مقدمة :

إن  البحث عن  إجابابات شافية عما يعتمل الآن فى واقعنا الإبداعى الموسيقى - إن جاز لنا إن نطلق عليه ابداعاً – لن يتأتى من خلال البحث فقط فى القيم الجمالية المرتبطة بعلم الموسيقى وما يتضمنه من إيقاعات ومقامات وخلافه ، ولكنه يحتاج إلى إعمال للرأى الثقافى فى مجمل هذا الابداع .

إن استدعاء الإنتاج الغنائى لفترة الستينيات والسبيعينيات ، واعادة تقديمه يطرح عددا من الأسئلة فيما يتعلق بداية بمبررات هذا الإستدعاء ، وهل يعد هذا دليلا على عدم تلبية الإنتاج الموسيقى الراهن لمتطلبات الوجدان الجمعى ، بل وربما وعدم الاعتراف بمصداقيته ، ثم إن ثمة تساؤلا عن كيفية إعادة انتاج هذه المواد الموسيقية ، وكيف يعبر ذلك عن التغيير السلبى الذى أصاب الذائقة الجمالية الغنائية لدى المتلقى ، فالخروج من حال السماع إلى حال الرقص أو الانتشاء الحركى ، فرض تكرارا أو هنكا مبتذلا ، ولعل المقارنة بين تكرار الجمل الغنائية لدى أم كلثوم- على سبيل المثال - ، وبين التكرار الحالى عند المطربين الذين يطلق عليهم مجازا - الشعبيين - يوضح سيادة قانون التفاعل الحركى  ، بغض النظر عن حضور القيم الزخرفية فى الجملة الغنائية ، ناهيك عن فهم أولى وبسيط للمعانى التى يتناولها المغنى - إن كان بالأساس مغنيا - فعندما تغنى أم كلثوم  من شعر جورج جرادق فى قصيدة هذه ليلتى       ( سترانا كما نراها قفارا ) ، تتحول المفردة ( سترانا )  إلى ( سكرانا )، فى أداء المغنيين السالف ذكرهم ، وهو ما يفرضه الواقع المعاش الذى هو سكران او يرمى إلى السكر .

ان التكرار والأطالة فى أمد الأغنية تفرضة وظائف  جديدة يفرضها واقع جديد ، بصرف النظر عن معيارية أوجماليات الفن الموسيقى  . 

وقد ربط ابن خلدون بين تطور العمران وبين رقى الفنون الموسيقية ،  فجعل من العمارة معادلا دالا على الموسيقى والعكس صحيح ، بل وأشار إلى أن ما يعترى المجتمع من وهن وتخلف يتجلى أول ما يتجلى فى فن الموسيقى والغناء .

مشكلة البحث

يرمى هذا البحث إلى تعرف القيم الثقافية التى تحملها الموسيقى الشعبية سواء فى نصها الموسيقى إيقاعا ومقامامات ، وآلات موسيقية ، وأداء ، وكذلك نصوص الأغانى الشعبية  حيث تحمل هذه النصوص مفاهيم المجتمع وتصوراته للنواحى الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والجمالية ، وحيث تتيح المناسبة الموسيقية فرصاً لتحقيق العلاقات والأدوار والنظم الاجتماعية ، ودعماً للقيم الأخلاقية والاجتماعية والدينية ، وعليه فالموسيقى الشعبية بكل عناصرها تمثل نصا ثقافيا دالا على المجتمع الذى تصدر عنه .

أولا :منهج دراسة الموسيقى الشعبية :

إننا لا نقصد بالإبداع الموسيقى ما تحمله الينا آلة الانتاج الضخمة بوسائطها المتعددة  فقط ، ولكننا نعنى بشكل أساسى الموسيقى الشعبية بشقيها الغنائى والآلى وبمستوياتها ومناسباتها المختلفة .

ومما لاشك فيه أن الموسيقى لغة ، غير أنها ليست لغة عالمية كما يتصور البعض ، وإنما هى لغات مختلفة ، إذ أن لكل شعب لغته الموسيقية ذات الخصائص المميزة ، وإذا كانت الموسيقى من حيث أسسها واحدة فى كل مكان ، كونها تنسيق الأصوات بطريقة محببة للأذن وأنها من حيث أصولها مرتبطة بمعتقدات الإنسان وطباعه وهى لغة الروح والمشاعر، فلكل لغة موسيقية خصائص تكمن فى المادة الموسيقية ذاتها من حيث : الأبعاد الموسيقية وتكويناتها - المقامات - الزخارف - وحدة اللحن أو تعدده - تنظيم الإيقاعات وأنواعها - أشكال التلحين - تقنيات الأداء الصوتى والآلــى - وسائل التعليم الشفاهى أو المكتوب - الآلات الموسيقية والوظيفة الإجتماعيــــة .

