملاحظات حول هذا التغير الذى دخل إلى ألآت  الموسيقى الشعبية المصرية، ويتضح بجلاء فى آلتين محددتين هما السمسمية التى تغير شكلها وعدد أوتارها ، وكذلك آلة الربابة التى عُمد إلى تكببر صندوقها المصوت بشكل لافت ، أو إضافة  اللواقط(الكبسولات) الصوتية الموصلة بمكبرات الصوت ، فى محاولة لتلافى ضعفها الصوتى.

أما بالنسبة للمشكلة الأخرى والتى تمثلت فى قلة المساحة الصوتية ، فقد حدا هذا ببعض العازفين إلى إضافة جهاز تغيير الطبقة الصوتية (Octaver    ) إلى بعض الآلات ( الكولة -الربابة ) ،  أو زيادة عدد أوتار الآلة ( السمسمية ، الربابة).

أولا آلة السمسمية :

     آلة وترية شعبية مصرية ، تشبه فى تركيبها آلة الطنبورة التى ظهرت مع العمال النوبيين الذين عملوا فى حفر قناة السويس ، وموطنها الأصلى أسوان والنوبـة ، وانتشرت فى منطقة القناة وسيناء ، وقد اختفى منها أسلوب الضبط الخماسى نظرا لاختلاف الخصائص الموسيقية لتلك المنطقة الجديدة ، والتى تقوم على السلالم الكبيرة والصغيرة والمقامات العربية مما دعا إلى تعديل طريقة النبر عليها 1.

تركيب الآلة :

تتكون الآلة من ثلاث قوائم خشبية على شكل المثلث ، طول القائم الخشبى الواحد حوالى60 سم ، ويسمى القائم الذى تشد عليه الأوتار بالعارضة أو الفرمان أو الحمالة ، وهو مصنوع على شكل اسطوانى وبه عدة ثقوب اختلف عددها تبعا لمراحل زمنية تتابعت على الآلة ، وتدرجت أعداد هذه الثقوب من خمسة إلى ستة إلى ثمانية ثم إلى عشرة حتى وصل عدد الثقوب إلى اثنى عشرة ثقبا ، ويثبت داخل هذه الثقوب المفاتيح أو ما يطلق عليه الملاوى أو الكالون ، حيث تشد عليها الأوتار، ويخرج من طرفى العارضة الذراعان ، أو ما يعرف كذلك بـ           " المدادان " ، والذى يكون أحدهما غالبا أقصر قليلا من الآخر ، ليثبتا على الصندوق المصوت    " الطبق "   وهو عبارة عن صندوق خشبى أو صحن من الصاج ، ويشد عليه جلد رقيق ، تعمل فيه فتحتان تساعدان على زيادة الرنين ، ويتنوع هذا الجلد بين جلود الجمل والبقر والجاموس ، وتفضل جلود أرجل الجمل حيث تنظف وهى طازجة ويقص منها لتستخدم كسيور للربط .

ويرتكز فوق الصندوق المصوت "  كرسى " أو "  فرسه " ، وهى عبارة عن قطعة مستطيلة من الخشب  تستخدم لرفع الأوتار ، وتجهز أوتار السمسمية من سلك معدنى رفيع " سلك تليفون " ، ويستخدم الآن سلك فرامل الدراجة نظرا لمتانته بالقياس لسلك التليفون ، تلتقي جميعها اسفل الصندوق المصوت ، وتمر الأوتار متباعدة عن بعضها البعض بنسب متساوية ، حيث تمر فوق الكرسى وتنتهى إلى المفاتيح ، وأوتار السمسمية متماثلة فى النوع والطول والسمك ويختلف الصوت الصادر عنها تبعا لحجم الآلة من حيث طول ونوع الأوتار وحجم المصوت وكذلك تبعا لعلية الضبط أو التسوية التى يجريها العازف ، والذى يضرب على الأوتار بقطعة من الجلد .

وقد كانت السمسمية فى فترة ما قبل التهجير تتكون غالبا من خمس أوتار تعرف لدى العازف بمسميات محددة نوردها كالتالى :

من أسفل إلى أعلى :

1- البومة " غليظ "             2-  المواصل                  3- الفاصل

4- المجاوب  ، وهو يشارك فى جميع التنقلات .              

  5 -  الشرارة  ( حاد ) .

ويورد رواة آخرون مسميات تختلف بعض الشىء ، وهى كالتالى من اسفل إلى أعلى أيضا :

 1- البومة  ( غليظ )  2- المتحرك  3 -  المتكلم  4-  المجاوب   5– الشرارة  

وكذلك وردت أسماء أخرى  كالتالى  من أسفل إلى أعلى :

1 - الدبانة      2- البوق     3 – المجاور     4 - الرداد       5- الشرارة  .

وقد لحق الآلة تطور أدى إلى زيادة عدد أوتارها زيادة وصلت إلى اثنى عشر وترا ، ، وهو جعل الآلة تخرج عن سياق نسيجها الموسيقى القديم ، بل وسياقها الوظيفى ، وبالتالى  بات من  الصعب إطلاق التسميات السالف ذكرها على أوتارها، ويبرر الرواة ما لحق بالآلة من تغير أدى إلى زيادة عدد أوتارها وكذلك تزويدها بكبسولة كمكبر للصوت ، إلى أن هذا من شانه استكمال أنغام السلم الموسيقى العربى حتى تستطيع الآلة مواكبة الأداء الموسيقى الراهن ، ومصاحبة المغنيين فيما يؤدونه من ألحان تقوم على مقامات الموسيقى العربية ، كما هو المثال فى أغانى الضمه .

ولعل الصور الآتية تشير إلى بعض ملامح التغير التى انتابت آلة السمسمية ، فهذه آلة صندوقها المصوت عبارة عن علبة من الصفيح ، وهو ما يؤكد اعتماد الصانع ( العازف ) على ما يتوافر لدية من خامات بيئية ، صورة رقم ( 2 ).

 

صورة رقم (2)

كما أن إلحاق الآلة بمكبر للصوت ساعد فى التغلب على مشكلة ضعف صوت الآلة ، وهو ما يتضح فى النموذج التالى حيث عمد عازف آلة السمسمية من الوادى الجديد إلى استخدام الكبسولة الكهربائية ، صورة رقم ( 3 )..

صورة رقم (3)

ولعل دخول الآلة فى مجال الاحتراف أدى بعازفيها إلى تطويرها بما يخدم الأداء الموسيقى ، وهو ما يتضح فى الصور التى سترد تباعا   . 

 

 

أ.م.د. محمد شبانه

المعهد العالى للفنون الشعبية - أكاديمية الفنون

 


 



1 سمير يحى الجمال: " تاريخ الموسيقى المصرية أصولها وتطورها "،  القاهرة ، الهيئة المصرية للكتاب ، سلسلة تاريخ المصريين رقم 150، 1999.

 

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,831,564