38 عاماً على رحيل أم كلثوم، ومازالت في قلوب الناس متجدرة ومؤنسة لعواطفهم وأشواقهم. في ذكرى رحيلها هذا الشهر ومن خارج التناولات العربية للظاهرة الكلثومية، نقدم هذه الترجمة التي تضيء جوانب فنية هامة من مسيرة سيدة الطرب العربي.

في عام 1998 نشرت في ألمانيا الطبعة الأولى من كتاب «أم كلثوم - شخصية المغنية المصرية وفتنتها»، الذي أعيد طبعه نظراً لقدرته على تقديم أم كلثوم لمواطني الثقافة الألمانية الذين وعلى عكس الفرنسيين والبريطانيين كانوا يكتشفون أم كلثوم للمرة الأولى.

الكتاب يمكن تصنيفه ضمن دراسات النقد الثقافي، وهو من تأليف شتيفاني جزيل، وهي باحثة ألمانية من مواليد 1968، درست العربية في قسم الدراسات الإسلامية بجامعة كولون، وعاشت فترة في القاهرة وتمكنت من جمع مادة فريدة من عدة أرشيفات موثقة وشفاهية رسمت من خلالها صورة لـ «كوكب الشرق» إذ يتناول الكتاب تجربة أم كلثوم في السياق الاجتماعي والسياسي الذي مر به المجتمع المصري في القرن العشرين ورحلة صعودها، لتصبح أهم مغنية عربية على الإطلاق يكاد حضورها يقارب الأسطورة.

يركز هذا المقال على ترجمة بعض ما جاء في الفصل الثالث من كتاب شتيفاني جزيل الذي يتناول اللغة بوصفها عنصراً أساسياً من عناصر الثقافة العربية، وكيفية تعامل أم كلثوم معها وتقديرها لقيمتها، وهو ما كان بالنسبة للعرب أحد أبرز سمات نجاحاتها، لذلك اهتم الباحثون العرب والأجانب بدراسة العناصر اللغوية التي تضمنتها أغنياتها، وقد ركزنا هنا على ما تعرضه الكاتبة من أفكار حول أهم الدراسات النقدية التي تناولت هذا الموضوع من جوانب متعددة.



في قلب حركة الإحياء

طالت حركة البعث والإحياء الأدبية التي بدأت منذ القرن التاسع عشر الغناء العربي أيضاً، لكونه وثيق الصلة بالشعر، وكان الشيخ أبو العلا محمد المعلم الأول لأم كلثوم أحد رواد الموسيقى العربية خلال تلك الفترة وكانت وريثته «ثومة» فخورة بالأصول التقليدية لفنها، وقد اعتبرت القرآن معلمها الأول.

لقد كانت تلاوة القرآن في الكتّاب وحفظ القصائد والتواشيح الدينية في سنوات طفولتها وقت أن بدأت في دلتا مصر تدريباً جيداً جداً ميزها عن غيرها من المغنيات. في وقت كانت تلاوة القرآن فيه أمراً ضرورياً لتحسين مخارج الألفاظ والقدرة على التعبير، وكلاهما أساسيان لغناء القصيدة الذي لا يكفي لإجادته الصوت الجميل وحده.

يشار إلى فن إجادة تلاوة القرآن ومعرفة أنماط التلاوة التقليدية بعملية «تصوير المعنى» بقصد التركيز على المعنى من خلال الأداء الصوتي، ومن المثير للانتباه عند قراءة آراء الجمهور الأولى المتاحة لنا أن نعرف أن أم كلثوم أتت في المرتبة الثالثة، مع أنها جاءت في الثانية من حيث جودة الصوت.

كما نعرف أن «كوكب الشرق» كما توصف في أدبيات ثقافتها، بدأت مشوارها الفني في القاهرة بالقصائد التقليدية، لاسيما الأعمال التي أنجزها الشيخ أبو العلا، ورغم تطور برنامجها الغنائي بحيث إنه سرعان ما واكب القوالب الغنائية الحديثة فقد حرصت كذلك على أن تغني قصيدة في العام الواحد على الأقل، وكانت تقول إنها فخورة بغناء القصائد - خاصة الدينية وتعتبرها من أسس الغناء العربي.