        و تلعب  العناصر السالف ذكرها دوراً مهماً فى تحديد نوع اللغة الموسيقية وانتمائها إلى هذا الشعب أو ذاك.

وتختلف الأغنية الشعبية عن غيرها من سائر أشكال التعبير الشعبى فى كونها تؤدى عن طريق الكلمة واللحن معاً .. ومن ثم كان البحث فيها ذا شقين، شق يتعلق بالكلمة وآخر يتعلق بالموسيقى .

 ثانيا :شروط القراءة الثقافية للموسيقى الشعبية :

وثمة شروط نراها أساسية للوصول إلى قراءة  ثقافية دالة  للموسيقى الشعبية منها :

-1 - توافر المادة الميدانية المعبرة عن المجتمع الذى نحن بصدد دراسته :

حيث تمثل عمليات الجمع الميدانى لب الدراسة الفولكلورية ، ولكى يكون هذا الجمع علميا منضبطا فلابد من وجود الكوادر العلمية المدربة منهجيا وتقنيا ، وهو مايقتضى وجود المؤسسات الأكاديمية المعنية بدراسة الثقافة الشعبية ( الفولكلور ) تراثا ومأثورا  ، وذلك وفق أحدث المناهج والنظريات  التى يتضمنها هذا العلم ( علم الفولكلور ) .

ولابد أن تتم عملية الجمع وفق خطة معينة يقصد من ورائها تحقيق أهداف بحثية بعينها ، وهو ما يمثل موجها لعملية الجمع فى مراحله المختلفة  .

أهمية الجمع الميدانى :

من الأهمية بمكان ، أن نشير إلى أن القراءة الثقافية للنص الموسيقى تظل قاصرة ، ومنقوصة ، بل ومضللة أحيانا ، إذا اعتمدت على مادة ميدانية لا تعبر عن الثقافة  التى تمثلها ، وهو ما يقتضى إعمالا للمعايير العلمية فى جمع المادة الميدانية التى تعتمد عليها مثل هذه الدراسات ، فهى تحتاج إلى مادة ميدانية وفيرة  تغطى مجمل النشاط الإنسانى لثقافة بعينها .

 أن من الضرورة بمكان أن نشير إلى أن انقطاع حركة الجمع الميدانى المقصود والمنضبط لعناصر الموسيقة الشعبية المصرية لفترة قاربت الأربعين عاما ، يشكل جمودا مخزيا ، ورؤية مضللة لمجمل النشاط الموسيقى الشعبى فى مصر فى مرحلة زمنية حفلت بمتغيرات اقتصادية وتكنولوجية صارخة ، القت بظلالها - سلبا وإيجابا - على الحياة الشعبية المصرية  والثقافة المصرية فى شتى مناحيها .

        ومما لاشك فيه أن البحث فى الموسيقى الفولكلورية له علاقة أكيدة بعامل الزمن ، ذلك أن التعجيل فى جمع الألحان وتسجيلها ، يعتبر من الشروط الحاسمة فى الحصول على أكبر قدر من المواد الفولكلورية الحقيقية ، ذلك لأن التباطؤ والإهمال يؤديان إلى ضياع وزوال الألحان الأصيلة تدريجيا [1]، ذلك بالإضافة إلى التغيرات التى تطرأ على المجتمع وبالتالى على ثقافته الشعبية وإبداعاته .  

ومن هذا المنطلق ، نرى ضرورة البدء فى جمع ميدانى مضبط ، ووفق أهداف محددة  يقصد من ورائها توثيق عناصر الموسيقى الشعبية المصرية ، فى أنواعها ومستوياتها ، والآتها ، ومناسباتها ، ومناطقها المختلفة ، وأن يشكل هذا الجمع رافدا لأرشيف الفولكلور المصرى فى جانبه الموسيقى ، وهو ما يتيح هذه المادة  للباحثين والفنانين ، بل ويسمح بطرح نماذج ممثلة لهذه الموسيقى لتكون فى متناول يد المستمع العادى ، إذ إنه من المهم إدراك أهمية الاعتراف بوجود فروق بين الموسيقي المصرية فى مناطق مختلفة ثقافيا ، وضرورة أن يتعرف المستمع على هذه الموسيقى ، ولا تقتصر معرفته على الموسيقى الدارجة ، أو موسيقى المنطقة التى ينتمى إليها فقط .

أن طرح هذه المادة  الموسيقية الشعبية بشكل تجارى ، ومن خلال مؤسسة ثقافية متخصصة ، قد يمثل رافدا ماديا يمكن الاستفادة منه فى تطوير أدوات الجمع والبحث فى مراحل زمنية تالية ، بقصد تحديث مادة أرشيف الموسيقى الشعبية المصرية ، كما أنه من المهم الأشارة إلى ضرورة وجود موقع مختص بالموسيقى الشعبية المصرية بتجلياتها المختلفة على شبكة المعلومات الإلكترونية  ( الإنترنت ) . 

