إذا كنا قد تخلصنا من قيود النظام السابق ومن محظوراته فإننا أيضا تخلصنا من نفس القيود لكن بالدراما، ومصطلح (قيود) هنا لا أعنى به الحد من حرية التعبير أو تقنينها فقط، بل أقصد أيضاً التخلص من القوالب الدرامية السابقة، فلم تكن ثورة 25 يناير ثورة على القوالب الفكرية التى أصابها التعفن فقط بل ثورة على القوالب الدرامية المستهلكة بالدراما المسرحية مثل (الزمان)، و (المكان)، و(الحدث الدرامى) و(المشهد المسرحي).

(حواديت التحرير) اسم العرض الذى قدمته فرقة سبيل المسرحية إخراج د. داليا بسيونى والذى طرح بعض قصص من عاشوا تجربة الثورة وما حدث بميدان التحرير ولعل ما يهمنا هنا هو كيف قدمت تلك (الحواديت)؟

وكيف كسرت تلك الكيفية القوال التى ذكرناها سابقاً؟  

بداية يلفت نظرنا خشبة المسرح المفتوحة والتى لا تحوى كواليس أو ديكورات أو أية قطعة تحاول إيهام الجمهور أو إدخالنا إلى حالة مغايرة عن الواقع، وهى حالة مقصودة ولم تغير طبيعة العرض من حالة المسرح فى شيء بل نجد أن العرض حينما بدأ، قد طرح نفسه على الجمهور فى البداية بإضاءة حمراء ثم عمت إضاءة الإنارة على خشبة المسرح مع القليل من الحمرة التى تبرز حالة الغضب أثناء سرد قصص ميدان التحرير.

ولعل اولى القوالب المسرحية التى تكسر حالتها الاعتيادية القديمة هما قالببى (المكان) و(الزمان) فقصص التحرير التى تعرضت لها المخرجة لم تكن قصص الممثلين أنفسهم فقط وما مروا به فترة الثورة بل هى قصص لأشخاص آخرين يسردها الممثلون على ألسنتهم هذه المشاهد المنفصلة والمتصلة كانت تمثل على الكراسي فاتت الدراما الحركية هنا (دراما تخيلية) فإذا سمعنا (ندى) وقصتها ببورسعيد وما حاولت فعله أيام الثورة نتخيل فقط معها الصورة البصرية وما كانت عليه، لكن ما نشاهده على خشبة المسرح فقط هو وجهها وجسدها القابع على الكرسى ومع توالى القصص يتغير المشهد من شخص لآخر ومن ثم تندثر هنا مفاهيم وحدة الزمان والمكان، فالزمان هنا ينتقل من قصة لأخرى بحرية ودون أية قيود فتارة تحدث الحدوتة يوم 25 يناير وتارة يوم 28 يناير جمعة الغضب وتارة يوم الأربعاء 2 فباير ثم تعود قصة أخرة إلى يوم 28 يناير جمعة الغضب ثم تنتقل إلى يوم 11 فباير يوم التنحى، وتعود قصة أخرى ليوم 10 فبراير يوم خطاب الرئيس ما قبل التنحى ثم يوم التنحى 11 فبراير، وهكذا تتوالى القصص فى الانتقال الحر فى الزمان لتكسر وحدته المعروفة قديماً ولكن هذا لا يعنى أنه ليس هناك زمن شمولى لهذه القصص فهى تجمعها فترة واحدة من 25 يناير إلى يوم إعلان تنحى الرئيس االسابق يوم 11 فباير ، وهى الفترة التى انحصرت بها معاناة من كانوا بالتحرير، ومن ثم خرجت منها تلك الحواديت.

وقد يقودنا هذا الزمن النتغير إلى أحداث هذا الزمن فكل قصة من هذه القصص تحدث بميدان التحرير لكن بموقع مختلف فهناك فتاة مثلاً تسرد قصتها أمام المتحف المصرى وشاب يحكى قصته فوق كوبرى 6 أكتوبر الذى يمر مباشرة فوق ميدان عبد المنعم رياض، وهكذا اختلفت أماكن الأحداث وبالتالى كان رابط التخيل هو الرابط الوحيد الذى استجمع تلك القصص المختلفة داخل ذهن أو مخيلة المتفرج، فها هو (محمد) يسرد قصته لنا من ميدان فى يوم مختلف وفى موقع مختلف عن (منار) التى تسرد قصتها من موقع آخر فى نفس اليوم مثلاً ، فترى ما هى الطريقة المناسبة التى يمكنها ان تجمع لك العديد من القصص المتنوعة بأماكنها المختلفة فى وقت واحد؟.

ولعل هذه الصورة السردية قد تذكرنا بصورة الراوى قديماً الذى كان يقص على ربابته سيراً شعبية لأبطال شعبين فيدخل مستمعيه فى عوالم مختلفة وبلدان مختلفة مع أناس أخرى وهم بأماكنهم لا يتحركون ولا يتكلمون سوى فى مخيلتهم التى تتحرك نحو مكان الحدث وتتحدث بلسان حال هذا الحدث.

وقد تكون الصورة الجديدة للمكان والزمان صورة أخرى جديدة لمفهوم (المشهد المسرحى) الذى اعتدنا على أنه منظر ومكان يمثلان وحدة من بناء عرض يتجزأ إلى نقاط تصاعدية الفعل فتبدأ بالبداية التى تتصاعد شيئاً فشيئاً حتى تصل للذروة التي يعقبها النهاية، لكن المشهد هنا يتغير دون تسلسل فى الاحداث او حتى دون الانتقال من منظر مسرحي إلى آخر.

فتقوم كل قصة بدور الحدث المتكامل حتى تنتهى وتبدأ قصة أخرى وما يستوقفنا قليلاً بالعرض المؤثرات التى استخدمتها المخرجة (داليا بسيونى) فى الإيحاء المتصاعد بجو التحرير ولقد وصفت هذا الإيحاء بالتصاعد لأنها قد تصل فى بعض الأحيان إلى نفس اللحظة النفسية التى كان عليها شباب التحرير من غضب وثورة أو من ألم وجروح فكانت محاولة لإعادة تجسيد اللحظة مرة أخرى، وفى ظل أصوات (الهون) الذى يدوى صداه وكأنه صدى صراخ نفوس الشباب على خشبة المسرح.

وفى نهاية العرض وبعد الانتهاء من سرد قصص شبابية مختلفة يقف الشباب على خشبة المسرح ليواجهوا الجمهور ويطلقوا مع الفريق الآخر المتواجد مع الجمهور صرخات تعلو شيئاً فشيئاً حتى تصل إلى أقصاها ثم تهدأ الإضاءة لينتهى العرض.

ومن (حواديت التحرير) استنبطنا بعض الدلالات التى ترشدنا إلى ميلاد دراما جديدة.

 

المصدر/ جريدة مسرحنا

العدد/  194- بتاريخ 4 إبريل 2011

بقلم/ سارة عبد الوهاب

 

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,820,236