عندما غنت أم كلثوم في حفل أقامه الشاعر أحمد شوقي وجمع بعض الكتاب والموسيقيين، بحث عنها أمير الشعراء في اليوم التالي وأهداها قصيدته الدينية «سلوا كؤوس الطلا» لتغنيها، موضحاً أن أم كلثوم كانت مصدر إلهام له، حدث ذلك في وقت كان شعر شوقي في حياته مفهوماً فقط للنخبة المتعلمة، بينما استطاعت هي بأدائها الغنائي أن تصل بهذه القصائد لجموع الشعب. فصار - ما كان بالنسبة لهم أشبه بطلاسم السحرة واضحاً وجلياً حين استطاعت بغنائها تصوير معانيه، ومن ثم ينسب لها الفضل الأكبر لإحياء القصيدة العربية بطابعها التقليدي الأصيل واستعادة علاقتها بالموسيقى الشرقية.

في العام 1926 كتبت مجلة المسرح: «أم كلثوم تبدأ حيث ينتهي آخرون، حيث يتجلى تفوقها في قوة صوتها ووضوح تعبيرها وصفائه، فضلاً عن جمال أدائها، وشدة حساسيتها تجاه ما تغنيه، فهي شخصية استثنائية كما يتجلي في اختيارها المميز للقصائد القديمة والحديثة التي تخلق بجمال أسلوبها حالة من الإبهار. يقول أحمد رامي إن أم كلثوم أخذته من الشعر إلى الزجل، حيث طلبت منه أن يكتب لها شعراً عامياً حديثاً ذا مستوى فني رفيع، لأن نصوص قصائدها القديمة المكتوبة بالفصحى يصعب على قطاع من الجمهور فهمها، ولأن نصوص «الطقاطيق» التي تؤثر على مبيعات الأسطوانات غالباً ما تتسم بالتفاهة. فقد وحد رامي الشعر مع الزجل في نسيج متفرد وبدأ مع أم كلثوم مرحلة فن «المونولوج» الذي كان يقدم من قبل أساساً في الأعمال المسرحية. ومن ثم جاءت مونولوجاته التي كتبها لأم كلثوم على شكل تعبير فردي مطول عن أفكار ومشاعر ذاتية واتسمت بتصوير شعري مبدع قدم باللغة العامية، وكانت مفردات نصوصه مألوفة، وإن كانت أرقى من لغة الشارع الصرفة، إلا أن بنيتها كانت أقرب إلى الشاعرية الرومانسية منها إلى اللغة اليومية، كما كانت صورها البلاغية أقرب إلى الشعرية أيضاً. وعلى عكس القصيدة التقليدية التي يشكل كل بيت فيها وحدة عضوية مستقلة، جاءت أبيات المونولوج في معانيها أكثر ارتباطاً ببعضها البعض. وقد قابل زجل الرومانسي رامي في الثلاثينيات زجل بيرم التونسي (1893 - 1961)، الذي كتب لأم كلثوم منذ بداية الأربعينيات شعراً عامياً خالصاً يخاطب ذوق جماهير الطبقات الوسطى والدنيا، وقد عبر شعره عن الهموم اليومية لكثير من المصريين البسطاء. وكان هذا التنوع في برنامج أم كلثوم الغنائي أحد مظاهر التحول الذي شهده المجتمع المصري بشكل عام. فمنذ عام 1939 تعرض المصريون لما يعتبره الكثيرون حرباً أوروبية، (الحرب العالمية الثانية) لذلك رحب الشعب الذي عانى من أثر تلك الحرب بالموضوعات الجديدة التي غنتها وكانت تمس الواقع بحيث كادت الموضوعات الرومانسية التي انتشرت في الثلاثينيات أن تختفي عن المشهد.