أطلس وأرشيف المأثورات الشعبية :

        تمثل أطالس الفولكلور أداة  علمية مهمة لعرض مختلف عناصر الثقافة الشعبية على خرائط توضح انتشار هذه العناصر على جرافية الوطن .

ومما لاشك فيه أن تجربة أطلس المأثورات الشعبية المصرية ، والتى  جاء صدور الجزء الأول منه ( أطلس الخبز )  باعثا على الأمل فى ترقب أطالس أخرى ، بينها  أطالس للموسيقى الشعبية المصرية وآلاتها .[2]

 ومما لا شك فيه أن عمليات الجمع التى تمت ، وتتم فى هذا الإطار سوف تشكل - أو يجب أن تشكل - نواة لأرشيف الموسيقى الشعبية المصرية ، فى ثوب حضارى يتيح لها حضورا ضمن وسائط حديثة متعددة ، صوتية ومرئية  وفى سياق أدائها الطبيعى ، ممثلة لكامل النسيج الثقافى لخارطة الوطن .

ويقودنا هذا بالضرورة إلى تكرار - لا نمله  - وهو حتمية وجود أرشيف فلكلورى ، يستوعب كافة عناصر المأثورات الشعبية ، وفق المعطيات التكنولوجية التى تتيحها الوسائط المتعددة ،  على أن يراعى التحديث المنظم والمنتظم لهذه المواد ، ويتم فرز هذه العناصر وتصنيفها ، تصنيفا أوليا تمهيدا لتحليلها وفق النظرة التخصصية المراد تعميقها .

ويجب أن  يتوافر عرض هذه المواد ليستفيد منها الباحث والفنان كل وفق احتياجه ، ووفق الشروط والضوابط التى تحفظ للجماعة الشعبية حقوقها الأدبية والمادية ، وبما يؤكد هوية هذه الثقافة  دون اغفال للتعاون العلمى بين الجهات الاقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك ، وعمل الخطط والبرامج التى من شأنها إعلاء قيمة هذه الثقافة ، والاستفادة منها فى خطط التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياحية والفنية ... الخ .

2 – المنهج أو الطريقة  الواجب اتباعها  لدارسة الموسيقى الشعبية :

إن هذا المنهج يقتضى  فرز المادة الموسيقية وفقا لمناسبات أدائها ، وموضوعاتها ، والمنطقة التى تنتمى اليها ، يلى ذلك التدوين الموسيقى ، الذى نؤكد على أنه ليس أداة للحفظ ، ولكنه بالدرجة الأولى مجرد أداة بحثية تتيح التحليل الموسيقى لهذه المدونات ، وصولا إلى الخصائص الموسيقية لهذه المواد الموسيقية الشعبية .

 هذا جانب ، أما الجانب الآخر -  وهو لايقل أهمية  -  فيرتبط بدارسة هذه المادة الموسيقية فى اطار السياق والنسق الاجتماعى الذى تصدر عنه وتؤدى فيه وفقا للأبعاد الجغرافية والتاريخية والاجتماعية والنفسية ، مع الاستفادة من المنجزات الفكرية فى جانب النظريات التى تهتم بتفسير وتحليل الثقافة الشعبية ، دون تعسف فى تطبيقها ، فى محاولة  لمعرفة القوانين التى تقف وراء  آليات الأداء والتلقى والتقاليد المرتبطة بهما .

ثالثا : وظيفة الموسيقى :

الوظيفة هى الدور الذى يؤديه العنصر الثقافى أو النظام الاجتماعى فى تدعيم العلاقات الاجتماعية وثباتها واستمرارها ، وكذلك مساعدة بقية النظم فى أداء عملها.

والوظيفة يؤديها عنصر ثقافى أو نظام إجتماعى، فى حين يؤدى الفرد دوراً إجتماعياً، والوظيفة فعل غير إرادى وغير مقصود أما الهدف فهو مقصــود وإرادى.

وعليه فحينما يكون هدف الأغانى هو التسرية أو الترويح تكون وظيفتها تقوية العلاقات وإزالة الاضطرابات والتوتر فى العلاقات الاجتماعية  [3]

وقد استقرت النظرية الوظيفية " Functionalism "  ورسخت كنزعة علمية قوية على مسرح الدراسات الأنثروبولوجية ، وأصبح مدلول كلمة الوظيفية يغطى فى وقت واحد الروابط القائمة بين العناصر الثقافية ، وكذلك المساهمة التى يقدمها جزء من الثقافة إلى تلك الثقافة ككل "[4] .

