الروائي الفذ "فرانز كافكا" قال جملة بدت عابرة،ولم تستوقف أحدا من معجبيه وقرائه،أو ربما لم يرد أحد من هؤلاء أن يتورط فيما قاله هذا الروائي الكبير.
قال كافكا: "لا العلم ولا الأخلاق يصنعان حضارة،فالذي يصنع الحضارة هو النظام".قد يصيح صائح غاضبا: "هل تريدونه عالما خاليا من القيمة والأخلاق؟!"
ولكي نكظم غضب هذا الآخر الذي قد يتعامل سطحيا مع جملة "كافكا"،نشير إلى أن كل نظام يملك عقله و أخلاقه من داخله،ويستحيل محاسبته أو الحكم عليه بعقل و أخلاق متخارجين عليه أو ينتميان إلى نظام آخر،ظهر في زمن سابق وفق شروط اجتماعية واقتصادية وثقافية مختلفة كل الاختلاف.فالنظام الليبرالي يكمن عقله و أخلاقه في القوانين الوضعية المنظمة لحرية العمل والتجارة وضبط العلاقة بين المتنافسين عبر علاقات تعاقدية تضمن شروط الجودة ومواعيد التسليم والتسلم، والغرامات والجزاءات، في حالات الإخلال بشرط من شروط التعاقد،لتصبح المعادلة ما هو قانوني أو غير قانوني. والفرد حر في اختيار كل السبل التي يقرها القانون في سبيل تحقيق منفعته ومن ثم فهو يدرس ويحلل ويقارن ويبحث عن متطلبات الأسواق و رغبات المستهلكين،بما يؤدي إلى الارتقاء بالمنتج، و إلى إيجاد منتجات جديدة تشبع طموحات السوق المستهلكة، الأمر الذي يتواكب معه ازدياد البحث العلمي واندراجه في عجلة لا تكف عن الدوران.
ويطلق على مجتمعات الأنظمة الليبرالية،اسم مجتمعات الصراع،حيث يعمل التخصص الدقيق وتقسيم العمل إلى تنوع شرائحها الاجتماعية وفئاتها الوظيفية بما يعني في أغلب الأحوال تعارض المصالح ،لتجئ الديمقراطية و تؤكد على ثقافة التفاوض بين المتعارضين وهي التي تحول دون انفلات الصراع وتحوله إلى تناحر واقتتال.
ولا يمكن للنظام الليبرالي أن يعمل بكفاءة واقتدار دون مساندة أنظمة فرعية مثل الصحافة الحرة والنقابات والاتحادات والأحزاب ،فهي الضامنة (أو هكذا ينبغي لها أن تكون) للرقابة والتعديل و الضبط الذاتي.
ولا يعني هذا بالطبع أن النظام الليبرالي نظام لا يعتوره النقص، فالعكس هو الصحيح تماما،فها هي الأزمة الاقتصادية التي انفجرت في وجه العالم بأسره عام 2008 تعصف بهذا النظام وتهدد استقراره، ولكن يراهن مفكروه على نظرة خطية تقودها قوة الأشياء وقوانين التاريخ لإصلاح ما نجم عن السيطرة المطلقة لرأس المال، في استناد صريح وواضح على دينامية النظام الليبرالي وقدرته على امتصاص الصدمات وإفراز "فاعلون اجتماعيون" من طبقات ومنظمات اجتماعية تتمتع بالشرعية يعملون على إعادة الاستقرار لبنية النظام الليبرالي.
وفي مقابل الأنظمة الليبرالية هناك أنظمة الإجماع ،وتعتمد على الأوامر والنواهي ويتحلق أفرادها حول كتاب مصدره السماء،ولا يسمح لهؤلاء الأفراد بالخروج عن الطابور أو الصف.وكذلك تعتبر أنظمة الإجماع أن مصدر تقدم الأمم هو الأخلاق التي أعطيت مرة واحدة وإلى الأبد في رؤية غير تاريخية ولا اجتماعية لهذه الأخلاق. فالنظم الأخلاقية لا تستمد من الوازع الديني كما أكد فلاسفة عظام ولا يمكن فهمها إلا في ضوء أصلها وتسلسلها التاريخي ،وعند "نيتشة" لا تمثل هذه النظم تصورا محايدا لما يتكون منه الخير بل هي تعبير عن مصالح جماعات بعينها.
والحركات الإسلامية والإسلام السياسي النموذج الأمثل لأنظمة الإجماع،وإذا كان ظهورها كرد فعل لعمليات التحديث في الثلث الأول من القرن الفائت فهذا يعني استحالة فصلها عن واقع الرأسمالية من جهة،وعدم امتلاكها لأجوبة شافية عن كيفية فك الارتباط بها.
وكذلك تعمل الحكومات المصرية المتعاقبة في فترة ليست بالقصيرة بنفس الطريقة،فهي تضع قدما في النظام الليبرالي أو النيو ليبرالي إذا شئنا الدقة،وأقداما في نظام الإجماع ،فهي من ناحية تعمل على قاعدة ربحية رأس المال ليس إلا،في إقصاء وتهميش لقطاعات عريضة من الشعب الأمر الذي يدعم انتشار الإسلام السياسي، ومن ناحية أخرى تنافس الحركات الإسلامية في تصورها "للإسلام الصحيح".
فمنذ الرئيس الراحل السادات تنادى حكومات مصر بالديمقراطية دون توفير الظرف المواتي لهذه الديمقراطية من مؤسسات تعمل على أسس سليمة وثقافة سياسية تبتعد عن إثارة المشاعر الدينية.وهنا يحضرني كتاب "عالم من نار" لكاتبته "إمي تشوا " أستاذة القانون بجامعة "ييل" حيث تشير إلى "أن التحول إلى الديمقراطية في دول ينتشر بها الفقر،كثيرا ما أدى إلى إطلاق الكراهية خصوصا مع انتشار الديماجوجية والغوغائية بين قياداتها" وخصوصا مع غياب ثقافة الدولة المدنية،ففي ظل هذا الغياب يقع الشعب المصري في فجوة بين الأزمان، زمن الرأسمالية المتأخرة والمأزومة والتي تبحث عن حلول لأزمتها،والزمن الديني الذي عجز عن إيجاد بوصلة تؤشر للمستقبل ولا يمتلك إلا صيحات الاستهجان و الإنكار لأي من المشاريع الأخرى.
بقلم /د. سامح مهران رئيس اكاديمية الفنون المصدر/ جريدة نهضة مصر
ساحة النقاش