تيمة المرأة والخروج على المألوف في فيلم أندرومان
لا زال الجدل قائما بين مختلف الفعاليات المغربية حول ما يتسم به المجتمع من نزعة ذكورية، هذه النزعة التي مازالت تسيطر على أغلب الرؤى والأفكار، أفكار هدامة ومتطرفة ، يتهمها البعض بتوجيه المجتمع إلى تبني ايديولوجية معادية للجنس الآخر وتحميله ما لا يطاق من ضغط وتهميش وحصار...تكون نتيجتها -أي الايديولوجية- تدمير لبنة أساسية من لبنات هذا المجتمع الذي لن يستطيع النهوض دون فكر تشاركي قادر على احتضان الكل تحت مظلة واحدة، تؤهله لمواجهة تحديات وتطورات هذا العصر.
موضوع مازال يكتسي أهمية كبرى ليس داخل مجتمعنا فحسب، بل داخل كل المجتمعات المتخلفة والمحكومة بالتقاليد والأعراف، فرغم ما نظهره من تحضر وتقدم، وما نتشدق به بمناسبة و بدون مناسبة من حقوق مقدسة للمرأة، فمازلنا بعيدين كل البعد عن الممارسة الفعلية لهذه الحقوق ، حقوق أضحت بفعل البروباغندا المزيفة حقوقا باطلة نسعى من خلالها لكسب ود الدول الغربية ومجتمعاتها المدنية لاغير، لكن على الأرض هناك واقع آخر لا نحاول إبرازه وإظهاره علنا، بل هناك حالة مغايرة تماما ومتناقضة كلية لما جاءت به دساتيرنا وموادنا الحقوقية.
الحقيقة المرة التي نعرفها وننكرها جميعا، بل نسعى بكل الوسائل إلى طمسها، هي أن هناك تواطأ ممنهجا من الكل، أفرادا كانوا أو مؤسسات، الكل يلعب دوره باتقان لتشكيل واقع مشوه والدفع بالآخرين إلى تصديقه وبالتالي دعوة الرأي العام إلى الاحتفال بمنجزات وهمية لاوجود لها، الشيء الذي يزيد الطين بلة ويساعد على تعقيد الوضع أكثر فأكثر.
أمام هذا الإصرار الغريب وغير الطبيعي بعدم الاعتراف بما تعانيه المرأة داخل مجتمعنا الذكوري خاصة في المناطق الهامشية، تظهر بين الفينة والاخرى مبادرات ومحاولات إبداعية وفنية من أناس أثاروا النضال بأقلامهم أوعدساتهم أو... من أجل مجتمع متكامل لا يقبل القسمة على اثنين بل يسعى إلى شراكة بناءة خارج أعراف بالية وتقاليد واهية، مبادرات رغم قلتها إلا أنها تسلط بعض الضوء على مكمن الجرح، لعلنا نستيقظ يوما من سباتنا الذي طال سنوات بل دهورا.
رصد الواقع في فيلم (أندرومان..من دم وفحم)
يعتبر الفيلم المغربي (أندرومان..من دم وفحم) من هذه المبادرات القليلة جدا، والذي سعى صاحبه من خلال عدسته إلى تقديم رؤيته الخاصة حول المرأة ومعاناتها بشكل جديد ومتفرد جعلنا نصغي إلى الصورة ونستشف الواقع من الطبيعة دون الدخول في متاهات الكلام، فالحوار منعدم تقريبا الا ما كان من صرخات القهر والظلم التي تفاجئنا من حين لآخر، فيلم قوي شكلا ومضمونا كشف لنا عن أن جذوة الإبداع السينمائي المغربي ستتوقد لامحالة بواسطة جيل جديد تواق إلى التجديد والتجريب.
شكل هذا الفيلم، وهو الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرج عزالعرب العلوي منعطفا وتحولا مهما في مسيرته السينمائية وقد اعتبره البعض استمرارية ناجحة لفيلمه الروائي القصير "ازوران" والذي كان له السبق في انتشار اسمه. فيلم “أندرومان" فجر المسكوت عنه وأظهر جانبا مهما مما يعانيه المجتمع المغربي من مكبوتات واستشرف زيف الرؤى الفكرية ورصد سذاجة البنية الثقافية والسيكولوجية للرجل المغربي الذي مازال يتركب من ترسبات بالية وأعراف سلبية تتسم بالنرجسية وأحيانا بالسادية.
هل نحن أمام تجربة سينمائية مغايرة؟
أغلبية المتتبعين للمشهد السينمائي المغربي اتفقوا على تميز هذا العمل وتفرده في صياغة إطار توافقي حول تيمة المرأة ومعاناتها داخل المجتمعات المهمشة، صياغة صيغت خارج المسار الزمكاني حتى تبقى إسقاطاتها صالحة ومتوافقة مع أي زمان ومكان، ربما أحداثها مُتخيلة لكنها عمليا موجودة على أرض الواقع بكل تجلياتها ونتائجها، نتائج قد تؤثر بشكل أو بآخر على مجتمع بكامله، وهذا ما حاول الفيلم إظهاره بالفعل من خلال أحداثه المتواترة وما انتهت إليه من نتائج درامية مؤسفة كان لها وقع كارثي على القبيلة بكاملها ومن خلالها على المجتمع بكل مكوناته.