وقد اتسع مدلول الوظيفية عندما انتقلت إلي الفولكلور ، فأصبح الفولكلور الوظيفى     

 " هو دراسة الفولكلور طبقا للمنهجين الوظيفى والسوسيولوجى . functional Folklore "       

 ويرى فان جنب " أن الفولكلور يدرس الوقائع فى تفاعلها مع البيئات التي تطورت فيها " [5] ، فى حين نظر"  باسكوم  " إلى الفنون القولية " Verbal Arts  "  أنها على أنها التآلف الخلاق لمجتمع يقوم بوظائفه ، وعلى " عناصر دينامية وليست استاتيكية ، متكاملة وليست معزولة ، ذات مركزية وليست ثانوية[6].                          

ويسوق"  باسكوم " أربع وظائف للفلكلور هى :

-  الترويح عن النفس .

- تثبيت القيم الثقافية  .

- التعليم أو التلقين   .

- التلاؤم مع أنماط السلوك .

ووفقا لما أورده باسكوم من وظائف للفولكلور والتى تشكل الموسيقى عنصرا أساسيا من مكوناته ، فينبغى ألا ننظر إلى الوظيفة الأولى وهى الترويح على أنها التسرية والإمتاع ولاشىء آخر ، ذلك أن الفولكلور يكشف عن محاولة الإنسان للهرب فى الخيال من ضغوط الحياة ، سواء كانت تلك الضغوط جنسية أو غير ذلك .

وأما وظيفة المأثورات الشعبية فى تثبيت القيم الأخلاقية والاجتماعية والاعتقادية فينطبق عليها ما قاله مالينوفسكى من أن وظيفة الأساطير هى أن تدعم التقاليد والمورثات وتضفى عليها قيما أكبر ، ومكانة أرفع واسمى من الحقيقة .

أما وظيفة التعليم والتربية التى تؤديها المأثورات فهى أنها تلقن الجماعة الشعبية ما استقرت عليه تجربة الإنسان خلال أجيال ، من التمييز بين ما يحقق الخير وما يجلب الشر ، وتنبيه الإنسان إلى خصائص أشياء كثيرة يستعملها فى حياته ، وتدريب ملكاته على أن تكتسب تلك المعارف اللازمة ، والتى استخلصها الآباء والأجداد ، كما أن المأثورات الشعبية تثقف الإنسان الأمى بثقافة مجتمعه فى كل ناحية تقريبا ، وأما وظيفة المأثورات فى ملاءمة سلوك الإنسان فمعناها أن بعض هـذه المأثـورات ، تشكل ضاغطـا أخلاقيـا ، ووازعا سلوكيا ، يحد من انحراف السلوك ، والخروج على الأخلاق وتجاوز العرف .

وبالطبع فإن النهى والزجر والتوبيخ  –وهى قوة الردع التى يتوسل بها العرف الاجتماعى – يقابلها الترغيب وإبراز القيم الفاضلة والقدوة الحسنة .

ويرى الباحثون الآخذون بمناهج علم الفولكلور أن الوظائف التى تؤديها المأثورات الشعبية أكثر تنويعا وأشد تركيبا ، فالمأثور الواحد تتعدد وظائفه بحسب اختلاف مجالات استخدامه [7].

وللغة الموسيقية كثير من الوظائف البيولوجية ، والسيكولوجية ، والاجتماعية ، نكتفى بذكر عشر منها فى ضوء ما ذكره عالم الأنثروبولوجى " آلان مريامA.Merriam   " ، وهى كما يلى :

1- التعبير الانفعالى والعقلى : فالموسيقى وسيلة مهمة فى التعبير عن الانفعالات والتنفيس عنها ، وكذلك التعبير عن الأفكار وتجسيدها .

2- الاستمتاع الجمالى : فالخبرة الجمالية المصاحبة للموسيقى هى من أعمق الخبرات الجمالية الإنسانية .

3- الترفيه : حيث يشيع استخدام الموسيقى للتسلية والمتعة فى العديد من المجتمعات الإنسانية.

 4- التواصل أو التخاطب : وذلك باستخدام وسيلة أخرى غير اللغة للتخاطب ونقل الانفعالات داخل مجتمع بعينه ، أو عبر المجتمعات الإنسانية .

5- التمثيل الرمزى Symbolic Representation : حيث توجد بعض التعبيرات الرمزية فى النصوص المكتوبة للأغانى ، وبعضها الآخر فى المعانى الثقافية للأصوات ، وبعضها الثالث فى تلك الرمزية العميقة المرتبطة بالخبرة الإنسانية ، وتستخدم الموسيقى للتعبير عن كل هذه الجوانب وتجسيدها .

