في اواخر القرن الثامن عشر ومع بدايات القرن التاسع عشر، شهدت مصر بزوغ اول مدرسة موسيقية وغنائية في العصر الحديث كانت متأثرة بروحها ومورثها الحضاري الفني استطاعت هذه المدرسة ان توائم بين جماليات الانشاد الديني والابتهالات والتواشيح وبين انطلاقة الغناء وحيويته وعذوبته مستحدثة مجموعة من التجديدات في الاداء والموسيقي كالدور مثلا بدلا من الطقطوقة وإيثار الحس الحي وروح البيئة من الموسيقات اليونانية والتركية .

ومن اعلام هذه المدرسة التي اثرت عربيا المشايخ :محمد عبد الرحيم المسلوب ،وخليل محرم ،ومحمد الشلشلموني ،وعلي القصبجي ،ويوسف المنيلاوي ،وسلامة حجازي وغيرهم ،الذين احدثوا نهضة فنية لا يزال العالم العربي يحيا في إثراها غناء واداء وتلحينا وأكمل مشوار هؤلاء الرواد مجموعة اخري من الافذاذ من امثال سيد درويش وأبو العلا ورياض السنباطي وزكريا احمد ومحمد القصبجي وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب ومحمود الشريف وعبد الحليم حافظ ومحمد فوزى ومحمد الموجى وكمال الطويل وبليغ حمدي.

يعد الشيخ محمد عبد الرحيم المعروف بـ "المسلوب "الذي تؤكد معظم المراجع أنه عمر طويلا (1798_1928)أول من ابتكر موسيقي مصرية اصيلة لها طابعها الشرقي والغربي المتأثرة بالبيئة المصرية خاصة في بدايات القرن التاسع عشر فلقد انتقل من قريته بمدينة قنا في صعيد مصر وحضر إلي القاهرة وتعلم في الازهر الشريف وتخرج فيه لكن ميوله الموسيقية السائدة في عصره هي الموسيقا اليونانية والتركية والاندلسية كان امله ان يأتي بموسيقي مصرية وعربية جديدة ذات لون شرقي ومن بيئتها واسس اول مدرسة غنائية مصرية الطابع والاداء وضع لبناتها وتفاصيلها لايجاد نفح من تراب مصر لشعب مصر

ومن جوانب تجديده وعبقريته الموسيقية تطويره في غناء الطقطوقة حيث عمد إلي تغير ملامحها الفنية وإضفاء بصمته الخاصة فيما يعرف باسم "الدور "الذي جعل اعماله كما يقول الدكتور خيري محمد عامر تغني بواسطة المطرب والمجموعة معا واسماه بالمطلع بدلا من المذاهب في الطقطوقة لانه في معظم الاحيان لا يتكرر ثم يغني المطرب كلاما مختلفا بلحن يختلف عن لحن المطلع ثم تغني المجموعة كلمات اخري غير كلمات المطرب وبلحن جديد وينشئ المطرب بعض الاهات الجميلة يعاونه في غنائها المجموعة الغنائية وهكذا اصبح للدور شأنه العظيم ومكانته الكبري تلحينا واداء وتأليفا .وإذا كان الشيخ المسلوب قد اهتم بالقوالب الغنائية في إطار زعامته للمدرسة المصرية الغنائية والموسيقية الحديثة فإنه يرجع إليه الفضل ايضا في انه قرب من الشعب موسيقاه وجعل للمصريين غنائهم وموسيقاهم الالية حيث اثبت البحث العلمي والتوثيقي ان اول موسيقي مصرية صميمة قدمها الشيخ المسلوب ودونها قائد الموسيقات العسكرية الاميرلاى  "عميد "محمد ذاكر بك لكي تعزفها موسيقا الحرس الخديوي.

