ليس هناك أروع من هوليوود ...  عندما تريد أن تهزأ من نفسها ونجومها وطريقتها فى التعبير وأسلوبها السينمائى .. إنها تستطيع أن تصل فى هذا الحال إلى أبعد حدود التعبير، وتقول فى نفسها ما لا يستطيع أو لا يجسر أكثر النقاد كراهية أن يقوله. وهذا بالضبط ما فعلته فى هذا الفيلم الذى أطلقنا عليه بالعربية اسم "المطاردة" نظراً لصعوبة ترجمة العنوان الإنجليزى الذى يلعب كثيراً على تعدد المعانى وإثارة التساؤلات.

الفيلم يجمع .. كعادة هوليوود عندما تريد أن تحكم عن وقع ضربتها بين نجمين كبيرين .. يحتلان مكان الصدارة الآن فى ترتيب نجومها .. توم كروز الذى يعود إلينا شديد التألق، وعميق الموهبة، وقوى الحضور .. بعد أن خذلته بعض الأفلام الأخيرة رغم جودتها ولم تحقق له النجاح الذى كان يصبو إليه.

إنه يعود فى هذا الفيلم وقد شحذ إمكانياته كلها .. وصل فى وسامته إلى أقصى درجاتها .. فأصبح يشيع سحر رجولته فى كل مشهد وفى كل موقف يقدمه .. إلى جانب مهارته المعتادة القائمة على خفة الحركة .. وسرعة التصرف وقوة القبضة .. إنه يجمع بين الحسن والقوة .. فى تعادل مثير .. عرف كيف يستغله فى هذا الفيلم حتى أقصى درجاته.

كاميرون دياز .. التى تنمو موهبتها فيلماً بعد فيلم تواجه هذا (الإعصار الذكورى) برقتها الشاحبة ورومانسيتها الساخنة، ونظراتها الذكية، وتعبيرها اللغوى، فتؤكد نفسها بقوة أمام زميلها الكبير .. وأحقيتها فى أن تحتل المقام الذى تسعى إليه منذ أعوام على خارطة النجوم الهوليوديون الكبار.

الفيلم إذن .. فيلم مغامرات .. ولكنها ليست مغامرات بالمعنى المفهوم الذى اعتدنا رؤيته فى هذا النوع من الأفلام .. الأحداث تبدأ بسيطة وعفوية .. مقنعة فى أحد المطارات الأمريكية حيث تستعد جون (دياز) للسفر إلى مسقط رأسها .. لتحضر زفاف شقيقتها .. حاملة معها حقيبة صغيرة وضعت فيها (اكسسوارات) جديدة لسيارة قديمة يملكها أبوها .. وتريد أحياءها من جديد .. وقد قدمتها للأخت بمناسبة زواجها .. خط يدل على رومانسيتها بشكل غير مباشر وبرقة شديدة حلوة.

وتصطدم جون .. بفتى شديد الوسامة .. يكاد ان يسقط منها حقيبتها .. ولكنه يتدارك الأمر بسرعة معتذراً لها .. ثم يتكرر الأمر مرة ثانية وهى فى طريقها لتسجيل بطاقتها .. ويتكرر الاعتذار.

وسرعان ما نعلم أن (جون) لن تستطيع ان تسافر لأنها لم تحجز مكاناً لها والطائرة كاملة العدد، فتجلس فى قاعة الانتظار .. منتظرة إقلاع طائرة أخرى.

وفى هذه الأثناء نعرف أن الفتى الوسيم روى (كروز) مطارد من جهاز المخابرات الأمريكية لإقدامه على قتل مجموعة كبيرة من العلماء وحصوله على (هدف) ثمين .. تسعى المخابرات ورئيسها للحصول عليه بأى ثمن، وأن أجهزة التصوير تراقب حركاته كلها .. لذلك نجد أن هذا (الاصطدام) الذى تكرر مرتين مع الفتاة الشقراء ليس أمراً عفوياً .. لذلك سرعان ما تتدارك الأمر بطريقتها.