سيدة الغناء ضد الركود

وسوف نقدم عرضاً موجزاً لمختلف الأنواع الموسيقية لاسيما التي ارتبطت بأم كلثوم، فغالباً ما اتخذت هذه الأنواع لنفسها نفس الأسماء الفنية التي أطلقت على النصوص الأدبية التي كتبت بها، منها مثلاً القصيدة والمونولوج، كما غنت أم كلثوم أيضاً الأدوار التي اعتمدت على الشعر العاطفي غالباً باللهجة العامية. ويتكون الدور أساساً من مقطعين ومذهب تسبقها افتتاحية غنائية من الكورال ومقطع فردي من المطرب، وقد ساد هذا النوع الغنائي- الذي كان يتميز أساساً ببساطة موسيقاه - في القرن التاسع عشر حين طوره بعض المغنين المعروفين آنذاك، فقاموا بتقديمه بأساليب غنائية غاية في البراعة. وظلت أم كلثوم تقدم الأدوار حتى نهاية الثلاثينيات، ثم قدمت في الأربعينيات الطقاطيق، وهي نوع غنائي نشأ في القرن العشرين في مقابل الأدوار التي سبقته منذ بدايات القرن التاسع عشر. وكانت الطقطوقة تقسم إلى مذهب وأغصان، ويكون مضمونها عادة عاطفياً بسيطاً مباشراً من حيث الموسيقى والمعاني. كان حوالي ثلث ماغنته أم كلثوم في الثلاثينيات من نوع المونولوج أو الطقطوقة التي تميزت بقصرها فكانت هي الشكل الأنسب لتسجيلها على أسطوانات. أما أفلام أم كلثوم الغنائية فقد أسست لنوع فني جديد، ألا وهو فن الأغنيات، التي اختلفت بنيتها عن الأنواع الأخرى حيث تميزت بالمذهب أو وحدات تكرار أخرى وقدمت عناصر جديدة لنماذج التأليف الموسيقي العربي، وصارت الأغنية هي التوجه الرئيسي في برنامج أم كلثوم الغنائي، وفي الخمسينيات تنوع إنتاج أم كلثوم بين القصيدة والأغنية والأناشيد، إلا أن القصائد والأغنيات نادراً ما تضمنت مضامين وطنية بينما استخدمت الأناشيد لذلك الغرض بلا استثناء تقريباً.

واهتمت أم كلثوم دائماً بالبحث عن نصوص جديدة لأغانيها، فقرأت كل ما عهد به إليها الشعراء، وكانت كثيراً ما تتطلب بعض التعديلات على النص الذي يعجبها لأغراض تتعلق بالمضمون الجمالي أو الأداء الغنائي أو بذوق الجمهور. ثم كانت تعطي النص للملحن الذي تراه مناسباً للنص من وجهة نظرها.

اتخذ الباحث الفرنسي فريدريك لاجرانج (اللغة نقطة ارتكاز لبحثه: «العامية المصرية في أغاني أم كلثوم»، وفي نهاية البحث يشير إلى ملاحظة هامة وهي نشوء منظومة كاملة من المفردات التي تتكرر في أغاني أم كلثوم العاطفية، وهي التي تشكل النسبة الأعلى في رصيدها الغنائي، ويشرح لاجرانج أن حالة الركود التي يعاني منها الغناء المصري اليوم قد تسببت في أن جزءاً كبيراً من الأغاني المصرية المعاصرة ليس سوى إعادة إنتاج لتلك المنظومة، وقد بدأ هذا الركود في الظهور حتى في بعض أغاني أم كلثوم الأخيرة، فقد تتضح بعض ملامح التنميط ليس فقط في مفردات الأغاني وإنما كذلك في بنائها، ويشير إلى الأسلوبين البلاغيين الأكثر شيوعاً في تطور الأغاني وهما الجناس والتضاد، مثل: «أصالح - أخاصم».

ويقسم لاجرانج الكلمات المتكررة إلى أربع مجموعات:

1. تعبيرات سلبية: وهي التي تعكس المعاناة والوحدة والفقد والقسوة 2. تعبيرات إيجابية: وهي التي تعرض موضوعات الحب والحنان والقرب.

3. تعبيرات تشير بطريقة غير مباشرة إلى الـ «أنا» والـ «أنت» مثل «قلب» و«روح».

4. كلمات يمكن وصفها كأدوات لخلق «كليشيهات» ومنها «كأس» أو «شموع».

