عالم عبد الرحمن الشافعي المسرحي

  بدأت رحلة "عبد الرحمن الشافعي" مع الإخراج المسرحي بشكل محترف منذ التحاقه بشعبة المسرح العالمي "فرقة التليفزيون المسرحي" (نوفمبر 1963م), وعمله مديراً للإدارة المسرحية, ومساعداً للإخراج, ومعداً للموسيقى, وممثلاً, إلى أن انتدب للعمل مخرجاً مسرحياً بالثقافة الجماهيرية عام (1968م), وكون فرقة "الغورى المسرحية" بحي "الغورية" المجاور لمسجد "الأزهر" .. ثم عين أول مدير لمسرح السامر عام (1971م), وتولى الإشراف على فرقة الآلات الشعبية من عام (1975م) حتى عام (2006م)...

  ومن تتبع أعمال "عبد الرحمن الشافعي" كمخرج مسرحي, يجد أنه قد اختار من النصوص الأدبية التمثيلية ما هو متصل ثقافياً بهوية المجتمع المصري العربي وشخصيته ... فقدم مثلاً عام (1967م). مسرحية:" ياسين وبهية" للشاعر الدرامي المسرحي "نجيب سرور".. ومسرحية "آه يا ليل يا قمر" للمؤلف نفسه عام (1968م), ومن تقديم فرقة "الغورى المسرحية", كما قدم لفرقة" السامر المسرحية" عام (1981م) مسرحية " منين أجيب ناس" للمؤلف نفسه "نجيب سرور" ... وكان الشافعي قد قدم أيضا لفرقة " السامر المسرحية" مسرحية "شفيقة ومتولي" عام (1972م), ومسرحية "علي الزيبق" عام (72/ 1973م) للشاعر الدرامي "يسري الجندي" ... كما قدم للمؤلف نفسه "السيرة الهلالية" عامي (85/1986م), والتي نال عنها جائزة الدولة التشجيعية للإخراج عن عام (1986م), وأفتتح بها الملتقى الأول للمسرح العربي بالمسرح القومي عام (1994م).

 ولقد حظيت "السيرة الهلالية" باهتمام خاص من المخرج المسرحي القدير" عبد الرحمن الشافعي", حيث قدم على مدى عشر سنوات من عام (1984م) حتى عام (1994م) ثلاث تجارب مسرحية عن "السيرة الهلالية", وكانت كل تجربة من هذه التجارب المسرحية مختلفة عن الأخرى.

أولاً التجربة المسرحية الأولى

  ووضح في "التجربة المسرحية الأولى"  التي قدمها "الشافعي" في الفترة من (2 إلى 7 يناير 1985م) مدى تأثره بالنجاح الذي حققه في تجاربه الفنية المسرحية السابقة ومنها :تجربته المسرحية " أدهم الشرقاوي" (14) التي قدمها للمرة الأولى عام (1968م) داخل "ساحة وكالة الغوري" وجمع فيها بنجاح بين مجموعة من الفنانين الشعبيين (صافرة ودف) وهواة التمثيل والغناء من أهل الحي (الغورية والحسين).

  ثانياً: جاءت هذه التجربة المسرحية الأولى عن "السيرة الهلالية " استكمالاً لنجاحه السابق في استقدام (120) فناناً شعبياً في عرضه المسرحي "عاشق المداحين"  الذي قدمه على مسرح السامر عام (1978م).

  ثالثاً: بعد رحلة طويلة, وشاقة ما بين جنوب مصر وشمالها, استقدم المخرج الفنان "عبد الرحمن الشافعي" في هذه التجربة (52) فناناً شعبياً ما بين شاعر رباب , وعازف رباب, ومغني رباب .. إلى جانب مجموعة أخرى من المداحين والموسيقيين الشعبيين, وبعض العازفين على الآلات الموسيقية الشعبية, كالطبل البلدي, والسلاميات, والأراغيل.