6- الاستجابة الجسدية : فاستخدام الموسيقى من أجل الرقص ، ومن أجل مصاحبة بعض النشاطات الجسمية العديدة كالألعاب الرياضية مثلا هو أمرٌ شائع عبر العالم .

7- لتأكيد الانصياع للمعايير الاجتماعية: حيث تستخدم الموسيقى فى بعض الثقافات مُصاحِبة لبعض التعليمات أو التحذيرات ، لتأكيد معايير اجتماعية معينة .

8- تستخدم الموسيقى بوصفها وسيلة للمساهمة فى استمرار الثقافة واستقرارها فقد تكون الموسيقى معبرة عن القيم الاجتماعية السائدة ، و ما يعترى هذه القيم من ثبات أو تغير أيضا .

9- مساعدة المؤسسات الاجتماعية والدينية على أداء دورها ، ويتجسد ذلك من خلال الاحتفالات الوطنية والمناسبات الدينية على نحو خاص .

10- المساهمة فى تكامل المجتمع ، فالموسيقى  وسيلة مناسبة لتجميع الناس معا من أجل تحقيق هدف اجتماعى أو وطنى أو ثقافى معين .

وهناك وظائف أخرى للموسيقى ، فهى تستخدم كخلفية صوتية فى المطارات والمطاعم ومحلات التسوق والمكاتب ، وخلال الاسترخاء ، أو مطالعة الدروس أو طهى الطعام ، وفى عيادات بعض الأطباء ، وغير ذلك من الواقع والمواقف[8].

رابعا :الدراسة التطبيقية :

نسوق ضمن هذه الدراسة نماذج مختلفة تشمل أغانى مناسبات الزواج فى الثقافة الريفية ، وكذلك فى الثقافة النوبية ، كما نعرض لأغانى السمر فى منطقة قناة السويس ، وماتنطق به هذه ا لنصوص من دلالات تعبر عن ثقافة هذه المجتمعات .

 حيث نشير إلى بعض التقاليد المرتبطة بأداء الغناء الفولكلورى فى جل أنواعه ، كذلك نلقى الضوء على الوظائف التى تؤديها الأغنية الشعبية  وفقا لما أورده " وليام باسكوم " من وظائف للفولكلور ،

أولا : تقاليد الأداء :  

ثمة تقاليد ، لا تخطئها ملاحظة الباحث المتمرس فى دراسة الموسيقى الشعبية المصرية ، ومن هذه التقاليد ما يتعلق ببداية أو استهلال الأداء ، حيث يتم ذكر الله والصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم ، ونجد  هذا التقليد حاضر أيضا فى استهلال الحكى " كان ياما كان ولا يحلى الكلام إلا بذكر النبى عليه الصلاة والسلام " .

ولعل السير الشعبية خير مثال على حضور هذا التقليد ، حيث يستهل شاعر السيرة الأداء بهذه الأبيات :

أول كلامى أذكر الله       إله ع الخلق راضى

رفع السما من فوق علاه        بإذنه هوه بسط الأراضى

وحلو النبى وحلو رجابيه    لا ما هو بدر البدوره

ومن يوم جبرائيل رجا بيه   من سابع سما فج نوره

صلى وسلم على اللى أودعته يامناه

وعاش النبى لم حلف يماين

وتأكيدا على رسوخ هذا التقليد نورد بعض الأمثلة من أغانى السمر فى منطقة قناة السويس ، حيث تتخذ الجوابات وهى الأغانى الاستهلالية فى احتفالية الضمة من الصلاة على النبى موضوعا أساسيا لها ، ومنها على سبيل المثال لا الحصر :

يا قلب صلي

على المصطفى

نبى الرسالة

نبى الرسالة يا عينى وبحر الوفا

اللهم صـلى

اللهم صلى وسلم وبارك عليه.

وثمة نموذج آخر :

والصلاه ع النبى يا جمع صلى

الصلاه ع النبى

والله صلاة النبى مكسبى

يا رب حجه ونزور النبى

والله نزوره ونشاهد نوره

عم يا شيخ الـعرب يا سيد

والله تجمعنى  على محبوبى

والله لو جانى محبوبى الليلة

والله لأعمله  ع الصرة جنينه

والله وأقوله  سلامات م الغيبة

قولوا يا دايم  الله يا دايم[9]

كما نجد هذا التقليد كذلك فى أغانى الأفراح الشعبية ، وخاصة فى استهلال أغانى الزفة ، والتى تؤدى تبادليا بين مغن منفرد وبين المجموعة ، ومنها هذا النص :

صلى صلى ع النبى صلى

واللى ما يصلى أمه يهوديه أبوه أرمنلى .