الصلاة من أجل مصر

أرادت أم كلثوم أن تحدث الغناء العربي بأن تنحاز لـ «الكلمة الحلوة» وأن تتحدى السائد بأداء غنائي لا يعتمد على الحركات الأنثوية الراقصة بل على اختيار الألحان الغنية، وقد أدركت أن عليها أن تتماشى مع روح العصر، لكنها وضعت دائماً نصب أعينها عند اختيار أغنياتها ذوقها الخاص في مقابل ذوق الجمهور، فكانت تراعي دائماً نوعية الجمهور التي تتوجه إليها بالغناء، بالتالي أخذت في الاعتبار تعديل برنامجها الغنائي ليتناسب مع طبيعة الجمهور الجديد الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية، والذي تكون من طبقات اجتماعية أدنى اغتنت بسبب التجارة والاستيراد أثناء الحرب، فاعتمدت في اختيار أغانيها على كلمات أكثر شعبوية أقرب إلى اللغة العامية كما استخدمها بيرم التونسي، كما أحجمت عن الأغنيات القصيرة لأنه في ثلاث إلى خمس دقائق لا يمكن للمؤلف أن يهب النص مضموناً دالاً ولا للملحن أن يخلق جملة موسيقية متكاملة.

ومن ناحية أخرى كانت أم كلثوم تحب الأغنيات الدينية والوطنية، وتغني الأخيرة كأنها تصلي من أجل مصر، ومنها: «طوف وشوف» و«مصر التي في خاطري وفي فمي» وغيرهما. ومن خلال الغناء الوطني والديني اكتسبت أم كلثوم دوراً آخر إضافة إلى دورها كمغنية.

وفي أواخر الستينيات غنت «ثومة» أيضاً الكثير من كلمات مؤلفين غير مصريين، رغم تنوع رصيدها الغنائي الهائل - لإجادتها معظم ألوان فنون الغناء العربي - إلا أن انطباعاً بالتماثل بين أغنياتها يتكون أحياناً عند الاستماع إليها، وهو ما قد يرجع إلى نبرة صوتها المميزة أو استخدامها تقنيات صوتية خاصة تتكرر في أدائها الغنائي بشكل ملحوظ، ولكن الأرجح أن ذلك راجع بالأساس لشخصية أم كلثوم التي طغت بحضورها - مثلاً عن طريق حرصها على التزام الوقار مع البساطة في اختيار نصوص أغانيها - وذلك خلال كل مراحل خلق الأغنية.

ويمكن تقسيم موضوعات أغانيها إلى ثلاثة موضوعات رئيسية وهي: الأغاني العاطفية، والدينية، والوطنية، بينما يربط الحب كل الموضوعات الثلاثة، فبينما هو العنصر الرئيسي لمضمون الأغاني العاطفية، إلا أن المحبة للوطن أو للرئيس جمال عبد الناصر هي أيضاً محور نصوص أغانيها الوطنية، كما أن المحبة لله ورسوله هي موضوع أغانيها الدينية.



الأغاني العاطفية

تدور النسبة الأكبر من الأغاني التي قدمتها أم كلثوم خلال مشوارها الفني حتى نهايته حول موضوع العاطفة الإنسانية، ويذكر سليم نصيب على لسان أحمد رامي قوله: «إن قصة حبٍ تكونت وامتدت في أنحاء البلاد من خلال كلماتي وصوتها» ما هي قصة هذا الحب؟

تتناول الباحثة الفرنسية ميريي تييش - لوبيه «الحب في أغاني أم كلثوم»، وتشير إلى أن موضوع الفراق و«بكاء الأطلال» - الذي تعود جذوره إلى تقاليد الشعر الجاهلي - كان بمثابة مكون رئيسي تعمق واتسع استخدامه في أغاني أم كلثوم، وتعتقد تييش - لوبيه أن النسيب (النَّسِـيبُ هو: رَقيقُ الشِّعْر في النساءِ) الذي انعزل عن القصيدة وتراجع لحساب التعبير عن ألم الفراق قد ولّـد ما يمكن أن نسميه «أغنية المعاناة».معتبرة أن ما قدمته أم كلثوم في قصائدها المغناة ليس مجرد إعادة إنتاج لذلك الإرث التقليدي، بل هو بمثابة صياغة جديدة لتلك القوالب الجامدة لتقديمها بأسلوب أكثر مرونة.