دلالات فنية وفكرية تتداخل فيما بينها لتؤسس جسرا محوريا يربط بين المُتلقي والمخرج هذا الأخير الذي آثر تحطيم الصورة النمطية والمزيفة للمرأة المغربية، هذه الصورة التي أضحت تسيطر على مخيلة المُتلقي من خلال أفلام سينمائية وتلفزية اتخذت من جسد المرأة مكسبا ماديا لاغير مبتعدة بذلك عن المهنية الفنية والإبداعية التي يتطلبها الفعل السينمائي.
الجميل في الفيلم أنه أخذنا معه في جولة طبيعية بانورامية رائعة حيث ترك عدسته تتنقل بين الجبال والغابات والهضاب...بشكل يمزج بين جمال طبيعي فطري وقبح بشري مصطنع عنصران لم ولن يتوافقا بالمرة رغم تعايشهما، فخلف تلك الجبال والأودية يختبئ نوع من البشر لا يمت لتلك الطبيعة في جمالها وسكونها بصلة بشر آثر الاحتكام إلى أعراف وتقاليد منقرضة بعيدة كل البعد عن المجتمعات المتحضرة، أعراف سوداء سادية ترجع بنا إلى قرون خلت واندثرت، لكنها موجودة حتى يومنا هذا وفي مجتمعاتنا الآنية رغم نكرانها ومحاولة البعض تطهير حواشيها وترك مراكزها ومحاورها ملوثة إلى حد العدوى.
لقد وفق المخرج عزالعرب في عدم ربط مُخيلة المتلقي وإحالتها إلى زمن أسطوري منقرض من خلال بعض المَشاهد التي تربط الأحداث بمشابك جزئية لكنها مهمة في نظري كلقطة السيارة التي توضح بما لايدعو للشك إن المسار السردي لهذا الشريط لا يحيل إلى زمن مضى بل إلى حاضر متجسد فينا وفي مجتمعاتنا الراهنة. ماض أليم مرتبط بحاضر أليم، لامجال للتأويل فمازلنا نعيش تحت جلباب آبائنا وأجدادنا، نظرتنا وسلوكنا وثقافتنا اتجاه المرأة مازالت كما هي لم تتغير، ماذا ننتظر حتى نتغير ونغير من سلوكنا؟ هل ننتظر فاجعة مدمرة؟ كما جاء في نهاية الفيلم حيث دمر البطل نفسه وأسرته بيده. ربما هي رسالة من المخرج لاتخصنا نحن كأفراد فقط، بل تخص في مجملها كيانات اجتماعية وثقافية و...
هل يعتبر فيلم (أندرومان) استمرارية لتجربة (ازوران) ؟
استفاد المخرج بشكل ملفت من تجربة (ازوران) ونجاحه، ليعيد الكرة مستندا على نفس المعطيات تقريبا، (الطبيعية والفنية والتقنية...) حتى يبصم فيلمه ببصمة تتناسق والأسلوب السينمائي الذي عُرف به واتخذه مدرسة له، وهو أسلوب يختلف اختلافا على ما اعتاد عليه المُشاهد المغربي في السينما المغربية، واستثماره لهذه المعطيات بالإضافة إلى تأثيت البنية التحتية للفيلم بحبكة درامية قوية، تعتبر كلها عوامل ساعدت على إرساء بنيان قواعده صلبة ومتينة، والغاية هي اعطاء المُتلقي فرصة لتحليل خلفيات الفيلم بعيدا عن الجدل التقني، بحيث تصبح المعالجة التقنية والجمالية في أعمال عزالعرب بديهية لا تستوجب الدخول في أتونها، وبالتالي نتفرغ نحن المشاهدين لمناقشة محتوى العمل ورؤية صاحبه.
خضوع المخرج لأسلوبه هذا مكنه من فرض سيطرته على مجريات الأحداث بحكم تجربته الفارطة، وسهل له التواصل مع مُخيلة الآخر، تواصلا اعتمد بالأساس -حسب رأيي - على تفكيك المفكك، وتهميش المهمش، إضافة إلى زيادة الجرعة الدرامية في تناول الشخصيات حتى يصبح المتلقي تحت ضغط وتأثير البعد الإنساني وبالتالي يصبح التعاطف مع البطلة في أوجه خصوصا في مشاهد المواجهة بينها وبين والدها، وهذا لا يعني تسول الشفقة والعطف من الجمهور، بل هو ترشيد وتوجيه إلى قلق السؤال وطرح مجموعة من علامات الاستفهام كلما ووجهت البطلة بالتعنيف الجسدي والنفسي.