ثانيا : وظيفة الأغنية الشعبية فى الأفراح :

يذهب البعض إلى أن النتائج الاجتماعية للنشاط الموسيقى تكتسب أهمية الموسيقى نفسها ، فالنشاط الموسيقى هو الأساس لبناء شبكة من العلاقات الاجتماعية، ولعل من أظهر وظائف الأغنية هو الاحتفال بالزواج باعتباره الإشهار الفعلى على أهم رابطة اجتماعية إنسانية .

 وقد حدد "ويليام باسكوم" - كما أشرنا سلفا - أربع وظائف للفولكلور ، طرحها على النحو التالى :

 1 - الترويـــح                 2- إثبات شرعية الثقافة

  3- التربيــــة                4- الضبط الاجتماعى

وقد رأى " باسكوم " أنه لا يمكن الإنكار بأن التراث الشعبى أحد أشكال الترويح ، وبالتالى فإن الترويح هو إحدى وظائف الفولكلور الهامة ، وإن كان ليس الوظيفة الوحيدة وإنما يكمن وراءه وظائف أخرى أكثر عمقاً ،  وهو ما يتجلى واضحا فى أغنيات الزواج وخصوصا فى أغانى مناسبة الدخلة حيث تفوح من نصوص أغانى تلك المناسبة رائحة الجنس،  وما تحفل به هذه الليلة من ممارسات .

ومن اللافت أن أغانى مناسبة الدخلة تفوح برائحة جنسية نفاذة "وتتخطى حدود العرف الأخلاقى وتغرق فى الاهتمام بالناحية الجنسية ومظاهر الاشتهاء الجنسى العارم ، فلا يكون ثمة مجال لإنكار الحقيقة الواقعة وهى أن الزواج فى المفهوم الشعبى استغراق فى اللذة على الأقل فى فترته الأولى" [10]، وهو ما تفصح عنه نصوص الأغنيات الآتية ، والتى تؤديها النساء سيدات وفتيات .

ع السرير الهيلا هوب

يا عروسة إدينى بوسه

يا عريس قلبى بيطب .

وكذلك هذه الأغنية :

الواد أبو طبنجة.. البوسة منه مانجة .

وأيضا :

يا حلاوة على قمع البامية

أمك تطبخ وأختك تطبخ

وأنا على حجرك نايمة

يا حلاوة على قمع الكوسة

أمك تطبخ وأختك تطبخ

وأنا على قد البوسه .

وثمة نموذج آخر :

العسل النحل

حاسب على بطنى وإنت نازل تحت يم العسل النحل

حاسب على صدرى وإنت نازل تحت يم العسل النحل.... الخ

ولا يخلو هذا النمط من مشاركة الشباب ، فيدلون بدلوهم ، ولكن دون اختلاط بالنساء ومن أغانيهم :

يا هوه .. الوله أهوه

صاحب الفرح قلبه إنشرح

صاحب الفلوس يحضن ويبوس

وكذلك :

ع العجلة  هيه وخاطبها هيه بالفستان اللبنى

أول ما دخل دخل السرير أكلها الفطير وأتآكل على الله .. الخ .

        وهكذا وإضافة إلى كون أغانى الأفراح ذات وظيفة ترويحية فإنها تحمل فى طياتها وظائف أخرى.

        ويرى "باسكوم" أن الفولكلور يكشف عن هروب الإنسان- ولو واهماً- من الضغوط الجنسية والعقلية الواقعة عليه من المجتمع، وأيضا هروبه- ولو واهماً- من حدود بيئته الجغرافية ومن حدوده البيولوجية .[11]

        وبالنظر إلى ظاهرة الزواج عموماً وأغانى مناسبات الزواج بشكل خاص نجد أنها تلعب دوراً ترويحياً بما تجلبه من إدخال للسرور والبهجة إلى أهل وأقارب وجيران العروسين وذلك من خلال المشاركة سواء بالغناء أو الرقص أو الاستماع أو التواجد في سياق الظاهرة بمراحلها المختلفة وبما تحتويه الظاهرة من تزيين وغناء وموسيقى بل وحفاوة وكرماً يحوط به أهل الفرح مدعويهم .

        ويبدو هذا واضحاً في النصوص التى تؤدى في مناسبات الزواج المختلفة ،  فمثلا هذا النص الغنائى يدعو ويحـفـّز المشاركات للغناء .

دحنا اخواتها يا بنات غنولها

        وهذا نص آخر يرحب بالضيوف:

يا مرحبا بضيوفنا اللى جونا ...   حصلت لنا البركة وآنستونا

        أما الوظيفة الثانية التى تناولها باسكوم فقد قصد به الدور الذى يلعبه التراث في تأكيد ودعم الثقافة وضبط طقوس ونظم أولئك الذين يتداولون التراث، وتلعب الأغنية الشعبية دوراً هاماً في تدعيم ثقافة المجتمع وتبرير أنماط السلوك التى يحتفى بها أو يستنكرها وتدعوا إلى احترام تقاليده ومعتقداته وبنائه الاجتماعى بصفة عامة [12].