  رابعاً: حافظ المخرج "عبد الرحمن الشافعي" على حرية الفنان الشعبي في الأداء التقليدي أو التلقائي... ومع شيء من التدخل جمع بين روح الأداء الفردي والجماعي في الفنون الشعبية وفق رؤيته المسرحية الإخراجية, فقد أدرك بحسه الفني أهمية الموسيقى والغناء في العرض المسرحي الشعبي.

ثانياً: التجربة المسرحية الثانية

  أما التجربة المسرحية الثانية للمخرج " عبد الرحمن الشافعي" فقدمها للمرة الأولى بوكالة الغوري عام (1985م), ثم على مسرح السامر عام (1986م), وأعاد عرضها مرة أخرى بالمسرح الحديث عام (1994م), وفي العام نفسه أفتتح بها الملتقى الأول للمسرح العربي بالمسرح القومي.

  وفي هذه التجربة تحديداً, تدخل الخرج المسرحي "عبد الرحمن الشافعي" في النص المؤلف للكاتب "يسري الجندي", إذ لم يلتزم المخرج بالصياغة الدرامية المسرحية التي صاغها المؤلف وفق الشكل الملحمي المسرحي الأوروبي- المسيحي, الروماني, اليوناني القديم, فمثلاً بدلاً من "الأقنعة" والتي هي بمثابة شخصية من الشخصيات الثانوية في النص الدرامي (المستلهم من السيرة الهلالية) أضاف المخرج المسرحي شخصية "الراوي الشعبي", وجمع بينه وبين الممثلين, أي ما بين النص الأدبي التمثيلي الشفاهي, والنص الدرامي المسرحي المستلهم من السيرة الهلالية لكاتبه.. وكما كتب المخرج:

  "وهكذا تملك راوي السيرة الشفاهي دوره الحقيقي وزاده تأكيداً حيث دارت في فلكه الأحداث –تداخلاً معاً- خرج منها- علق عليها- شخص بعد شخوصها- انفعل معها فرحاً وحزناً- صور القتال كأبدع ما تكون عليه الصورة لفوارس الزمان القديم في الأساطير والحكايات ... فجر معها خيال المتفرج"(15).

ثالثاً: التجربة المسرحية الثالثة

  أما هذه التجربة المسرحية الثالثة فقد كان لها مذاق خاص, إذ استضافت دار الأوبرا المصرية شاعر السيرة الهلالية "عزت القناوي" الذي شارك المخرج المسرحي "عبد الرحمن الشافعي" تجاربه الفنية المسرحية التجريبية السابقة... والتزم الفنان الشعبي بالدور الذي رسمه له المخرج " الشافعي", وفي ليال عشر من شهر رمضان عام (1991م) قدم الطرفان المرحلة الأولى من "السيرة الهلالية" والمعروفة باسم "المواليد" (16) دون أدنى تدخل من المخرج "الشافعي" في الشكل الأدبي الغنائي أو التمثيلي الشعبي عند شاعر "السيرة الهلالية" وكتب المخرج عن ذلك:

  "إن الخرج الواعي يجب أن يستخدم مفرداته ويوظفها في نسق داخل منظومة حركة العرض المسرحي ككل, ولقد كان شاعر الليلة هو المفردة المحفزة للتفاعل مع عناصر العرض المسرحي مع الحفاظ الكامل على شخصيته وتلقائيته وفطرته وأزيائه وموسيقاه"(17).

  وهكذا, حافظ المخرج المسرحي "عبد الرحمن الشافعي" على خصوصيته الفنية المسرحية, التي ميزته عن غيره من الفنانين الذين حاولوا الاقتراب من عالم الفنون الشعبية, وكانت المشكلة الحقيقية في كيفية توظيف الفنان الشعبي على مستوى الفرد والجماعة , كما كتب, وحدثنا عنها المخرج الفنان " عبد الرحمن الشافعي" هي:

1-    كيف أمسرح كل هؤلاء؟

2-    وهل اخضع المسرح لهم, أم أخضعهم للمسرح؟

  لقد أخضع الفنان المسرحي القدير "عبد الرحمن الشافعي" الفنان الشعبي إليه, فهو مخرج العرض المسرحي أولاً وأخيراً..فبع عقد عدة جلسات, وتدريبات, وبروفات كان على الفنان الشعبي أن يلتزم بما تم الاتفاق عليه بين الطرفين, داخل حدود مكان العرض المسرحي وزمانه, فالفنان الشعبي يقدم نفسه للجماهير لأنه في سياق جماهيري جديد... يختلف عن سياقه الشعبي... وكانت قمة السعادة لدي الفنان الشعبي أن يجد نفسه ناجحاً على المستويين.. بعد أن وافق على تقديم نفسه ليس فقط بوصفه فناناً شعبياً ملتزماً بشكله الإبداعي الفني الشعبي, بل بوصفه راوياً يعرف أو يقدم نفسه في العرض المسرحي الجديد, وللجماهير غير المعتادة على رؤيته,  وفق التنظيم الجمالي الذي صممه المخرج... والفنان الشعبي مهما اختلفت صوره وتعددت هو أداة فنية مسرحية, على اعتبار أن "الممثل" من أهم أدوات المخرج المسرحي . وبمعنى آخر, حينما يصعد الفنان الشعبي إلى خشبة المسرح , ويلعب دور الممثل, فالجمهور لا يرى شخصيته الحقيقية, ولكنه يرى شخصية الدور الذي يلعبه تحقيقاً لفكرة "الوهم أو الخيال" في المنتج الفني.. والاتفاق الضمني بين الفنان المرسل والجمهور المرسل إليه على فكرة "اللعب أو اللهو".

إذا وجد الماء بطل التيمم

  والحقيقة, إن استلهام الشاعر الدرامي موضوعه المحاكي من التاريخ أو التراث أو المأثور الشعبي لا يجعل من النص الأدبي موضوعه المحاكي من التاريخ أو التراث أو المأثور الشعبي لا يجعل من النص الأدبي منتجاً فنياً شعبياً..وبالضرورة استخدام المخرج المسرحي "عبد الرحمن الشافعي" لأداة فنية موسيقية شعبية "مثلاً أو الاستعانة في عروضه المسرحية التجريبية بالفنان الشعبي كشاعر الرباب, أو عازف المزمار, أو المنشد الديني, أو المداح, أو حتى ضارب الطبل أو الدف... وغيره.. لا يجعل من مثل هذا الإنتاج الفني المسرحي منتجاً فنياً شعبياً, ولا يحدد هوية المسرح الشعبي في مصر ... فالسياق الشعبي, أو جماعية الثقافية هي التي تحدد شعبية أو لا شعبية أي ممارسة حياتية في مجتمع ما....ومن ثم, يجب أن نلمس الفرق بين وجود الفنان داخل سياقه الجماهيري الشعبي –بوصفه مبدعاً- بجمهوره التقليدي المتذوق والناقد لمنتجه الفني الشعبي, وبين مدى نجاح أو فشل المخرج المسرحي في توظيف "الفنان الشعبي" مسرحياً... وكتب المخرج المسرحي "عبد الرحمن الشافعي" عن نفسه حينما أرخ ووثق لعروضه الفنية المسرحية, "وهكذا, أصبح لدي الآن, من خلال تلك الممارسات, معيناً فنياً أرتكز عليه لننطلق إلى عالم أوسع في حلبة التجريب العالمي, ولنتلاقى مع الآخرين ملاقاة الند لا ملاقاة التابع, الإسهام والإضافة لا التقليد, التفرد لا الذوبان, وبذلك يكون مسرحنا فاعلاً وليس مفعولاً, ولنستعيد قراءة ما فات بعقل جديد ورؤية معاصرة, محاولين استنبات ماضينا في أرض الواقع, فما أحوجنا الآن, وبشدة لزرع المسرحي الحقيقي بين صفوف الشعب".(18)

  هذا هو "عبد الرحمن الشافعي" أحد أهم رواد المسرح التجريبي المصري العربي الحديث.. والذي لم يكن بتجاربه المسرحية مجرد مخرج مسرحي وحسب.. بل صار بدراسته النقدية المسرحية شاهداً على حياته, حينما أرخ ووثق لعروضه الفنية المسرحية المختلفة.