تمثل أغاني أم كلثوم العاطفية حوالي 78 % من رصيدها الغنائي، من بينها 80 أغنية تدور حول موضوع فراق الأحبة و«بكاء الأطلال» (بمعنى آخر 35.5 % من مجمل الأغاني العاطفية) و46 منها هي محور دراسة تييش - لوبيه. برغم تعددية موضوعات أعمال أم كلثوم إلا أن تييش - لوبيه تشير إلى اتجاهين غالبين على موضوع الفراق في مجمل أعمالها، بل وفي تاريخ الغناء المصري عموما: فراق يشوبه اليأس والاستسلام لمحبوب قاس ظالم يخضع له المحب في ذل وألم، فتكون «ثومة» هنا هي «الضحية». وفراق يصحبه شعور بالسلوان أو التمرد، وفيه يكون على المحبوب ذي القلب القاسي أن يدرك ويلات الفراق، وهنا تكون أم كلثوم «الثورية».

يعد الاتجاه الأول هو الغالب على معظم أغاني «سيدة الغناء العربي» (31 من 46 قصيدة) وهو واضح في مشوارها الفني منذ الثلاثينيات حتى الستينيات. أما الاتجاه الثاني فيغلب على موضوعات 15 من القصائد الأخرى موضوع البحث، ست منها في الستينيات والسبعينيات. كتب رامي من بينها ست قصائد، وبيرم التونسي اثنتين، أما البقية فهي موزعة بين شعراء الجيل التالي.



حين صرخ رامي «يا ظالمني»

أما شعر رامي الذي تناول لوعة الحب والفراق فيتميز بالسلبية والمعاناة المختارة،بل المحبذة وكانت مثالاً احتذى به الكثير من شعراء الجيل التالي. كما كان من خصائصه أيضاً المثالية والتجريد في وصف الحبيب. وجاء شعر بيرم التونسي في مقابل شعر رامي أقرب إلى تأملات عامة حول موضوع الحب، فاتسم المحبوب في شعره بصفات أقرب للصفات البشرية تفتح أفقاً أكثر رحابة لتحقق السعادة في الحب. أما الجيل التالي من الشعراء فقد تجنبوا روح الخضوع والسلبية في قصائدهم، فمنظور السعادة لم يكن ضيقاً عندهم، بل مثلوا حباً أكثر حداثة وواقعية.

وهناك العديد من الموتيفات التي تتكرر ومنها موضوعات الحنان أو الشفقة، والسهر الذي كان موضوعاً تكرر أيضاً بكثافة في الشعر العربي القديم، كما هو الحال أيضاً بالنسبة لموضوع الفراق وقسوة الحبيب وبكاء الأطلال والأمل الذي يتولد من خلال السؤال عن حال المحبوب. ويظهر تصور مشاعر «اللوعة في الحب» لاسيما في سياق الشعر الحديث وذلك عندما تتماهى مشاعر الحب والألم، وتأتي السلوى في صور الطبيعة مثل العصفور الذي يشهد على المحبين، وتبادل الرسائل، وذكريات الأوقات السعيدة، والصبر، والأمل في اللقاء، والخيالات أو أنواع أخرى من الهذيان. يمكن أيضاً رصد عناصر متغيرة أخرى منها «الدمع» الذي قد يعبر عن المرارة أو العزاء، والمحيط أو «الآخرون» فمنهم العذال ومنهم المتعاطفون، وهناك «الفراق» الذي قد يكون سبب اللوعة من جهة أو يكون هو نفسه مصدر التحرر.

ومن الملاحظات الأكثر إثارة في بحث تييش- لوبيه التركيز على العذاب في الحب وقوة التعبير عنه بشكل غير مسبوق في تقاليد الشعر العربي، فإن تحليل مشاعر العاشق الذي يعاني من الهجر ونفسية المتألم في الحب قد أضفت على كلمات أغاني أم كلثوم عمقاً عاطفياً يضعها ضمن الشعر الحديث المولع باستبطان المشاعر وصياغتها والذي يندمج بذلك في حراك أعمق مع تطور العواطف الإنسانية، فإن الإضافة الحقيقية للشعراء المحدثين إنما هي ذلك الوصف للفراق باعتباره نقطة تحول، وهو تصور أكثر واقعية، فهذا تصور لم يعرفه الشعر العربي التقليدي، وحتى أم كلثوم نفسها لم تعره اهتماما كبيراً مثلما فعلت مع الاتجاه الأول في تناول موضوع الفراق، ويتضح ذلك في ظهور هذا الاتجاه في مرحلة متأخرة من مشوارها الفني، وبالتالي يمكن تفسير هذا الاتجاه في أغانيها بأنه ميل للتجديد، إلا أن ذلك لا يمنعنا من ملاحظة بعض الكليشيهات الشاعرية العاطفية في مفردات مثل النار، والقمر، والكأس، والفؤاد، والروح، والعين.. وغيرها.