        الوظيفة الثالثة التى يذكرها "باسكوم" هى التربية وخاصة في المجتمعات الأمية. ونجد في أغانى الزواج أموراً عدة ترتبط بالتربية حيث تحث الأغانى الزوجات على احترام العريس والحث على مكارم الأخلاق وضرورة العمل بشكل إيجابى في الحياة الجديدة التى تدخلها العروس. كما تهتم الأغانى بإعداد البنات وتهيئتهم للزواج ، وتقوم الأغانى في المجتمعات الشعبية بدور كبير في تعليم أفراد المجتمع وتهذيبهم.

فهناك الأغانى التى تقال للأطفال لتعليمهم المشى وهدهدتهم وبعث السرور إلى نفوسهم وترقيصهم، ويستخدم الأطفال هذه الأغانى في ألعابهم ولتنظيم حركتهم ولإختيار من يقع عليه الدور في اللعب أو في البحث عن رفاق اللعب "لعبة الاستغماية مثلاً".

        وأخيراً يأتى دور التراث الشعبى في الضبط الاجتماعى وهى الوظيفة الرابعة التى حددها "باسكوم" والتى أشار إلى اتصالها بالوظيفتين السابقتين - إثبات شرعية الثقافة والتربية - إلا أنها تختلف عنهما ليس فقط في كونها موجهة إلى البالغين وكبار السن ولكن لكونها تعمل ضد الأفراد الذين ينحرفون عن الأوضاع المألوفة.

        ويشير باسكوم إلى اختلاف وظيفة كل من الأسطورة والراوية والمثل والفزورة والأغنية ومختلف عناصر التراث الأخرى مما يدعو إلى دراسة كل منها على حدة [13].

ومثال ذلك فالأغنية تنقسم إلى أغان للحب وأخرى للحرب وأغانى عمل وغير ذلك ، بل أننا نجد من خلال دراستنا لأغانى الزواج اختلاف وظيفة الأغانى باختلاف المناسبة التى تصاحبها في سياق الظاهرة الواحدة. فأغانى الخطبة غير أغانى الشبكة غير أغانى عقد القران غير أغانى نقل الجهاز غير أغانى الدخلة والزفة والصباحية ، ونلمح فى كل منها ملامح خاصة تميزها عن الأخرى فى الشكل والوظيفة.

        إن الوظائف السابق ذكرها يمكن أن توضع في إطار وظيفة واحدة هى المحافظة على ثبات الثقافة واستقرارها ورسوخها وتعميقها في نفس الأفراد، فالأغانى تقوم داخل المجتمع على ضمان اتساق الأفراد وتناغمهم مع البناء الثقافى للمجتمع وضمان استمرار المحافظة على هذا البناء جيلاً بعد جيل من خلال الدور الذى تقوم به في التعلم والتوجيه والمقدرة على تقديم صورة حقيقية لهذا البناء الثقافى.

 وهكذا تؤدى أغانى الزواج دوراً وظيفياً بما تحتويه من عناصر ثقافية يتمثل فى :

- إضفاء جانب جمالى يخلع على المناسبة جواً من البهجة والسرور ويشارك فى تكوين وترسيخ الحس الفنى للجماعة، فالمناسبة الاحتفالية تمثل مناخاً مناسباً لانتقال المادة الفنية الغنائية من جيل إلى جيل مشافهة وذلك من خلال المشاركة فى الأداء، كما أنها تؤكد على قيم فنية بعينها من خلال الشكل الموسيقى الذى تتبناه وهو شكل يؤكد على جماعية الأداء وانصهار الجماعة فى بوتقة واحدة.

-تأصيل وإبراز قيم المجتمع وذلك برسم النموذج الذى تتبناه الجماعة فيما يتعلق بصفات الحسن المثالية التى تحتفل بها، وكذا الصفات الخلقية التى يتصف بها هذا النموذج .

ويلعب البعد الاقتصادى دوراً بارزاً فى شكل الظاهرة فى جوانبها الاحتفالية حيث  تميل الطبقات الغنية إلى اجتذاب فرق وفنانين من المدينة من ذوى الشهرة الإعلامية مما يؤثر فى تغير الشكل الاحتفالى للظاهرة  ويسهم فى إدخال عناصر جديدة كما أن نقل الاحتفالية من القرى إلى الأندية وصالات الأفراح فى المدينة له أثر سلبى فى نماء الأغنية الشعبية حيث يتقلص دور الجماعة الشعبية وينحصر فى دور المتلقى السلبى فى حين نجد أن إقامة الاحتفالية فى القرية يسهم فى اضطلاع الجماعة بدورها الأدائى وهو ما يسهم بشكل فعال فى إثراء المادة الإبداعية وانتقالها من جيل إلى جيل. ويتضح البعد الطبقى بشكل أكثر وضوحاً فى جانب العادات والتقاليد وذلك من حيث التكاليف المادية فيما يتعلق بجهاز العروس كمّا ونوعاً. وكذا قيمة النقوط الذى يقدم للعروسين وما يقام من زينات وولائم.