فإذا بشركة الطيران تعلم جون التى تنتظر أنها قد وجدت لها مقعداً خالياً فى الطائرة ويمكنها التوجه إليه .. وهكذا تجد جون نفسها مرة أخرى فى طائرة شبه خالية من الركاب باستثناء سبعة أو ثمانية ركاب متفرقين، وروى الذى يرحب بها بشدة ويدعوها للجلوس إلى جانبه. وبالطبع فإن جون تستسلم تماماً لسحر روى، وتفكر بفرصة ساخنة لتقيم علاقة معه، فهو رجل ساحر لا يقاوم .. (هكذا تناجى نفسها وهى أمام المرآة فى حمام الطائرة) ولا مانع لديها من أن تقوم بالخطوة الأولى. أثناء ذلك .. يقوم روى بمهاجمة جميع الركاب الموجودين فى الطائرة .. التى يتضح لنا أنها طائرة وضعتها المخابرات وجهزتها برجالها، وينجح فى قتل الجميع بما فى ذلك قائدى الطائرة الحقيقيين.

وعندما تخرج جون من الحمام .. لترتمى فى أحضان روى.. دون أن تلاحظ كمية الجثث المتراكمة .. يخبرها بكل هدوء أن عليها أن تتماسك لأن الطائرة تطير من غير قائد.

وتضحك جون من أعماقها لهذه (النكتة) العجيبة .. قبل أن تكتشف الحقيقة .. وترى روى يحاول قيادة الطائرة التى تسقط فى حقل بعد أن ترتطم بشاحنة وتحترق .. وينجو روى مع جون، التى أحست أنها قد دخلت دون أن تدرى فى كابوس لا تفهمه ولا تستطيع أن تجد له منطقاً.  

من قراءة هذه الخلاصة .. يحس القارئ أننا أمام فيلم (يلعب) عليه .. وأن ما يراه لا يخضع لمنطق ولا إلى عقل ولا إلى سينما محبوك ومقنع .. وحينها بالضبط تكمن السخرية الرائعة التى ستستمر معنا حتى نهاية الفيلم المدهشة.

توم كروز .. يقتل كل من يهاجمه .. يركب السيارات المسرعة، ويقودها بشكل جنونى .. يقفز على الأسوار .. يصوب رصاصه الذى لايخطىء أبداً .. جاذباً له جون المسكينة التى لم تعد تعرف من أمرها شيئاً، وتبدأ الأمور رويداً رويداً بالاتضاح.

كروز استطاع أن يحصل على اختراع جهنمى .. يخلق طاقة كهربائية تكاد تكون نووية .. قام بها غلام صغير عبقرى .. وجهاز المخابرات الفاسد يحاول الحصول على هذا الاختراع ليبيعه إلى تاجر سلاح أسبانى .. وهو يتهم كروز بالفساد، وبالنية الفاسدة التى يحملها هو .. ويدفع جهاز المخابرات الذى يعمل معه أن يساعده فى القبض على هذا (المجرم) الذى يهدد أمن أمريكا وسلامتها.

وأن المخابرات تشك بوجود علاقة ما بينه وبين هذه الفتاة التى دس لها الجهاز بحقيبتها قبل الإقلاع، متظاهراً بأن اصطدم بها صدفة.

وتتوالى المطاردات المدهشة والمليئة بالإيثار وخفة الدم وروح الكوميديا الخفيفة، وتنقلنا كما هى العادة فى أفلام الحركة والجاسوسية الكبيرة .. بين مدن شتى ... فيينا بقطاراتها الفخمة، سالزيورج بأبنيتها القوطية وجمال ليلها الساحر، أشبيلية بطابعها الأندلسى المثير وساحات مصارعة الثيران بها وطرقها الضيقة وفتنتها التى لا تقاوم .. ثم هذه الجزيرة المنعزلة التى اختارها روى ركناً سرياً له يعيش فيه حسب مزاجه، والذى ينقل إليها جون المغنية التى أصبحت رفيقته فى جميع المطاردات التى يتعرض لها، والتى تصبح بين نارين عندما تخبرها الوزيرة الكبيرة المسئولة عن الأمن أن (روبى) مواطن خائن يجب القبض عليه .. قبل تصرفه بهذا الاختراع الجهنمى .. دون أن تدرى أنها بذلك تخدم مصلحة رئيس مخابراتها الخادع.

