العلاقة بين الواقع والخيال، هي أكثر ما يلفت النظر في مسرحية " السفينة " التي صدرت مؤخرا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة للشاعر والناقد الأدبي د. محمد السيد إسماعيل ، بمقدمة د. عمرو دوارة، ضمن سلسلة " إبداعات الثورة " . أعرف أن علاقة الواقع بالخيال أمر لا يخلو منه عمل أدبي أو إبداعي بشكل عام ، ولكن ما أقصده هنا يتعلق بكون مسرحية " السفينة " تنتمي إلي موجة الكتابة التي تحسب علي إبداعات الثورة ، وهو ما يعني أن خيالها يرتبط ارتباطا كبيرا وأساسيا بالثورة وينهل من حضورها الذي يمتد من الأسباب الاجتماعية والسياسية والثقافية التي مهدت لها والقوي المتنازعة والمتفاعلة فيها ، مرورا بتفاصيلها وأحداثها وانتهاء بمآلاتها والأشواط التي قطعتها وما يتهددها من أخطار الثورة المضادة . الخيال هنا ـ كما في الكثير من كتابات المناسبات ـ يظل أسيرا للواقع ، علي الرغم من المعالجات المختلفة التي يحاولها المؤلفون لاصطياد الواقع في شبكة الخيال ، قلا يبقي أمام هؤلاء الكتاب سوي الفن ، والخيال الفني الذي يجاهد لكي يغترب بالمناسبة عبر الشكل والأدوات . هنا في هذه المسرحية يمكننا أن نلمح هذه المجاهدة التي يقوم بها محمد سيد إسماعيل من أجل أن يحيل الواقع (الذي يعرفه الناس جيدا ) إلي صورة فنية تسكن اللغة برموزها ومجازاتها . نص السفينة يتخلي عن البنية التقليدية التي تنمو إلي الأمام بحمولاتها من شخصيات وأفعال وصولا إلي عقدة يعقبها حل ، ويعتمد بدلا من ذلك علي مجموعة من الرموز الدالة اجتماعيا والتي يتشكل عبرها الصراع الأساسي في النص ، يستدعي الكاتب من الواقع بعض إشاراته الدالة ليعيد إنتاجها وتركيبها في مواقع علاماتية جديدة تحتلها في بنية أشمل ، ويمكننا هنا التعرف مثلا علي بعض الحوادث المشهورة مثل واقعة الاعتداء علي الصحفي المعارض عبد الحليم قنديل "عشان تتكلم عن أسيادك كويس " وكذا واقعة قتل أحد الأشخاص ببورسعيد بيد الشرطة بينما كان يحاول الاقتراب من موكب الرئيس لتسليمه شكوي ، هناك إشارات إلي بيع القطاع العام ، جملة المخلوع " خليهم يتسلوا " شعار " فكر جديد " الذي رفعه الوريث ورجاله كشعار للحزب .. إلخ . كما حاول الكاتب ، في سعيه للتخلص من سطوة زمن " الثورة " تفكيك أحداثها وبعض تفاصيلها وإعادة تشغيلها في النص عبر آليات زمنية مختلفة ، وقد رأيناه يقدم مشاهد من الثورة باعتبارها رؤي لعدد من الشخصيات ، استباقا لوقوعها في الواقع واستعاضة بها عن حدوثها وإيحاء بهذا الحدوث أيضا . يقول المساعد للراوي : تتحدث كأنك تراه . فيرد الأخير : أتحدث كأنني ربيته علي عيني وانتظرت خروجه القريب . ويقول شاب في موضع : الأمر يحتاج إلي كثير من التضحيات ، أن تملأ الدماء ميدانا بكامله ، أن يفقد الآلاف عيونهم أو أذرعهم أو أرجلهم ، أن تدهس السيارات الأجساد . كما يقول الشاب عن " السيد المهيب " : لن يتحرك بعد ذلك إلا محمولا بطائرة ، أو محمولا علي نقالة . هكذا يقوم النص بعملية تحريك للزمن فنري صورا من الواقع محمولة علي رؤي استباقية لكثير من شخصيات النص ، وتتداخل مشاهد وأزمنة مختلفة واقعية ورمزية لتصنع بنية مفارقة لبنية الزمن الطبيعي ، مشيرة إلي محاولة الكاتب تحدي سطوة الصورة الواقعية للثورة وتغريبها في بنية غير تقليدية ، ومع ذلك يظل أفق الخيال الذي يفتحه النص مرهونا بواقع ، موضوعي ، نشترك في معرفته جميعا ، يسوق الموضوع إليه ، ومن ذلك يقول الراوي : لكن من قال إن هناك فرقا بين الواقع والخيال ، الخيال هو الابن غير البار للواقع ، الابن المشاكس ، العنيد المتمرد ، خفيف الروح الذي يتسلق ثلاثين طابقا ، لا لشيء إلا لكي يحرق علما لا يود رؤيته . هكذا نجد في جملة الراوي ما يؤكد إشكالية الخيال في مثل هذه النصوص التي ترتبط وتتبع موضوعا محددا ، الخيال يظل ملاصقا للواقع وإن تمرد فهو الابن المشاكس الذي لا يتعدي أقصي إمكانيات هذا الواقع وأكثرها تحقيقا لطاقاته ؛ الشاب الذي صعد مبني السفارة الإسرائيلية وأنزل العلم وقام بإحراقه .
في مقدمته ( الثورة المصرية بعيون المسرح ) أضاء د. عمر دوارة مساحات واسعة من علاقة المسرح بالثورة ، راصدا ما مهد وصاحب وعبر عن ثورة يوليو من عروض مسرحية وكذلك ثورة يناير ، كما قدم دوارة دراسة حول نص " السفينة " انتهي منها إلي القول بأن النص بإيجابياته وسلبياته يعد بلا شك إضافة جديدة لمكتبة النصوص المصرية والعربية وإن أخذ علي النص عدم قابلية ما قدمه الكاتب من وصف للمكان للتحقق علي خشبة المسرح ، كذلك رأي عدم أهمية لوجود الراوي ومساعده .
المصدر/ جريدة مسرحنا
بتاريخ/ 29 يوليه 2012
بقلم/ محمود الحلواني
ساحة النقاش