ومن اهم المناسبات والاحداث الفنية التي استمع فيها شعب مصر لموسيقي الشيخ المسلوب بصوته واصوات تلاميذه المشايخ محمد الشلشموني وعبده الحامولي ومحمد عثمان ،احتفال الخديوي إسماعيل بعرس اولاده الذي استمر اربعين ليلة حتي ان بعض المؤرخين وصف هذه الاحتفالات قائلا :إنها فاقت اساطير الف ليلة وليلة وقد اشترك في إحيائها جميع مطربي العصر وتباري رجال الموسيقي والغناء في وضع المقطوعات الموسيقية الخاصة بتلك الحادثة وابدع الشيخ المسلوب في تلحين مجموعة من الادوار الفذة مها :افراح وصالك في مجلس الانس الهنئ

الشيخ خليل محرم: ولد الشيخ خليل محرم في النصف الاول من القرن التاسع عشر كان معاصرا لاستاذه الشيخ المسلوب والشيخ المسلوب والشيخ الشلشموني ومحمد الحصري وخطاب الكبير شيخ الالاتية .

حفظ القران الكريم صغيرا واهتم بالانشاد الديني والابتهالات والتواشيح حتي اشتهر بذلك وشغل وظيفة كبير المقرئين بالقاهرة ومن تلاميذه الشيخ يوسف المنيلاوي ومن اشهر اعماله دور "الله علي الدمنهوري"

الشيخ الشلشموني :كان معاصرا للشيخ المسلوب وهو واحد من اشهر فناني مدرسته الفنية وهو رائد من رواد فن الموشحات وكان كفيفا لكنه من اصحاب الحس الفني المرهف والصوت العذب والعبقرية في الاداء والتلحين ويرجع إليه الفضل في اكتشاف الشيخ سلامة حجازي ويوسف المنيلاوي وكان ذا حديث وشهرة داخل مصر لدرجة انه في اخريات حياته اتجه إلي حفل يحييه عبده الحامولي إلي التوقف عن الغناء لكي يسأل عن سبب ذلك فأجابوه بأن الشيخ الشلشموني قد حضر الحفل مما جعل الجمهور يذهب إليه فترك عبده الحامولي علي الفور تخته وقصد الشيخ الشلشموني وقبل يده اعترافا بفضله ومكانته.

الشيخ علي القصبجي: هو والد الموسيقار الكبير محمد القصبجي الذي كون ثنائيا مهما بالنسبة إلي سيدة الغناء العربي أم كلثوم ولد الشيخ علي القصبجي في النصف الاول من القرن التاسع عشر وعاصر محمد عثمان وعبد الحي حلمي والمنيلاوي وحفظ كتاب الله ابناء جيله واعتمد مقرئا للقران ومنشدا في حلقات الذكر والمولد وكان احد اهم منشدي عصره كما امتاز بالعزف علي الة العود وقد اكتسب منه هذه المهارة ابنه الموسيقار محمد القصبجي فيما بعد.

وكان الشيخ علي القصبجي محبوبا من فناني وموسيقي عصره وكان يعطيهم الحانه بالمجان لكن شهرته انحسر ظلها بعد موته حتي اصبح من المنسيين وقد سجلت جهات اكاديمية فنية اعماله الفنية في التلحين كملحن للدور والموشح والموال والقصيدة ومن الادوار التي لحنها حياتي من بعد العازلين وجمالك يا رشا زان جمالك والحب له في الناس احكام.

الشيخ يوسف المنيلاوي : ولد في عام 1850 وتوفي عام 1911 دخل الكتاب وحفظ القران الكريم وكان حسن الصوت طيب الاداء فأعجب به المنشدون وتعلم منهم بعض الالحان الدينية.