وتتأزم الأمور أكثر .. عندما يتم خطف المخترع العبقرى .. ويظن أن (روى) قد غرق .. ولكنه ينجو دائماً كعادة أفلام المغامرات الأمريكية وينجح فى قتل مدير المخابرات الملوث .. ويكشف الحقيقة لمسئولى الوزارة، ويبدأ فى إقامة علاقة عاطفية مع جون التى طورتها هذه الأحداث وحولتها من فتاة رومانسية خيالية إلى إمرأة محنكة محبوبة .. تلعب بالبيضة والحجر .. تماماً كأستاذها (كروز).

"المطاردة" فيلم مغامرات يهزأ من أفلام المغامرات الهوليودية بطريقة شديدة الذكاء والمهارة، مستخدماً الأساليب نفسها والطريقة نفسها والمغامرات نفسها ولكنه يقدمها مع (غمزة عين) متواطئة مع المتفرج .. تجعله يفكر بما يراه الآن .. وما رآه سابقاً .. ويعقد بينهما فى خياله مقارنة يحكم بها دون أن يدرى على هذا النوع من الأفلام التى برعت هوليوود براعة لا حد لها فى تقديمه .. كل المشاهد دون استثناء .. كتبها السيناريو بشكل جديد .. ونفذها الإخراج بطريقة كاريكاتورية تثير الإ‘جاب وتبعث على التسلية وتحث بشكل غير مباشر على التفكير.

الجثث المتراكمة .. طلقات الرصاص التى لا تخطيء .. الراجل الواحد فى مواجهة طابور من القتلة والمطاردين .. مطاردات السيارات الشهيرة .. التنقل فى العواصم السياحية الشهيرة .. وفوق كل ذلك جمال الممثلين وموهبتهم الطاغية ..  وقدرتهم على اجتذاب المتفرج وجره الى عالمهم المزيف .. دون أن يملكوا من أمر أنفسهم شيئاً.

توم كروز .. يبرهن فى دور المخبر الذى أصابه مس من الجنون إنه لازال على أوج عطائه وموهبته .. وان تراجعه فى بعض أفلامه الاخيرة .. لا يعود له قدر ما يعود إلى ظروف هذه الأفلام نفسها، وإذا كان دور الجنرال النازى الذى فقد عينه وتآمر مع بقية الضباط على الإحاطة بهتلر فى فيلم "فالكيرى" لم يحقق لكروز ما كان يتمناه .. رغم إجادته الكبيرة للدور.

فإننى أعتقد .. إما أن فيلم "المطاردة" سيعيده إلى عرشه بقوة وجاذبية تستحقها موهبته، وتستحقها وسامته التى أصبحت تمثل رمزاً للجمال الذكورى المؤثر.

نعم .. هوليوود تهزأ من نفسها .. ولكنها فى هذه الطريقة بالهزأ تكرس أسلوباً وتدعم طريقة وتؤكد أنها قادرة على أن تفعل ما تشاء بذوق الجماهير واتجاهاتهم .. وأنها تملك الذكاء الكافى والموهبة المتقنة .. لتحيل عيوبها الظاهرة إلى حسنات سينمائية مبتكرة.

وأن ما كان يعاب عليها أحياناً .. تحول إلى إيجابيات توضع فى رصيدها، وأن كمية القتلى الذين أطاح بهم روى فى هذا الفيلم .. يقفون وقفة الند مع ضحايا جيمس بوند وانديانا جونز .. وإن كانوا يتفوقون عليهم بأنهم أحالوا اللامنطق الذى سارت عليه أفلام السابقين .. إلى منطق ضاحك خاص بهم يبدو لى الآن أكثر إقناعاً وأشد متعة وأطول نفساً .

    

بقلم/ رفيق الصبان

المصدر/ مجلة أخبار النجوم العدد/ 927

8 يوليو 2010

 

 

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,820,434