 أما قبل

  وهكذا, حينما انشغل الناس بالتطلع إلى تحقيق تطور مدني معاصر نقتفي به خطى شعوب وقبائل القارة الأوروبية... دعا الفنانون الجدد من العرب إلى استلهام الماضي والتاريخ... أو التراث والمأثور الشعبي ... وطنوا أن "التجريب في فنون المحاكاة" هو الطريق إلى العالمية... في حين أن " التجريب" بوصفه محاولة إبداعية جديدة,  هو كسر لقواعد المنتج الفني وقوانينه سواء من حيث الشكل أو المضمون... إنه إعادة تنفيذ منتج فني بأسلوب جديد, أو بطريقة أخرى مخالفة للأصل, وما اعتاد على صياغته الفنان, وتذوقه الناس, واختارته...  وعلى حد تعبير, المخرج "عبد الحمن الشافعي":

  "في حالة تقديم أو استلهام أو عرض الموروث الشعبي في سياق مسرحي خارج سياقه الجماهيري, فإنه من الضروري لمن يتعرض لهذا التعامل أن يكون على وعي كامل بمقومات هذا الموروث وخلفياته التاريخية, ومن ثم لابد من خلق علاقة تفاعلية بين السياقين بحيث لا يطغي أي منهما على الآخر... ولا يسعى لطمس معالمه أو شخصيته.."(19)

  ومن ثم, "التجريب" عند الفنان قد يكون في عنصر من عناصر المحاكاة الثلاثة اآتية:

1-    الوسيط الذي تستخدمه (الأداة أو الوسائل أو الوسائط).

2-    نوع الشيء المحاكي (الموضوعات).

3-    أسلوب المحاكاة وطريقتها (العرض وإعادة العرض).

  وحكم وجود المنتج الفني المحاكي, أو دوام استمراريته بين الناس, يعود إلى أنه عرضة للقبول والاستحسان... أو الرفض والاستهجان.. وهي صفات نابعة من حسن استخدام الفنان لأدواته الفنية... وقبل هذا أو ذاك إلى :"جماعية الثقافة".

 

الهوامش:

(14) مسرحية "أدهم الشرقاوي" مستلهمة من المأثور الشعبي القصصي المصري... و"أدهم الشرقاوي" هذا: بطل من أبطال المواويل القصصية التي تعرف باسم "موال الحداثة".. إنه البطل الشعبي, والفلاح المصري الذي كافح الإقطاع في عصر كان يباع فيه الإنسان ويشترى في مصر!!!

ولقد استمر عرض مسرحية "أدهم الشرقاوي" ثلاثمائة ليلة, بدأت مع نهايات عام ( 1968), واستمرت حتى افتتاح  مسرح فرقة السامر المسرحية عام (1971م). في حين استمر عرض مسرحية "علي الزيبق" عاماً كاملاً..

(15) عبد الرحمن الشافعي ," راوي السيرة الشعبية في ثلاث تجارب مسرحية: "مجلة المسرح" – الهيئة المصرية العامة للكتاب, العددان (156-157)- نوفمبر- ديسمبر 2001م, ص16- ص27.

(16) تقسيم سيرة حياة عرب بني هلال إلى أربعة مراحل:

1- المواليد.                  2- الريادة.

4-    التغريبة.                     5- الأيتام.

(17) عبد الرحمن الشافعي, راوي السيرة الشعبية: في ثلاث تجارب, مرجع سابق, ص27.

(18) عبد الرحمن الشافعي, كسر الحواجز: ممارسات في عالم المسرح الشعبي, مجلة فصول: تصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب, المجلد الرابع عشر, العدد الأول, ربيع 1995م, ص412-ص418.

(19) عبد الرحمن الشافعي "راوي السيرة الشعبية في ثلاث تجارب مسرحية", مرجع سابق,ص25. 

 

بقلم/ أ.د عطارد شكري

أستاذ الدراما الشعبية المساعد

أكاديمية الفنون

المعهد العالي للفنون الشعبية

 

 

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,204,901