وتعرف إلي كبار منشدي عصره من امثال الشيخ المسلوب والشيخ خليل محرم ومن اشهر ما غني الشيخ المنيلاوي قصيدة "سلطان العاشقين "لعمر بن الفارض وهي من الحان الشيخ علي محمود وبعد ذلك ترك الغناء الديني وتفرغ للغناء الدنيوي فما كان منه الا ان كون تختا لعبده الحامولي مطرب الخديوي إسماعيل وابدع واجاد في تلحين القصائد وكان اول من تغني بها لدرجة ان الخديوي إسماعيل ارسله إلي الاستانة للقاء السلطان عبد الحميد فأعجب به السلطان وانعم عليه بالنياشين والاموال وطلب منه البقاء بتركيا فما كان منه الا ان اعتذر وعاد إلي القاهرة وسجل الشيخ يوسف المنيلاوي الكثير من اعماله الغنائية علي اسطوانات ففي عام 1908-علي حد قول الدكتور خيري محمد عامر سجلت له شركة عمر افندي بعض الاعمال باسم "سمع الملوك "وسجلت له كذلك شركة جرامافون في عام 1910 عدة اسطوانات منها ادوار : جددي يا نفس حظك ،ومن قبل ما اهوي الجمال ،وكنت فين والحب فين ،والجمال في الملاح صدف ،وفؤادي امره عجب ، والا في سبيل الله ،والله يعلم ان النفس ، ولا جزي الله دمع عيني .

ومن اشهر اغانيه "اغنية البلبل " التي كان إذا طلب احد منه غناءها في الافراح اشترط عليهم ان يدفعوا له مبلغ عشرين جنيها ذهبيا فوق قيمة العقد.

الشيخ سلامة حجازي : ولد الشيخ سلامة حجازي عام 1852 في مدينة الاسكندرية بمصر وتوفي والده وعمره ثلاث سنوات التحق بكتاب القرية وحفظ أيات الذكر الحكيم وهو صغير واشترك مع المقرئين والمنشدين في حفلات الاذكار وكان من المرددين للاهات الممتدة وبعض الاصوات الحادة لما يتمتع به من حلاوة صوت وسحر في الاداء وسعة في المنطقة الصوتية وفي العاشرة عشق الة "السلامية "واحب العزف عليها مما جعله يستوعب جميع الالحان في حلقات الذكر وعندما بلغ الحادية عشرة من عمره طلب منه الناس افتتاح حلقات الذكر بتلاوة ايات القران الكريم وبعد ذلك عمل مؤذنا لمسجد الاباصيري نتيجة لحلاوة صوته ونداوته وتعرف انذاك إلي الشيخ الياسرجي كبير منشدي الاسكندرية فتعلم علي يديه قواعد الغناء والانشاد وكان مولعا بطريقة الشيخ محرم في الانشاد فحفظ عنه ما لم يحفظ غيره من قبل وفي الثلاثين من عمره كون تختا موسيقيا جذب إليه اهل الاسكندرية واستحوذ علي البابهم وعقولهم وغني الجديد بالاضافة الي الباسه القديم ثوب الجديد فذاعت شهرته في الاسكندرية وسمع به اهل القاهرة الذين اتوا به لسماع صوته الساحر في قصورهم ومنتدياتهم وحفلاتهم ومن هنا تحققت للشيخ سلامة حجازي الشهرة والنجومية في عالم الغناء وهو ما كان يطمح اليه واصبح اسمه يتردد مع اساطير الغناء والطرب في ذلك العصر من امثال : الشيخ المسلوب وعبده الحامولي والمنيلاوي وغيرهم.

وفي عام 1884 ظهرت باكورة التمثيل في مصر للمرة الاولي في الوطن العربي وكان الشيخ سلامة حجازي اول من اظهر بفراسته وعبقريته تفوقا في هذا المجال حيث كانت مهارته ونبوغه في الاداء الغنائي سببا في اجتذاب اصحاب المسرح له لكن نشأته الدينية ابت عليه اعتلاء خشبة المسرح وتمر الايام وينجح احد اصحاب هذه الفرق وهو يوسف خياط "من الشام " في إقناعه بالغناء بين فصول الروايات المسرحية التي تقدمها فرقته وتعاقد معه بعد ذلك رجل من الشام اسمه القرداحي وهو صاحب فرقة ايضا علي الغناء التمثيلي الا ان تشجيع عبده الحامولي لسلامة حجازي كان له ابلغ الاثر في استجابته للتمثيل والغناء علي المسرح مؤكد له ان المسرح هو المناخ الملائم لموهبته الصوتية المنطلقة .

 بقلم/صلاح حسن رشيدمجلة الفنون اغسطس 2006 العدد 68

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,255,182