يعتبر فيلم "عسل أسود" من أهم أفلام التراجيدية الكوميدية .. بل ومن أهم أفلام أحمد حلمي طوال السنوات الماضية.. فهو يتعرض لما حدث لمصر منذ العشرين عاماَ الماضية ولسلوك الشارع المصري. لقد ترك مصر طفلاَ عمره 10 سنوات مع والديه اللذين سافرا للولايات المتحدة .. وبعد موتهما فكر في العودة إلى مصر "أم الدنيا" ليستقر فيها .. فيجد ان مصر لم تعد أم الدنيا كما رآها وهو طفل .. ويرجع هذا لكثير من العوامل .. منها فارق الزمن وانحدار الثقافة والحضارة.
اسمه "مصر العربي " وواضح من الأسم نوع من الانتماء إلي مصر .. لكنه فقد جواز سفره الأمريكي .. فلم نره يعامل معاملة السياح الأجانب .. ولكن كأي فرد مصري عادي.
ومنذ أن تطأ قدماه أرض مصر يتعرض لكثير من سلبيات المجتمع الذي تغير تماما .. فهم "يركنونه" في المطار حتى يتعرفون علي شخصيته. وفي المطار يستغله النصابون .. يتصيده سائق ميكروباص علي انه سائق ليموزين .. ويستغله في الحساب بالدولار الذي يتصور "مصري" ان الدولار بجنيهين كما يقول السائق فيأخذ منه بدلا من المائتي جنيه مائة دولار.
ونسي الأمريكاني المصري عادات الإنسان المصري .. فحين ينزل يقول له السائق "خلي عنك".. فيتصور مصري انه يعني ذلك ويمشي ويناديه السائق وهو يضحك ويقول له " دي عزومة مراكبية".
وفي الفنادق نري المعاملة المختلفة بين السياح الأجانب المصريين.. فموظف الاستقبال يخبره بعدم وجود غرف خالية.. وحين يفهم "مصري " يعطيه البقشيش فيسكنه في غرفة علي البحر.. حيث نري جزءاَ كبيراَ من مصر لا يزال يتمتع بالجمال بالليل.. وبرج الجزيرة والمراكب المضيئة ليلاَ، والكازينوهات علي شاطئ النهر.
يطلب "مصري" استئجار عربة بها خريطة توجهه إلي المكان الذي يقصده من الهرم – وهذا متبع في أمريكا – لكنه لا يجد ذلك حينما يركب العربة انها مجرد خريطة.. ويصل إلى الهرم بعد جهد جهيد فالناس لا يفهمونه وهو لا يفهم الناس.. لكن صوت "داليدا" في أغنية "كلمة حلوة وكلمتين حلوة يا بلدي.." في العربة يجلب له التفاؤل.. يستقبلونه البدو بالطبل والزمر البلدي.. ويؤجرون له حصاناَ غير صالح للركوب إلا حينما يأمره صاحبه.. فبعد خطوتين يتمرد ويمتنع عن المشي حتي يكلمه صاحبه علي الموبايل.
ويصور الفيلم شارع المعز لدين الله الفاطمي بعد أن رمم وبقي أكثر جمالاَ.. وحين يدخل الجامع يترك حذاءه علي الباب.. ويخرج فيجد ان الحذاء ان الحذاء قد سرق.. وخادم الجامع يعطيه قبقاباَ يمشي حاله.
أما معاملة الشرطة فهذا شئ آخر.. فحين يلتقط بعض الصور بكاميرته الفيديو يلقي القبض عليه ويقتادونه الي قسم الشرطة.. وهناك يري الويل خاصة حين دخل التخشيبة مع المجرمين وتجار المخدرات.. ويطلب من المسئولين أن يتحدث للقاضي فيسخرون منه، وعندما يتصل بالموبايل إلي صديقه سائق الميكروباص ليضمنه.. لا يضمنه الا بعد ان يأخذ المعلوم.
جاء "مصري" في شهر رمضان ليحس بجو رمضان الذي أحسه وهو طفل.. ويبحث عن المكان الذي عاش فيه وهو طفل في نفس العمارة التي يسكنها صديق الدراسة سعيد تختخ "ادوارد" فيأخذ علقة ساخنة لأنهم لم يعرفوه في البداية وكانوا يظنونه حرامي.. وتستضيفه العائلة الطيبة رغم ضيق المكان الذي لا يتسع أسرة "سعيد"، امه واخته وزوجها وأطفالها.
ومع ذلك فالأم راضية ترحب به.. ويتناول معهم الأكلات الشهية في شهر رمضان.. أما سعيد صديقه فهو راض بحاله يملك متوسيكلاَ يوصل به كل يوم الطفل إلى المدرسة.. ولكن المتوسيكل غالباَ ما يعطل ويقوم سعيد بإصلاحه علي الطريقة المصرية.