ثنائية الخير والشر في الفيلم.
مواجهة الخير والشر في الفيلم مواجهة كلاسيكية تتناولها كل الأفلام تقريبا لكن يبقى التفرد في كيفية معالجة هذه المواجهة وبالتالي الخروج من هذه النمطية، في رأيي الفيلم تناول هذه المواجهة في إطار مخالف تماما للسائد، حيث البس التقاليد والأعراف جبة الشر رغم إسقاطه على شخوص بعينها، وهو شر ايديولوجي تستوجب مواجهته ايديولوجية جديدة غير مقنعة واضحة للعيان، قد يراها البعض شرا وقد يراها البعض الآخر خيرا..خلاصة القول أن الصراع في الفيلم قد لايتوقف عند موت الشرير،بل قد يستمر لكونه صراعا فكريا وثقافيا واجتماعيا...بالأساس، وهذا ماجعل المخرج يعتمد بشكل عام على توسيع الإمتداد الدلالي ليشمل البداية والنهاية مرورا بالعقدة، و يوُجِّه المنحى السردي إلى فكر الجمهور مباشرة دون تصنع أو تعقيد، فكان لشخصية المهمش (الابنة) مسار مواز لشخصية الطاغية (الاب)، مسار مفعم برؤية عميقة ومعمقة، تمتح من الجمال والقبح طاقتها وقدرتها على التواصل بين الذات والمجتمع، وهذا ما قد نفهمه ونستوعبه من خلال تفاصيل الأحداث وتشابكها فيما بينها، فالدور المركب والمعقد لبطلة الفيلم وزع شخصيتها بين الفطري (الأنوثة) والمتقمص(الذكورة)، كما شخصية الأب التي انقسمت بدورها الى قسمين، شخصية خارجية في مواجهة القبيلة و أعرافها، وشخصية داخلية في مواجهة الذات وضغوطاتها، الشيء الذي حتم على المُشاهد الانحياز بشكل سلسل ومن البداية إلى الطرف الأضعف في هذه المعادلة وهو الابنة الرازحة تحت ظلم واستبداد الأب.
الخيط الوحيد الذي يوصلنا إلى حقيقة هاتين الشخصيتين ، ويُمكِّننا من سبر عوالمهما غير المزيفة، هو الفضاء الداخلي الوحيد في الفيلم تقريبا (المنزل) ، وهو فضاء منعزل لن يستطيع أي أحد كيفما كان الاطلاع على ما بداخله بحكم التقاليد السائدة في تلك المنطقة، بمعنى أن سر الأنوثة يبقى سرا محتفظا به داخل هذا الفضاء ولا يتجاوز حدوده، ربما إحساس المُتلقي وشعوره بتقاسم هذا السر مع أبطال الفيلم فقط دون غيرهم، يجعل للفيلم نكهة خاصة تستلزم بناء علاقة تقابلية خاصة بينه وبين الشخصيتين (البطلة كفتاة وكفتى) في أدوارهما المتحركة الداخلية والخارجية، ليبقى التأثير الأكبر والمهم عند هذا التقابل منحصرا في المشاهد المنعزلة والسرية، أي داخل البيت، هذه المشاهد التي تسعى إلى دغدغة مشاعر الجمهور كي يصبح التعاطف الانساني مع البطلة في أوجه، وقد وفق المخرج في ذلك حيث استمر هذا التعاطف حتى الرمق الأخير من الفيلم، ربما هذا التداخل بين هاتين الشخصيتين المتناقضتين كان لابد منه حتى يشعر المُتلقي بالمعاناة التي تعانيها هذه الشخصية ويرزح بدوره تحت الضغط النفسي والبدني اللذين يمارسان عليها يوميا دون توقف.
خاتمة
العبرة في النهاية تكمن في الحمولة الفكرية والثقافية التي أراد المخرج توصيلها لنا بعيدا عن مأزق اللغة وفخ الرمز والايحاء فاشتغل بذلك على الجسد بالتوازي مع استحضار العوامل النفسية والاجتماعية والثقافية التي تحيط بهذا الجسد وتؤثر فيه.
لاشك أن هناك ملاحظات سلبية حول الفيلم، فلا يخلو أي عمل كيفما كان نوعه وكيفما كان اتقانه من عيوب، سواء تقنية أو فنية أو فكرية...هذا لا نقاش فيه ولا جدال، إلا أنه يبقى في العموم فيلما قويا يعكس المجهود الكبير الذي بذل في انجازه، كما يكرس قدرة صاحبه على التميز داخل مشهد سينمائي يفتقر إلى التجديد والتجريب ويعتمد بالمجمل على التكرار الممل والاقتباس الرديء ، مما يفعِّل استمرارية نفور الجمهور من السينما.
ـــــــــــــــــــــــــ
فؤاد زويريق
المصدر / موقع الفرجة / أكتوبر 2013
ساحة النقاش