الغناء بصيغة المذكر

إن نصوص الأغاني التي غنتها أم كلثوم باللغة العربية الفصحى جاءت على شاكلة القصائد التقليدية متحدثة بصيغة المذكر، فالـ «أنا» و«الحبيب» كلاهما مذكر، وينطبق ذلك على الأشكال الغنائية الأخرى باستثناء الطقاطيق التي غنتها أم كلثوم حتى عام 1932 وفيها يخاطب «الأنا» المذكر محبوبة أنثى، وإن أمكن أحياناً يتم تفادي هذا بتحييد «الأنا» بأن يتم التعبير عن المحب الحزين مثلاً بأن «القلب حزين». وحتى اليوم يرتبط الغناء للمؤنث بشيء من الخلاعة أميل إلى إثارة الجمهور بشكل غير لائق. لذلك غنت أم كلثوم كأن رجلاً يحب رجلاً، وبما أن المقصود هنا ليس المثلية الجنسية بالتأكيد، يمكن الاتفاق على صيغة الشخص «المحايد» الذي يحب «محايداً» بذلك يمكن تصور مختلف تنويعات الأزواج المحبة في الكلثوميات العاطفية، أي أن معاني الشوق والعذاب في أغانيها ليست أشواق رجل أو عذابات امرأة إنما هي نموذج مجرد لتلك المشاعر الإنسانية التي قد يشعر بها المرء أياً كان جنسه. وفي كتابه (الهوى دون أهله)، دار الجديد/ بيروت 1990 يتحدث الكاتب السياسي حازم «صاغية» عن مفردات في أغاني أم كلثوم لا مذكرة ولا مؤنثة أو تحمل سماتهما معاً بأن تحمل معاني الحب بين الجنسين دون تحديد لخصائص جنس الحبيب أو المحبوب.

وتتكرر في عموم أغانيها الشكوى من حالة آنية وبخاصة في أغاني رامي التي عادة ما تختلط بتمجيد الماضي، والرغبة في العودة إلى زمن قد يعطي انطباعاً أنه لم يكن أبداً: فكأن السعادة في الحب لا توجد إلا في زمن مضى أما الحاضر فهو مليء بالأسى على الحب الضائع وبكاء أطلاله. ويذكر لاجرانج أن أغاني رامي أقرب إلى نداء لحمامة أو لشخص لن ولم يكن.

تشير شتيفاني جزيل في هذا الفصل من كتابها أيضاً إلى بعض النقد اللاذع الموجه لأم كلثوم مثل ما كتبه اللبناني حازم صاغية عن غياب الواقعية تقريباً في كل أغنيات أم كلثوم، فبغض النظر عن المكان والزمان، فالرسائل التي تحملها أغانيها تكاد صياغتها تكون إلهية، خارج التاريخ، مطلقة وسحرية، دون أي تأثير واقعي، فلم يغب الغموض عن كثير من قصائدها، كما أن صورها السحرية تستمد حركتها من خلال أسلوب المقابلة وتبديل الكلمات، فمثلاً في قصيدة «أغداً ألقاك»: هذه الدنيا كتاب أنت فيه الفكر.. هذه الدنيا عيون أنت فيها النظر! في هذه الكلمات لا يوجد ذكر لا لزمان ولا لمكان ولا لأي إشارة للعلاقة مع الواقع. وقد ذهب أحد الباحثين - وهو مصطفى شلبي - إلى حد اتهام أغاني أم كلثوم بالفقر الثقافي، حيث قال إنه بينما تتميز أبيات قصائدها غالباً بشدة الجمال إلا أنها لا تنطوي في مضمونها على أي إضافة فيزيقية أو ميتافيزيقية حقيقية، بل اتهم أم كلثوم نفسها بالمساهمة في إفقار المشهد الشعري والعجيب - في

رأيه - أن ذلك ربما يكون قد أسهم في تزايد نجاحاتها.

 

 

تقديم وترجمة : نيفين فائق -برلين
المصدر / مجلة الدوحة 
 فبراير 2013.

 

 

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,820,198