وحينما يركب الاتوبيس مع صديقه وهو المواصلة الشعبية ينحشر في الزحمة.. ويتعرض للتحرش من الرجال فيصرخ ويقفز من الاتوبيس الي الشارع.
وحين يجلس منهكا علي الرصيف يظنه البعض انه متسول فيعطونه كنوع من الصدقة في رمضان ..
كما يتعرض للجوع في وقت الفطور في رمضان يدخل احدي موائد الرحمن التي يظن انها مطعم كبير، ويقول لنفسه.. فكرة جميلة ان الناس كلها في المطعم يجلسون علي مائدة واحدة، ويطلب "المينيو" لاختيار الأكل الذي يناسبه.. ولكنه يعرف ان كل الناس في هذا المكان يأكلون أكلاَ واحداَ مجاناَ.
لم يترك الفيلم أي نوع من السلبيات في مصر.. يتناول ايضاَ التعليم الذي وصل الي الحضيض.. فالمدرسون جهلة لا يعرفون شيئاَ مما يقومون بتدريسه.. والمدارس في حالة يرثي لها.. ودورات المياه مغلقة.
ويتعرض للروتين والطوابير والبيروقراطية في الوزارات والأماكن الحكومية لاستخراج الرقم القومي.. ولا يستطيع ان يستخرجه إلا بعد ان يأخذ الموظف "الغلبان" المعلوم! ولكنه حين يذهب للسفارة الأمريكية يستخرج فيزا جديدة ترفضه.
وحين تخرج مظاهرة ضد الأمريكان ويلتقي به ضابط الأمن فيقول هذه المرة انه مواطن أمريكي بعكس كل مرة فيتلقي علقة ساخنة من المتظاهرين.
ومن العادات الموروثة عمل الكعك في العيد وأكل الفسيخ في شم النسيم الذي يعرف انه سمك منتن ولكنه يستسيغ طعمه ويحصل علي انتفاخ شديد في البطن.
هذا غير الأحياء التي تحولت الي عشوائيات، ويقول في وحين يحصل علي الباسبور الأمريكي ويقرر العودة ويركب الطائرة التي تقله لأمريكا، يستعرض ما رآه في مصر، لقد تغيرت مصر خلال العشرين سنة الماضية لكن كل ما لاقاه من عذاب يتراجع عن السفر، ربما الناس الطيبين الراضين بأحوالهم، والصبر وطول البال الذي يتحملونه طوال حياتهم اليومية حقيقي ان مصر زي العسل، ولكنه العسل الأسود!
"عسل اسود" من أهم الأفلام التي قدمها أحمد حلمي فقد تكاتفت كل العناصر الفنية لإخراج هذا الفيلم الذي يعتبر وثيقة معاصرة لمصر في العشرين عاماَ السابقة، فالفيلم يظل عالقاَ بالذاكرة بعكس معظم أفلام الكوميديا السابقة التي يعتمد فيها البطل علي الافيهات، لأننا نعيش هذه السلبيات كل يوم، ويقدم حلمي هذا الفيلم بأسلوب السهل الممتنع دوراَ من أهم ادواره، يثبت فيه أن الكوميديان ليس مهرجاَ، بل هو صاحب فكر سياسي واجتماعي، وبالطبع هو ممثل خفيف الظل يدخل القلب منذ ظهوره علي الشاشة.
وقد كتب السيناريو خالد مرعي الذي يرفعه هذا الفيلم إلي مصاف كبار كتاب الكوميديا، اما الحوار فكان شيقاَ جداَ لدرجة انك تحفظه.
وبالرغم من الجو الأسود الذي نحس به كل يوم إلا أن المخرج خالد دياب تفنن في إضفاء الجمال علي الفيلم، وذلك حين صور معظم مشاهد الفيلم تصويراَ خارجياَ، حيث الأماكن الجميلة فلا تشعر بالاكتئاب مثلما تشعر بأفلام العشوائيات، وكانت موسيقي عمر خيرت مناسبة لأحداث الفيلم.
وحتي الأدوار الصغيرة وضيوف الشرف فقد أدوا أدوارهم بعناية تبتعد عن المآسي والتراجيديا، ولكنها مواقف تعبر عن الحال في مصر بشكل كوميدي، ومنهم أنعام سالوسة الأم ودينا التي أدت دور الفنانات اللاتي يوزعن اللحوم في رمضان انما ممثلة خفيفة الظل، أيضاَ يوسف داود، أما القدير لطفي لبيب فقد برع في أداء دور سائق الميكروباص النصاب لنكتشف في النهاية انه رجل طيب.
ياريت صناع الكوميديا يرون هذا الفيلم ويدرسونه ولا يعتمدون علي الافيهات التي حفظناها والتنطيط وزغزة المشاهدين!
نفسه ان الناس لا يفهمونه وهو لا يفهم الناس..
بقلم / إيريس نظمي
المصدر / عن مجلة اخبار النجوم العدد 922
3 يونيو 2010
ساحة النقاش