        وتفصح نصوص الأغانى على أهمية البعد الاقتصادى فى عملية الزواج ومن هذه النصوص :

ما خدتها يا للى إنت قد شراها

حط الألف وخدها .. روّح يا أبو مية

        كذلك تبرز نصوص الأغانى أهمية الوضع الاجتماعى وتركز عليه وهو ما يتضح فى هذه النصوص :

أوعى له يا بت أوعى له .. الظابط يبقى عديله

أوعى لها يا واد أوعى لها .. دا العمدة يبقى خالها ..... الخ

 

أغانى الحنة فى النوبة :

وثمة أغنيات للزواج فى المجتمع النوبى ارتبطت بمناسبة " ليلتى الحنة والدخلة " حيث يتم تخضيب كل من العريس والعروس بالحناء ، وقد كانت الاحتفالية بمثابة مراسم لنقل الملكية للعريس ، حيث تخضع هذه الأغانى إلى تقاليد صارمة فى الأداء ، فلا يتصدى لأدائها إلا السيدات كبار السن ممن يحفظن نصوص مجموعات تلك الأغنيات ، ويكن على علم ودراية بحدود وأملاك العائلات وأنسابها ، ويسمح فى هذا النوع دون غيرة من الغناء بالمقاطعة لتصحيح خطأ فى المعلومات قد يقع ممن يقمن بالغناء ، وينفرد هذا النوع من الغناء - دون باقى أنواع الغناء النوبى – بعدم مصاحبة الآت موسيقية أو تصفيق له ، كما أن الزغاريد التى تنطلق بين حين وحين لها دلالات محددة ، فهى تنطلق من أحد الموجودات عند ورود اسم أحد الأشخاص فى الغناء كنوع من التحية والاحتفاء ، أما عندما تقوم المغنية ذاتها بأداء الزغرودة فهذا إيذان بانتهاء غناؤها وانتقاله إلى واحدة أخرى .

وقد كانت أغانى تخضيب العروسين ونحر الذبائح نمط مهم ومتميز من أنماط الغناء النوبى ، ينفرد بأدء وظيفة اجتماعية مهمة ومحددة ، وهى نقل الملكية للعريس من قبل أقاربه وقريباته على سبيل الهبة ، وكان يتخصص بأداء هذا النوع من الغناء السيدات كبار السن ممن لهن علم بحدود العائلات وأملاكها وأنسابها ، إلا أن التهجير قد أفرغ تلك الأغنيات من وظيفتها ومضمونها ، وأصبحت الآن مجرد شكل من أشكال السجال الغنائى ، لايلتزم فيه بحدود المناسبة ، وتؤديه من تتوسم فى نفسها حلاوة الصوت ، دون علم لها أنساب أوحدود أو أملاك .  

أغانى ليلة الحنة فى الثقافة الريفية المصرية :

وتحفل مناسبة الحنة بالكثير من الأغنيات والعادات التى تحمل قيم الثقافة الريفية المصرية ، ومن هذه العادات (النقطة) أو (النقوط)، وهى عادة مرعية فى حفلات الزواج، وهى تثبت أصالة العادات والتقاليد وتكاملها لأن لفظ النقطة كان يدل قديماً على أول نقطة ماء تنزل من الأمطار ثم أصبح لها معنى آخر هو المال الذى يمنح على سبيل الهبة للعروسين أو المغنيات والراقصات.  

وكانت العادة أن يوضع منديل فى حجر العروس ويضع المدعون بعض الهبات فيه كل على قدر استطاعته. والنقطة ليست مجرد هبة نقدية ،فقد جرت العادة على أن تسجَل أسماء الأفراد وقيمة ما يقومون بدفعه حتى تتاح مناسبة مماثلة لردها، ولا تزال هذه  العادة قائمة حتى الآن فى الريف المصرى .

ومن أغانى هذه المناسبة ، ما يعبر عن انشغال العريس ، وذهابه إلى المدن القريبة لإستكمال ما تبقى من حاجياته ، ولعل هذه الأغنية تعبر عن هذا المعنى :

ناقش كفه يا اخوانه
ناقش كفه فى الحنة
 ولقيته رايح الزقازيق     ولقيته جاى من الزقازيق

والجزمة بتزيّق زيق        حددته لم بل الريـــق

رد حمام البنى يغنـى       ناقش كفه يا اخوانــه

<p st

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,834,221